تتواصل تفاعلات القرار الأخير الذي توصل إليه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، مع رئيس نقابة العمال العامة (الهستدروت)، آفي نيسان كورن، والقاضي بتأجيل افتتاح "هيئة البث العامة" الجديدة في إسرائيل، وخاصة بعدما أعلن وزير المالية، موشيه كحلون، معارضته الشخصية الحازمة ومعارضة حزبه "كولانو (كلنا)" (بممثليه في الحكومة وفي الكنيست) لهذا التأجيل، لما فيه من "إهدار للمال العام".
كما أعلن وزراء آخرون، أيضا، معارضتهم هذا التأجيل، في مقدمتهم وزير التربية والتعليم، نفتالي بينيت، ووزيرة العدل، أييلت شاكيد (كلاهما من حزب "البيت اليهودي")، فضلا عن وزير الأمن الداخلي غلعاد إردان (الليكود)، الذي كان المبادر إلى سنّ قانون "هيئة البث العام" الجديدة إبان توليه منصب وزير الاتصالات في العام 2014 (في الحكومة الإسرائيلية رقم 33).
وحيال هذه المعارضة، يُخشى أن تتحول هذه القضية إلى كرة ثلج وأن تتطور إلى أزمة ائتلافية جديدة في إسرائيل.
وإلى جانب هذه المعارضة من داخل الحكومة، يلقى هذا التأجيل معارضة شديدة تكاد تكون شاملة من جانب أعضاء الكنيست من كتل حزبية اتهموا نتنياهو بالسعي من وراء هذا التأجيل المتكرر إلى "دفن البث العام نهائيا".
كما عارضته، أيضا، قطاعات واسعة جدا من العاملين في مجال الإذاعة والتلفزيون، الإعداد والتقديم والإنتاج، إذ تظاهر العشرات منهم أمام مكتب رئيس الهستدروت في تل أبيب معبرين عن معارضتهم التأجيل ومؤكدين أنه "يمسّ بمصادر رزقهم حدّ تعريضهم للبطالة والفقر والجوع". وصعد هؤلاء إلى الطابق العلوي حيث مكاتب رئيس الهستدروت وحاولوا اقتحامها، وحين تبين أنه غير متواجد فيها، أجروا اتصالا هاتفيا معه وطرحوا على مسامعه موقفهم المعارض لهذا التأجيل.
نتنياهو يفاجئ الجميع!
وكان رئيس الحكومة، نتنياهو، من خلال منصبه الآخر وزيراً للاتصالات، قد توصل في الخفاء وبسريّة تامة إلى اتفاق مع رئيس الهستدروت، نيسان كورن، يقضي بتأجيل افتتاح "هيئة البث العامة" الجديدة إلى بداية العام 2018، وليس إلى بداية تشرين الأول القريب (2016)، كما كان مقررا من قبل. ويعني هذا القرار، أيضا، تأجيل إغلاق "سلطة البث" الحالية (المسؤولة عن البث في القناة التلفزيونية الأولى والقنوات الإذاعية الرسمية، وفي مقدمتها القناة الإخبارية "ريشت ب").
وهكذا، في خطوة مفاجئة وصادمة للجميع على الإطلاق، أوكل نتنياهو لنيسان كورن مهمة الإعلان عن هذا الاتفاق وكأنه توصل إليه مع مدير عام وزارة الاتصالات، شلومو فيلبر، التي يقف على رأسها نتنياهو نفسه، كما ذكرنا. وبرّر نيسان كورن هذا القرار بالقول، مساء يوم الإثنين 18 تموز، إن "البث العام البديل من خلال الهيئة الجديدة ليس جاهزا بعد. وحرصاً على عدم حصول أي انقطاع في البث العام، بل إنتاج بث عام متواصل وكامل، سيتم تأجيل إغلاق سلطة البث".
