رام الله: صدر حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" العدد 63 من فصلية "قضايا إسرائيلية"، ضم محوراً خاصاً وموسعاً تحت عنوان "الفكر الخلاصي للصهيونية"، يعالج المناخ الفكري الذي نشأت فيه الصهيونية، ويضيء على المشترك والمختلف بينها وبين حركات كولونيالية قومية أُخرى نشأت في تلك الفترة، وخاصية الفكر الخلاصي في الفكر الصهيوني، ومدى ارتباط المشروع القومي بالكولونيالية والدين.
ويركز المحور على التجليات العملية للخلاصية عبر الإطلال على الشراكة المتنامية بين اليمين الإسرائيلي والحركات المسيائية، واتكاء إحداهما على الأُخرى، إلى جانب موقع التغيرات في القدس المحتلة من المستجدات الفكرية الغيبية.
يبدأ المحور بمقال لكريستوف شميدت يركز على الفكر الخلاصي الأوروبي في عصر التنوير في أوروبا، ابتداءً من كانط وانتهاء بهيرمان كوهين في بداية القرن العشرين.
ويشير شميدت إلى أن "الفكر التنويري العقلاني رأى في مشروعه التحرري تحققاً لملكوت الله على الأرض، والذي وصل ذروة تجليه لدى شليغل والشاعر هينريش هاينه"، كما يميز بين نوعين من الفكر الخلاصي: نوعٍ منكفئ على ذاته يرى أن الخلاص هو مشروع لمجموعة قومية، ونوعٍ يرنو إلى الخلاص الإنساني برمته.
ويضع مقال شميدت الصهيونية ضمن سياق تاريخي، لكن من الواضح أن هذا السياق ليس هو السياق الوحيد المؤثر، إذ من الضروري قراءة السياق القومي- الإثني في شرق أوروبا والسياق الكولونيالي.
أما نبيه بشير فيقدم قراءة لسياق آخر: سياق التراث الديني اليهودي، والذي شكل المادة المعرفية التراثية والوجدانية التي شكلت الأرضيةَ للفكر الصهيوني داخل اليهودية نفسها. يحلل بشير المصطلحات الأساسية التي تشير إلى فكرة الخلاص مثل: غئولاه، فدوت، يشوعاه. ويشير إلى وجود تيارين في كل ما يتعلق بالخلاص: تيار يرى الخلاص عمليةً إلهية محضة لا دورَ فيها للإنسان سوى الانتظار والابتهال والرب وحده يديرها بمشيئته، أما التيار الآخر - والذي يعتبر تياراً ثورياً- فإنه يرى أن هناك دوراً للإنسان في تقريب الخلاص من خلال أعمال يقوم بها البشر.
إذا كانت مقالة شميدت تقدم الخلفية الأوروبية، فإن مقالة بشير تقدم الخلفية الدينية اليهودية الضرورية لفهم الطابَع المسياني في الصهيونية.
وفي العدد مقالٌ لإلعاد لابيدوت يتناول التوتر الدائم بين الفكرة المسيانية في الدين اليهودي التلمودي وبين الفكرة الخلاصية في الصهيونية. يركز الكاتب على جوهر الفكر الخلاصي الديني اليهودي باعتباره حضوراً للغياب: غياب المسيح المنتظر. إلا أن هذا المسيح ليس غائباً بالمطلق لأننا في حالة انتظار وتوق إليه، وبالتالي فإن غيابه دائم الحضور، مع أنه لا يتحول إلى جسم فعلي، ويرى الكاتب أن هذا هو جوهر التوتر: بين المسيح كفكرة وبين المسيح كاسم علم- كتجسد مادي. ويشير لابيدوت أن الفكر الصهيوني الذي يبدو كأنه فكر علماني، وكأنه معارض للفكر الخلاصي، فإنه في جوهره فكر خلاصي محض، ويعتبر أن الخلاص قد حصل مع إقامة دولة إسرائيل.
أما مقالة تومر فرسيكو فإنها تحلل الجذور الفكرية والتاريخية لحركة غوش ايمونيم، وأفكار الحاخام كوك، والذي أصبحت أفكارُه الموجّهَ الرئيسي للحركة. قدم الحاخام كوك قراءة هيغلية لعلاقة الفكرة الخلاصية في التراث الديني اليهودي بالإنجازات المادية والعسكرية الصهيونية، إذ تبدو الأخيرة كأنها حلقة في المسلسل التاريخي الديني. بموجب هذه القراءة فإن مكر التاريخ قد وظّف الصهاينة الملحدين لإقامة إسرائيل واحتلال بقية فلسطين باعتبار أن الصهيونية هي أداة بيد المشروع الخلاصي الديني. لكن هؤلاء الكفرة الصهاينة سوف يعودون للدين والرب بعد قيامهم بدورهم التاريخي هذا. وبموجب فرسيكو، فعلى الرغم من أن غوش ايمونيم أثرت أبعد تأثير في كل ما يتعلق بموضوع الاستيطان وتثبيت الاحتلال، إلا أنها فشلت في إحداث تحول ديني داخل المجتمع اليهودي الإسرائيلي.
أما هيلل ساسون فإنه يأخذ قضية "جبل الهيكل" كقضية محك أساسية وكعلامة فارقة في الفكر والممارسة الصهيونية، وتساءل فيما إذا كانت هناك قوى قادرة على تحقيق هذا الفصل بين الجانب الحياتي وبين الجانب الخلاصي في الصهيونية، ويشير الكاتب إلى أنه في حال حدوث تحول من هذا النوع، فإن له إسقاطاتٍ بعيدةَ المدى وبدائع لعلاقة جديدة بين الشعبين.
كما يحوي المحور مقابلةً مع المؤرخ أمنون راز- كاركوتسكين الخبير في قضايا التاريخ اليهودي وتاريخ الصهيونية وحاوره الطيب غنايم. كما يحوي كذلك مراجعة لكتاب قامت بها مرح خليفة بإشراف الاستاذ نبيه بشير تتناول الفكر الخلاصي.
وإلى جانب ملف "الفكر الخلاصي في الصهيونية"، يضم العدد مجموعة تقارير وتغطيات حول المستجدات الآنية في المشهد الاسرائيلي، منها تقرير بعنوان التحكّم بـ "مجموعات الخطر": من ممارسات الطوارئ الكولونيالية إلى قوانين مكافحة الإرهاب في الهند وإسرائيل" لياعيل بيردا، يشرح كيف يجسد مشروع قانون مكافحة الإرهاب في إسرائيل، بالذات، موروث الطوارئ الاستعماري البريطاني ويكرّس العلاقة المثلثة التي تقيمها الدولة، بوسائل بيروقراطية، بين الأمن، الهوية والولاء.
وتتقصّد مثل هذه القراءة لمشروع القانون قيد البحث لفت الانتباه إلى الجذور الكولونيالية لهذا التشريع الجديد، من خلال مقارنة بين الهند وإسرائيل (منطقتان كانتا في الماضي خاضعتين لسيطرة الامبراطورية البريطانية، استخدُمت في كلتيهما، على نحو واسع جداً، أنظمة الطوارئ التي وضعتها السلطة الاستعمارية).