القنبلة السياسية التي ألقاها رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قبيل صعوده إلى الطائرة التي أقلته إلى الصين مساء يوم السبت الأخير، والتي أدخلت الحلبة السياسية ـ الحزبية الإسرائيلية في حالة ضغط شديد تحسباً من معركة انتخابية جديدة يبدو أن الأحزاب جميعها، تقريبا، غير معنية بها الآن (لحسابات انتخابية تتصل بقوتها وباحتمالات الكسب الانتخابي، لا لحسابات سياسية وطنية!) – هذه القنبلة في طريقها إلى التفكيك، كما يبدو وكما يرجح عدد كبير من المعنيين والمراقبين، السياسيين والصحافيين، في إسرائيل.
الحقيقة، أن نتنياهو أثبت من قبل وفي غير مناسبة و"أزمة"، أنه "ثعلب حزبي ـ سياسي" يجيد المناورة واللعب "على الحافة" في الحلبة السياسيةـ الحزبية الداخلية، وخصوصا مقابل قادة أحزاب سياسية لم يثبتوا امتلاكهم قدرا كافيا من المراس السياسي ـ الحزبي يؤهلهم لكشف ألاعبيه وإحباط مناوراته.
ففي خطوة يبدو أنها محسوبة تماما، بل يبدو أنها حلقة في سلسلة خطوات مخططة سلفاً، لم يجد نتنياهو أي حرج في إصدار "بيان رسمي" (!) نشره على صفحته الخاصة على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) أعلن فيه تراجعه عن الاتفاق الذي كان قد توصل إليه قبل ذلك بـ 48 ساعة فقط (مساء الخميس الماضي) مع وزير ماليته، موشيه كحلون، بشأن مستقبل "هيئة البث العام" الجديدة، مرفقاً ذلك بتهديد صريح باستقالة الحكومة وتبكير موعد الانتخابات البرلمانية إذا ما واصل كحلون معارضته لإغلاق "هيئة البث"، خلافاً لرغبة نتنياهو وموقفه.
لم يراعِ نتنياهو أياً من أصول الزمالة وأعراف "القيادة المشتركة" و"المسؤولية الجماعية" حين ذكّر، قبل صعوده درجات الطائرة مساء السبت، وزير ماليته الحالي، كحلون، بأنه قدم استقالة حكومته السابقة وبكّر موعد الانتخابات على خلفية خلاف مع وزير ماليته آنذاك، يائير لبيد، حول نسبة ضريبة القيمة المضافة.
وقبل ذلك ببضع ساعات، عقد نتنياهو جلسة تشاورية مع عدد من وزراء حزبه (الليكود) حول الموضوع، خرج في نهايتها مهدداً: "إذا لم نتوصل إلى اتفاق مع كحلون فنحن ذاهبون إلى انتخابات جديدة"! وقال: "بعد الانتخابات، سيُمحى كحلون (عن الخارطة السياسية ـ الحزبية) وعندئذ سأسنّ قانوناً لإغلاق هيئة البث"!
والاتفاق الذي كان توصل إليه نتنياهو مع كحلون قضى بتخلي نتنياهو عن معارضته لـ"هيئة البث العام" الجديدة والتوقف عن محاولاته لإغلاقها وتفكيكها ومنع إطلاق بثها، حتى قبل بدئه (وهو المقرر أن يحدث، حسب القانون، في 30 نيسان القريب)، مقابل التزام كحلون وحزبه (كولانو) بتأييد مشروع القانون الذي يضمن سيطرة الحكومة ورقابتها المشددة على وسائل الإعلام في البلاد.