وفور إعلان هذا القرار، الذي وُصف بأنه "دراماتيكي"، أعلنت وزارة الاتصالات أنها بدأت بتوزيع مسودة التعديل المقترح على "قانون هيئة البث العام" على الوزارات الحكومية المختلفة. ويقضي التعديل بتأجيل موعد البدء بتشغيل هيئة البث العام الجديدة من 30 أيلول 2016 إلى مطلع كانون الثاني 2018 ـ أي تأجيل مدته 15 شهراً. وسيُعرض تعديل القانون هذا على اللجان البرلمانية المختصة خلال الأيام القليلة الجارية ليتم إعداده للقراءات اللازمة في الهيئة العامة للكنيست.
وعلم أن عضو الكنيست نحمان شاي ("المعسكر الصهيوني") قدّم في هذه الأثناء مشروع قانون مضاد يقضي بتأجيل افتتاح "هيئة البث" لمدة ستة أشهر فقط.
ومما زاد من حجم المفاجأة والصدمة الناجمتين عن قرار نتنياهو هذا، أن رؤساء "هيئة البث العام" الجديدة ومديريها يؤكدون عكس ما ادعاه نيسان كورن تماما ـ أن هذه "الهيئة" ستكون جاهزة تماما لإطلاق البث العام الجديد في إسرائيل مع حلول تشرين الأول 2016. وهو ما يدحض قول نتنياهو نفسه في الكنيست، قبل ساعات قليلة من إعلان نيسان كورن، بأن "هيئة البث العام لا تلتزم بالجدول الزمني المقرر"!
وهذا الادعاء رفضه، أيضا، عدد من الصحافيين، من مؤسسات إعلامية مختلفة، تعاقدوا مع هيئة البث العام الجديدة للانضمام إليها والانخراط في العمل فيها. وأكد هؤلاء أن هيئة البث الجديدة ستجد صعوبة فائقة منذ الآن في تجنيد صحافيين آخرين، وذلك على ضوء الغموض الكبير الذي أصبح يكتنف مصير البث العام الجديد.
كما حاول نتنياهو العزف على "الوتر الوطني"، فتطرق إلى نية هيئة البث العام إطلاق بثها من مدينة موديعين وليس من مدينة القدس، وقال: "صوت إسرائيل من القدس سيكون من القدس وليس من أي مكان آخر. إنها قيمة عليا بالنسبة لنا"!
السبب الحقيقي وراء هذه الخطوة
يجمع كثيرون جدا من المتابعين المعنيين بموضوع البث العام في إسرائيل، من سياسيين وصحافيين ومحللين، على أن السبب الحقيقي وراء خطوة نتنياهو تأجيل إطلاق البث العام في إسرائيل (وإغلاق "سلطة البث"، بالتوازي والتزامن) لهذه الفترة الطويلة جدا، نسبيا، بعيد جدا عن السبب الذي عرضه هو ورئيس الهستدروت ("عدم استعداد هيئة البث العام الجديدة وعدم التزامها بالجدول الزمني") والذي يرفضه مسؤولو "هيئة البث العام" جملة وتفصيلاً.
وتجمع التقديرات على أن نتنياهو يريد، من وراء هذه الخطوة، دفن مبادرة هيئة البث العام الجديدة، التي تتعزز قناعته يوما بعد يوم بأنها ستكون عقبة كبيرة أمام مسعاه للسيطرة على وسائل الإعلام في إسرائيل. فمنذ سنة، تقريبا، أصبح من الواضح تماما أن نتنياهو، وخاصة بواسطة الوزير المفوّض على "سلطة البث" (القديمة)، أوفير أكونيس، يحاول إجهاض الإصلاحات في "سلطة البث".
وسيتيح التأجيل الجديد لنتنياهو إسكات البث العام تماما. فسلطة البث (القديمة) تعيش أزمة خانقة وحالة احتضار، بينما سيف هيئة البث (الجديدة) مسلط على رقبتها وسيبقى كذلك حتى إطلاق البث العام الجديد. هذا من ناحية أولى. ومن ناحية ثانية، تقف هيئة البث مع موعد محدد لإطلاق البث العام، موعد بعيد لكنه غير مضمون، يجعل من الصعب عليها جدا تجنيد صحافيين وقوى بشرية مختلفة جيدة، وهو ما لم تنجح فيه بصورة مثيرة حتى الآن، إذ استطاعت تجنيد نحو 220 عاملاً من أصل 850 تسعى إلى تجنيدهم، بل قد لا تصل مسيرة إقامتها إلى نهايتها، مطلقا.
