تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 1740

أحيت إسرائيل في هذه الأيام الذكرى السنوية العشرين لاغتيال رئيس الحكومة الأسبق، إسحق رابين، في 4 تشرين الثاني 1995. وفي ظل تزايد قوة ونفوذ التيار الديني - القومي - الاستيطاني، الذي خرج منه منفذ الاغتيال، يغئال عمير، وسيطرة اليمين المتطرف أكثر فأكثر على مقدرات الحكم في إسرائيل، والاستخدام الواسع لشبكات التواصل الاجتماعي، مثل "فيسبوك" و"تويتر"، تتعالى أصوات تمجد قاتل رابين، يقول البعض إنها هامشية، بينما يرى آخرون أنها أوسع من ذلك بكثير.

كذلك تتعالى في هذه الأثناء أصوات في صفوف اليمين المتطرف تطالب الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، بإصدار عفو عن عمير، ويدعو آخرون إلى تحديد مدة سجنه، بحيث لا تكون لمدى الحياة.

وأعلن ريفلين رفضه المطلق لهذه الدعوات، وقال إنه "طالما أنا رئيس دولة إسرائيل، لن يخرج القاتل يغئال عمير إلى الحرية. وستُشل يدي اليمنى إذا وقعت مرة على عفو عن هذا الرجل الملعون. لن أوقع أبداً".

في أعقاب ذلك امتلأت صفحات نشطاء اليمين المتطرف في "الفيسبوك" بعبارات مسيئة لريفلين، ووصل بعضها إلى حد التهديد بالقتل، أو شملت أمنيات بموته.

وكتب حجاي عمير، شقيق القاتل، في صفحته أن "الرب قرر تحويل رابين إلى جثة برغم أن ريفلين ورفاقه لم يوافقوا على ذلك، وسيحين الوقت الذي يقرر (فيه الرب) أنه يجب أن يذهب ريفلين سوية مع الدولة الصهيونية من هذا العالم".
ويشار إلى أن عبارة "الدولة الصهيونية" يستخدمها اليمين الديني - القومي المتطرف، مثل جماعة "تدفيع (جباية) الثمن" الإرهابية، لوصف إسرائيل.

وعلى خلفية تزايد الاعتقاد في إسرائيل بأن اغتيالا سياسيا آخر هو مسألة وقت وحسب، رصدت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوم الجمعة الماضي، عددا من التعليقات في "فيسبوك"، وقالت إن قسما منها يدعو صراحة إلى قتل ريفلين، وقسم آخر يكتفي بتوجيه الشتائم له.

ولفتت إلى أن هذه التهديدات تأتي من جانب أشخاص أسماؤهم معروفة وكذلك وجوههم.

وكتب شخص يدعى نفتالي مغين في صفحته "آمين، سيقتلونك يا رئيس يا ابن ...".

كذلك كتب ماؤور رابو إلى ريفلين أنه "أنت الملعون. أنت مخرب ضد الشعب اليهودي والأفضل لو يركلونك إلى الجحيم يا خائن الشعب والوطن، ملعون أنت".

"حكومة رابين شكلت خطرا على إسرائيل بتوقيعها اتفاق أوسلو"

نشر موقع "واللا" الالكتروني، الأسبوع الماضي، استطلاعا لآراء الجمهور الديني - القومي، بمناسبة مرور عشرين عاما على اغتيال رابين، تبين منه أن 55% يعتبرون أن عمير لم يقتل رابين.

وقال 68% إنه يجب تحديد مدة عقوبة عمير، وألا يبقى في السجن إلى مدى الحياة.

وتبنى 73% ما يعرف في إسرائيل بنظرية المؤامرة واعتبروا أن جهات أخرى وقفت خلف اغتيال رابين، وأن عمير لم يفعل ذلك بمفرده.

وأيد أقل من نصف المتدينين - القوميين (41.5%) "حساب الذات" بعد مقتل رابين، لكن 67% قالوا إن اغتيالا سياسيا آخر في إسرائيل هو احتمال وارد بقوة.

واعتبر 65% أن إحياء ذكرى اغتيال رابين في كل عام هدفه مناكفة الجمهور الديني – القومي لا أكثر، واعتبر 76.5% أن إرث رابين بلورته "جهات لديها مصالح لتلبية احتياجات سياسية ضيقة".

يذكر أن اغتيال رابين جاء بهدف عرقلة اتفاق أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقال 91% من المستطلعين إن حكومة رابين شكلت خطرا على دولة إسرائيل عندما وقعت هذا الاتفاق مع الفلسطينيين.