"هيئة البث" ومخطط السيطرة على وسائل الإعلام
نتنياهو، الذي يشن حرباً لا هوادة فيها الآن، ضد "هيئة البث العام" الجديدة ويستميت لإغلاقها حتى قبل أن تنطلق، هو الذي أقامها، من خلال قانون خاص سنّه الكنيست في دورته السابقة، كان ثمرة اتفاق وتعاون وثيقين حول الموضوع بين نتنياهو نفسه ووزير الاتصالات في حكومته السابقة، غلعاد إردان. لكنه يريد إغلاقها اليوم بزعم أنها "هيئة بث يسارية" وبأن "غالبية المسؤولين والصحافيين فيها هم من اليساريين"!
وطبقا للقانون إياه، تأتي "هيئة البث العام" الجديدة هذه لتحل مكان "سلطة البث" القائمة في إسرائيل منذ أواسط الخمسينيات (القناة التلفزيونية الأولى وعدد من الموجات الإذاعية)، إذ سيجري إغلاقها وتسريح طواقم العاملين فيها (بعضهم سينتقل إلى العمل في "هيئة البث العام" الجديدة).
و"سلطة البث" هذه التي يتغنى نتنياهو اليوم بحقوق العاملين فيها ويرفع لواء حمايتها ومنع إغلاقها وضمان بقائها، مع تنفيذ "خطة إصلاحية" فيها، هي نفسها التي لم يأل نتنياهو جهدا في محاولات إغلاقها، وهو الذي كان وصف الصحافيين العاملين فيها بأنهم "حماسيون" ("أتباع حماس"!!).
هذا هو همّ نتنياهو وهذا هو هاجسه: إسكات أية أصوات انتقادية له، سياسيا أو شخصيا، أو لأي من أفراد عائلته (وخصوصا زوجته وابنه البكر، يائير، وتدخلاتهما الواسعة في إدارة أمور الدولة)، وهو ما يدفعه إلى محاولة السيطرة، بأوسع وأعمق ما أمكن، على وسائل الإعلام في إسرائيل. هذا ما يحرّكه وهذا ما ورطه ويورطه، مرات كثيرة، في صدامات شخصية مع صحافيين شنّ عليهم هجومات شخصية حادة، وهذا ما ورطه في قضية الاتصالات السرية مع مالك صحيفة "يديعوت أحرونوت" وموقع "واي نت"، أرنون موزيس، والتي تواصل الشرطة تحقيقاتها الجنائية بشأنها.
لكن نتنياهو، الذي يشكل بسط سيطرته، الإدارية والسياسية، على وسائل الإعلام بأقصى قدر مستطاع، هدفه المركزي، أوكل عددا من أقرب مقربيه، وخاصة وزير السياحة، ياريف ليفين، ورئيس الائتلاف الحكومي، عضو الكنيست دافيد بيتان، لمواصلة معالجة الموضوع ومحاولة تفكيك قنبلته التهديدية التي خلقت حالة من الضغط الشديد لدى جميع الأحزاب السياسية، وخاصة المشارِكة في ائتلافه الحكومي وبضمنها حزب "الليكود" نفسه أيضا. وهذا ما عبّر عنه كثيرون من الوزراء وأعضاء الكنيست من هذه الأحزاب، معلنين رفضهم تبكير موعد الانتخابات الآن.
وحيال حالة الضغط هذه، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، أمس الاثنين، أنباء عن اتصالات مكثفة جرت وتجري بين الأطراف المعنية لحل "أزمة" الائتلاف الحكومي الجديدة بشأن "هيئة البث العام" بحيث يتم درء خطر تبكير موعد الانتخابات البرلمانية.
وتحدثت هذه الأنباء عن تسوية يجري العمل حثيثاً على صياغة بنودها، من خلال محادثات يشارك فيها ممثلون عن نتنياهو وممثلون عن كحلون، على أن يتم الانتهاء من إعدادها نهائيا حتى يوم غد الأربعاء، موعد عودة نتنياهو من الصين.
تسوية تضمن لنتنياهو تحقيق مرادَه
ويستدل مما نشر عن بنود هذه التسوية، قيد الإعداد النهائي، أنها تحقق لرئيس الحكومة، نتنياهو، مبتغاه في ما يتعلق بتركيبة "هيئة البث العام"، وخاصة من حيث أعضاء إدارتها وطواقم العاملين فيها.