هيئة البث العام الجديدة
تأسس التلفزيون الإسرائيلي في العام 1968، كجزء من "سلطة البث" (راديو وتلفزيون) التي أقيمت بموجب "قانون سلطة البث" الذي سنّه الكنيست في العام 1965.
أما "هيئة البث" فقد وُلدت في العام 2015، بموجب "قانون البث العام في إسرائيل" الذي سنه الكنيست في العام 2014 ونشر في الجريدة الرسمية يوم 11/8/2014. وكان الهدف استبدال "سلطة البث" القائمة بإغلاقها وإلغائها، بعد سنوات من العمل وبعد تراكم تقارير عديدة واتهامات كثيرة بتفشي الفساد فيها، وفي المقابل إطلاق بث عام جديد، من خلال هيئة البث وتحت إدارتها ومسؤوليتها.
خلال العقد الأخير، تم تعيين عدد من اللجان الشعبية والمهنية التي فحصت أوضاع "سلطة البث" وقدمت توصيات عديدة بشأنها شملت إجراء إصلاحات وتغييرات مختلفة فيها، بنيوية ومضمونية. وقد جرت عدة محاولات لإجراء مثل هذه الإصلاحات والتغييرات، شملت توقيع اتفاقيات واستقالة أعداد من العاملين، لكن معظمها باء الفشل في نهاية المطاف.
ومن بين أبرز التقارير التي عالجت أوضاع "سلطة البث" كان تقرير مراقب الدولة الذي صدر في أيار 2014، والذي شمل اتهامات بالإهمال وسوء صرف الأموال العامة والتصرف بها، ناهيك عن نشر وتوزيع مناقصات دون أية ضوابط قانونية وبعيدا عن مقتضيات الشفافية في القطاع العام وغيرها مما وصفه المراقب، في بعض الحالات، بأنه "مخالفات خطيرة بشكل خاص، تلامس حدود السلوك الجنائي"!
وقبل نشر هذا التقرير، كان وزير الاتصالات آنذاك، غلعاد إردان، قد عين في تموز 2013، لجنة استشارة خارجية أوكل إليها مهمة فحص أوضاع "سلطة البث" وما إذا كان من الصحيح والصحي إغلاقها. وبعد ثلاثة أشهر، أقام إردان لجنة أخرى (لجنة لاندس) لفحص مجمل موضوع البث العام وحدد لها ثلاثة أشهر لتقديم توصياتها. وفي آذار 2014، عقد إردان مؤتمرا صحافيا أعلن من خلاله تبني وتنفيذ توصيات "لجنة لاندس"، وذلك بإنشاء "مديرية" تكون مهمتها العمل على إغلاق "سلطة البث" وإقامة هيئة جدية للبث، دون التسبب بوقف البث بل بالمحافظة على استمراريته. وفي تموز 2014، أقر الكنيست "قانون البث العام الجديد".
وكان الموعد الأول الذي حدده القانون الجديد (من العام 2014) لإغلاق "سلطة البث" وإطلاق البث العام الجديد، من خلال هيئة البث، هو شهر آذار 2015، لكن تم تأجيله إلى آذار 2016، ثم إلى تشرين الأول 2016، والآن هذه محاولة التأجيل الثالثة ولمدة هي الأطول ـ 15 شهراً ـ حتى كانون الثاني 2018.
ثلاثة سيناريوهات محتملة
عرض ناتي طوكر، المراسل والمحلل في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية الإسرائيلية ("ذي ماركر" ـ 21 تموز 2106) ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل البث العام الجديد، في ضوء قرار نتنياهو تأجيل افتتاح "هيئة البث" الجديدة إلى مطلع 2018: السيناريو الأول ـ المتفائل؛ السيناريو الثاني ـ السيئ؛ السيناريو الثالث ـ الوسطيّ.