ويشار إلى أن نتائج هذا الاستطلاع لم تكن مفاجئة، إذ أن أفكار المتدينين القوميين، وكذلك اليمين المتطرف، المتمثل بحزب الليكود الحاكم وشريكه الائتلافي "البيت اليهودي"، تعبر عن توجهات مشابهة في العقدين الماضيين، وبشكل أكبر في السنوات الأخيرة.

في هذا السياق، اتهم رئيس بلدية كرميئيل، عادي إلدار، الذي كان مقربا جدا من رابين، كبار المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية الحالية بالتعاون على اغتيال رابين وحملهم مسؤولية الاغتيال، وقال، الأسبوع الماضي، إن "شركاء يغئال عمير موجودون في سدّة الحكم اليوم".

وأضاف إلدار أن "اليمين المنفلت، الذي لاحق رابين في كل مكان، وحرض ضده، والذي نفذ طقس بولسا دينورا (وهو طقس ديني يهودي يعني الضرب بسياط من نار - أي القتل) هو من دعا إلى موت رابين. وكان هناك غبي واحد نفذ القرار. لكن ينبغي أن نتذكر أن وراء إصبعه الذي ضغط على زناد المسدس كانت هناك أصابع كثيرة موجودة اليوم في الحكم في دولة إسرائيل. وهم كانوا شركاء في الضغط على الزناد الذي أطلق النار على ظهر رابين".

وأشار إلدار بذلك، ليس إلى التيار الديني - القومي فقط، وإنما إلى قيادة حزب الليكود، وبينها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، المتهمة منذ الاغتيال بالتحريض ضد رابين والتزام الصمت حيال الدعوات لقتله حينذاك.

"إرث رابين"

على الرغم من مرور عشرين عاما على الاغتيال، إلا أنه لا يوجد توافق على وجود إرث خلفه رابين وراءه بعد اغتياله، ويرى الكثيرون أن إرثا كهذا، إن وجد، قابل للتأويل، علما أن البعض يعتبر أن إرث رابين يتمثل بحاجة إسرائيل إلى دفع السلام مع الفلسطينيين قدما، وأن هذا المفهوم لإرثه آخذ بالتبخر.

وقامت صحيفة "هآرتس" بجمع آراء لباحثين إسرائيليين حول "إرث رابين" في تقرير مطوّل نشرته في 22 تشرين الأول الفائت.
وقالت الباحثة في موضوع الذاكرة الجماعية وتخليد الذكرى وعميدة كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور فيرد فينيتسكي – ساروسي، إن "رابين لم يترك مؤلفات مكتوبة، وبحسب علمي لم يترك وصية أيضا".

وأضافت أن "إرث رابين يبدو أشبه بالمعجونة. فبالإمكان استخدامه بحسب احتياجات الحاضر والقول إن إرثه هو السلام وإرثه الاجتماعي هو تغيير سلم الأولويات في دولة إسرائيل. وفي المقابل، يشيرون إلى خطاب ’اعتمد عليّ" الشهير، الذي ألقاه رابين في مراسم تخريج فوج من مدرسة القيادة والأركان للجيش الإسرائيلي، في العام 1992، وتحدث فيه عن عبارة ’كل شيء حسن’، والتي كانت برأيه تعبر عن حالة فوضى وانعدام الحرفية والتقاعس. وبالتالي بالإمكان التحدث عن عمل رابين، لكن هذا ليس إرثا بحال من الأحوال".

من جانبه، قال المؤرخ والخبير الجغرافي البروفسور يوسي بن أرتسي، من جامعة حيفا، إنه "عندما نتحدث عن رابين يجب استحضار مصطلح ’الإرث غير الملموس’، أي الإرث الذي يصعب تعريفه، ولذلك فإن الجميع يجرون طوال الوقت خلف إرثه".

وأضاف أن "البعض يميل إلى التمسك بمرحلة معينة من حياته، كرئيس لأركان الجيش أو كمحارب في البلماح، أو كمن تخرج من مدرسة خضوري، لكن هذا لا يدل على إرث ملموس ولذلك ينجرون إلى موضوع السلام"، وشدد بن أرتسي على أن "رابين ليس السلام ولا اليسار".

ورأى المحاضر في العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا، البروفسور زئيف معوز، أن "رابين أدرك الاحتياجات الأمنية وحدود القوة، وهذا مزيج يبحث عنه بعض الأشخاص في هذا الإرث. وإدراك رابين لمسألة متى تحل القوة مشاكل ومتى ليس بمقدورها حل مشاكل مرتبطة بشكل قراءته لتراث (دافيد) بن غوريون، الذي كان متشائما جدا حيال الاتفاقيات مع العرب، ولكن في نهاية حياته، وبعد حرب العام 1967 خصوصا، أدرك حدود القوة وأن السلام يصنع الأمن في نهاية المطاف".