وقالت صحيفة "ذي ماركر" إن البنود المقترحة في هذه التسوية هي البنود نفسها التي وردت في مشروع قانون خاص يجري العمل على إعداده هذه الأيام في وزارة الاتصالات (التي يتولاها الآن الوزير تساحي هنغبي، بتوكيل مؤقت من نتنياهو نفسه). ويمنح مشروع القانون الجديد، الذي كشفت عنه "ذي ماركر" يوم 8 الجاري، المسؤولين السياسيين المباشرين، وخاصة وزير الاتصالات، صلاحيات واسعة جدا وغير مسبوقة في السيطرة السياسية والمراقبة الإدارية على وسائل إعلام مختلفة في إسرائيل، في مقدمتها بالطبع "هيئة البث العام" وإذاعة الجيش الإسرائيلي (غالي تساهل) وغيرهما.
وتشمل بنود التسوية، بصورة أساسية، عزل رؤساء "هيئة البث العام" الجديدة، وخاصة رئيس مجلس إدارتها، غيل عومر، ومديرها العام، إلداد كوبلنتس، وإخضاع "الهيئة" لمسؤولية ومراقبة "المستوى السياسي" بصورة مطلقة.
وكان نتنياهو طالب بعزل كوبلنتس وعومر بزعم أنهما "يساريان" وبتعيين ممثلين عنه مكانهما، إضافة إلى سن "قانون الاتصالات" الجديد الذي يعمق السيطرة والمراقبة على هيئات ومؤسسات البث الإلكتروني في البلاد.
في المقابل، من الواضح تماما أن وزير المالية، كحلون، وإنْ كان قد ردّ على تهديد نتنياهو بالقول إن "تبكير موعد الانتخابات لا يخيفنا"، إلا أنه يدرك تماما أن من شأن هذه الخطوة أن تخفيه تماما عن الحلبة السياسية في البلاد، وخصوصا على خلفية نكثه بتعهدات عديدة أطلقها عشية الانتخابات السابقة وتراجعه عنها أو عجزه عن تحقيقها (جراء معارضة نتنياهو لها)، وهو ما ينعكس في استطلاعات الرأي الأخيرة التي تُظهر تقدما كبيرا ليائير لبيد وحزب "يوجد مستقبل"، مقابل تراجع كبير وحاد للأحزاب الأخرى، وفي مقدمتها حزب كحلون نفسه (كولانو).
وحيال ذلك، أكدت الأنباء أن كحلون الذي شدد على موقفه المعارض لإغلاق "هيئة البث العام" ومنع إطلاق بثها في الموعد المقرر (30 نيسان القادم) لن يعارض عزل رؤساء هذه "الهيئة"، وخاصة عومر وكوبلنتس، علاوة على أنه كان قد أوضح من قبل أنه يؤيد "إقامة جسم إداري واحد لمراقبة البث ومؤسساته"، وهو ما يريده نتنياهو بالضبط.
وتشمل التسوية التي يجري إعدادها، أيضا، زيادة عدد عاملي "سلطة البث" الحالية الذين سيتم استيعابهم للعمل في "هيئة البث" الجديدة، علما بأن هؤلاء يكافحون من أجل ذلك وقد شددوا معركتهم هذه خلال الأيام القليلة الماضية، إذ ينظمون مظاهرات أمام منازل مسؤولين حكوميين ونقابيين مختلفين، كما اجتمع وفد عنهم مع رئيس الحكومة، نتنياهو، مساء يوم الجمعة الأخير. وهو الاجتماع الذي جيّره نتنياهو لإعلان تراجعه عن الاتفاق السابق مع كحلون، متباكياً على "مصير مئات العاملين المخلصين"!
المصطلحات المستخدمة:
يديعوت أحرونوت, الليكود, الكنيست, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, تساحي هنغبي, يائير لبيد