السيناريو الأول (المتفائل) هو أن يتراجع نتنياهو ونيسان كورن عن قرارهما بشأن التأجيل لمدة 15 شهرا.، وذلك على ضوء المعارضة الجارفة، شبه الشاملة، والشديدة جدا التي أثارها والأزمة الائتلافية التي قد يؤدي إليها، وهو ما يبدو أن نتنياهو بالذات لم يتوقعه ولم يأخذه في الحسبان.
وإذا ما تحقق هذا السيناريو وتراجع نتنياهو ونيسان كورن عن قرارهما، فسيبقى موعد إغلاق "سلطة البث" القديمة وافتتاح "هيئة البث العام" الجديدة وإطلاق البث العام الجديد على حاله ـ تشرين الأول القريب، 2016. وثمة في هذا السيناريو عيب أساس يتمثل في جودة البث الجديد، إذ "سيكون بعيدا جدا عن أن يكون متكاملا". ويذكر أن البث العام الجديد سيشمل قناتين تلفزيونيتين (القناة الأولى القائمة اليوم وقناة أخرى جديدة وثماني قنوات إذاعية).
أما السيناريو الثاني (السيئ) فهو أن يُقدم نتنياهو على حلّ "هيئة البث" الجديدة، خاصة وأنه لم يكن راضيا عنها منذ بداية طريقها ولم تكن صدفة أنه حرص على التمسك بوزارة الاتصالات وإبقائها تحت يديه بعد الانتخابات الأخيرة، مستبعدا الوزير السابق إردان عن أية علاقة بالإصلاحات في مجال البث العام في البلاد. وكان نتنياهو يتوقع من مسؤولي هيئة البث الجديدة وضع أنفسهم والهيئة بأكملها تحت إمرته. وحين أيقن أن هذا لم ولن يتحقق له، قرر نتنياهو استخدام "السلاح الأكثر فتكا": اقتراح القانون الجديد (التعديل)، بدعم الهستدروت.
في هذا السيناريو، قد يكون المخرج الأمثل بتوحيد الجسمين، القديم (سلطة البث) والجديد (هيئة البث)، في جسم واحد، هي "سلطة البث" القديمة على الأغلب، بما يتيح لنتنياهو مواصلة السيطرة عليها بسهولة كبيرة.
وأما السيناريو الثالث (الوسطيّ) فهو "تسوية معقولة، لكنها خطيرة"، بحسب طوكر: أن يتم التوصل إلى تسوية تقضي بتأجيل إغلاق "سلطة البث" وافتتاح "هيئة البث" إلى كانون الثاني أو آذار 2017، بدلا من كانون الثاني 2018، وذلك باتفاق جميع الأطراف المعنية. مثل هذا التأجيل سيكلف خزينة الدولة عشرات وربما مئات ملايين الشواكل لمواصلة تمويل "سلطة البث".
غير أن الأهم والأخطر في هذا التأجيل هو أنه يكرس "هيئة البث" كحالة مؤقتة وغير مضمونة، يمكن تأجيلها مرة تلو الأخرى. وفي لحظة الحسم، حين تصبح هيئة البث على وشك الافتتاح فعلا، ربما يجد نتنياهو سببا آخر لتأجيل الموعد مرة أخرى حتى يؤدي إلى "وفاتها"، تلقائيا. وقد يحصل هذا، مثلا، إثر استقالة أحد رؤساء الهيئة الجديدة، مثل مديرها العام أو رئيس مجلس إدارتها، أو إثر تعرضها لأزمة مالية ما تضطر الحكومة حيالها إلى تقليص ميزانياتها أو التوقف تماما عن تحويل الأموال إليها.
وإضافة إلى هذا، من شأن تأجيل إضافي آخر كهذا أن يضع حدا نهائيا ربما لقدرة هيئة البث الجديدة على تجنيد واستقدام طاقات إعلامية ومهنية رفيعة، مما يُفقدها الثقة الحيوية جدا لها، فيبقيها عاجزة منذ خطواتها الأولى، حتى تكاد تبلغ حالة "الموت" قبل ولادتها، أو فور ولادتها مباشرة!!
المصطلحات المستخدمة:
مراقب الدولة, موديعين, شاي, الهستدروت, الليكود, الكنيست, مدير عام وزارة, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو, أوفير أكونيس