وقال المؤرخ ميرون بنفنيستي إن اغتيال رابين "كان بمثابة اغتيال أب. فالوريث قتل أباه، لأنه أعتبر أن هذا الأب سعى إلى اقتطاع إرثه منه"، في إشارة إلى انسحاب من الأراضي المحتلة العام 1967.

لكن بنفنيستي يشدد على أن رابين لم يترك إرثا.
وقال في هذا الشأن "لقد قُتل رابين وعندها حولوا الاغتيال إلى حجر الزاوية لحياته. ولأنه قتل في سياق سياسي – أيديولوجي، فإنهم يبنون إرثه على الطريقة التي مات فيها... وينبغي الفصل بين حياة رابين وموته. وبقدر معين، فإن يغئال عمير واغتيال رابين أوجدا وضعا نكون فيه مضطرين إلى النظر إلى رابين كقديس سقط على مذبح السلام".

بين استقالة رابين العام 1977 واغتياله

تطرق وزير العدل الإسرائيلي الأسبق والخبير القانوني، البروفسور دانيئيل فريدمان، إلى اغتيال رابين من زاوية أخرى، في مقال نشره في "يديعوت أحرونوت"، يوم الخميس الماضي، وأشار فيه إلى استقالة رابين من رئاسة الحكومة، في العام 1977، بعد الكشف عن حساب سري باسم زوجته ليئه في أحد مصارف دولة أجنبية.

وتساءل فريدمان حول كيف كانت ستتطور الأمور لو أنه لم يتم اغتيال رابين، برغم صعوبة معرفة ذلك. لكنه رأى أن استقالة رابين في ذلك العام كانت أهم من حادث اغتياله.

وكتب فريدمان أنه "عندما اغتيل رابين كان نمط علاقاتنا مع الفلسطينيين متبلورا جدا. فالخيار الأردني لم يكن مطروحا، ووُقعت اتفاقيات أوسلو، والمستوطنات في المناطق (المحتلة) وصلت إلى أحجام كبيرة وثمة شك في ما إذا كان بإمكان رابين وقفها، وباروخ غولدشتاين تمكن من تنفيذ المجزرة المروعة في مغارة المكفيلا (الحرم الإبراهيمي الشريف)، والفلسطينيون نفذوا أعمالاً إرهابية رهيبة".

وأضاف أن "الليكود حظي (في ذلك الوقت) باعتراف كحزب قادر على قيادة الدولة وأصبح الحريديم مركبا مركزيا في السياسة الإسرائيلية".

وأشار فريدمان إلى أن "الصورة كانت مختلفة تماما في العام 1977... ففي ذلك العام، كانت لا تزال المملكة الأردنية في الصورة، وكان لا يزال هناك احتمال لتسوية قضية الحُكم في الضفة. وكان رابين أشد المعارضين لحركة الاستيطان في المناطق (المحتلة) التي كانت في بدايتها. ولقد حارب المستوطنين الذين حصلوا على الدعم من شمعون بيريس، وزير الدفاع في حكومته".

واعتبر فريدمان أن "الإطاحة برابين كانت أفضل هدية منحها الجهاز القضائي الإسرائيلي في ذلك الوقت للمشروع الاستيطاني. فبعد هذه الإطاحة جاءت ’انتخابات الانقلاب’ (صعود الليكود إلى الحكم في العام 1977 وخسارة حزب العمل برئاسة بيريس)... وتمكن مناحيم بيغن من تشكيل حكومة استندت إلى أغلبية ضئيلة. وأصبح الحريديم مركبا مركزيا فيها، وبدونهم ما كان مناحيم بيغن سيحظى بأغلبية".

ورأى فريدمان أنه في أعقاب تشكيل هذه الحكومة "تغير وجه الدولة كثيرا. فالحريديم تحولوا إلى جهة سياسية مركزية، وطلاب الييشيفوت (المعاهد الدينية اليهودية) حصلوا على إعفاء من الخدمة العسكرية، والمشروع الاستيطاني حظي بازدهار وخلال سنوات معدودة انتهى الخيار الأردني".

وأضاف "ما الذي كان سيحدث لو لم تتم الإطاحة برابين؟ ليس واضحا ما إذا كان بيغن سيفوز بالانتخابات، إذ أن شعبية رابين كانت أكبر من شعبية بيريس، والفرق بين الكتلتين كان ضئيلا، وانتقال نواب معدودين إلى كتلة برئاسة رابين كان سيمكنه من تشكيل حكومة".

وخلص فريدمان إلى أن "الإطاحة برابين بسبب قضية الدولارات هي التي غيرت مجرى التاريخ، مثلما غيرت وجه دولة إسرائيل".