هذا التقرير الخاص الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار يحاول أن يلمّ ببعض تفاصيل العلاقات الإسرائيلية- الصينية وما تنطوي عليه من تداعيات على السياسة الإسرائيلية وعلى الأوضاع الإقليمية والدولية. ويستعيد "حكم القيمة" الإسرائيلي القائل إنه رغم تعمق التعاون الاقتصادي- الأمني فإن قدرة إسرائيل في التأثير على السياسة الصينية الرسمية لا تزال محدودة للغاية.
اعتبرت الزيارة التي قام بها رئيس الحكومة الإسرائيلية، إيهود أولمرت، إلى الصين في كانون الثاني/ يناير الماضي (2007)، تاريخية. ومع ذلك فقد أكد المراقبون الإسرائيليون في شبه إجماع، في أعقاب هذه الزيارة، أنّها لم تسفر عن شقّ طرق جديدة تتيح ممارسة التأثير على مواقف المؤسسة السياسية في الصين لكنها كانت بمثابة مؤشر إلى إذابة الجمود الذي ساد العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين منذ أن ألغت إسرائيل صفقة طائرات "فالكون" إلى الصين من جانب واحد في العام 2000. أضاف هؤلاء المراقبون أن مجرّد هذا الأمر يعدّ تطورًا لا يجوز الاستخفاف به على ضوء "الحضور المتزايد للصين في منطقة الشرق الأوسط وفي الساحة الدولية عمومًا" خلال الأعوام القليلة الفائتة، والذي ينبئ بما ستكون عليه مكانة الصين في المستقبل.
ويمكن في صدد تلك الزيارة استعادة ما كتبه المراسل السياسيّ لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، شمعون شيفر وكبير المعلقين السياسيين في الصحيفة، ناحوم برنياع، في تعليقهما المشترك على نتائجها خلال مشاركتهما في الحاشية الإعلامية المرافقة لرئيس الحكومة، حيث قالا: بحسب ما نمى إلى علمنا من المحادثات التمهيدية التي أجراها رئيس الحكومة، إيهود أولمرت، خلال زيارته في الصين، فليس في نية حكومة بكين أن تمنح إسرائيل أيّ تعهد في شأن الموضوع [النووي] الإيراني، يتجاوز ما قاله الصينيون علنًا إلى الآن. وسيقول الصينيون، خلال المحادثات الرسمية، إنهم "يبدون تفهمًا" لقلق إسرائيل حيال جهود إيران الرامية إلى التزوّد بالسلاح النووي. وتعتقد الصين بأن على إيران أن تكفّ عن نشاطها العسكري في المجال النووي، لكنها تتحفظ من تشديد وطأة العقوبات الاقتصادية ضد النظام الإيراني. "الصين مستعدة لأن تضحي بنفسها فقط من أجل دولة واحدة، هي الصين"- هذه الجملة سمعها دبلوماسيون إسرائيليون على لسان مسؤولين صينيين رفيعي المستوى. والقيادة الصينية لن تتجاوب مع أولمرت أيضًا في مسألة فرض المقاطعة على حركة "حماس". ومع ذلك فإن الصينيين معنيون بتعميق العلاقات التجارية والتعاون التكنولوجي مع إسرائيل. وقد بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين وإسرائيل في العام 2006 حوالي 3 مليارات دولار، وهو يزداد بنسبة 20 بالمائة سنويًا ("يديعوت أحرونوت"، 10 كانون الثاني/ يناير 2007).
هذا التقرير الخاص الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار يحاول أن يلمّ ببعض تفاصيل العلاقات الإسرائيلية- الصينية وما تنطوي عليه من تداعيات وإسقاطات على السياسة الإسرائيلية وعلى الأوضاع الإقليمية والدولية.
محطات تاريخية
يرى يورام عفرون، الباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، أنّ أكثر ما يميّز العلاقات بين إسرائيل والصين وبالتالي يؤثر عليها هو احتكامها إلى المقاربة البراغماتية والمرنة التي انتهجتها حكومة بكين حيال الحكومة الإسرائيلية، وذلك في إلماح صريح إلى كون القيادة الصينية تتحكم بمستوى هذه العلاقات وجوهرها وآفاقها على الصعد كافة.
تعود بداية العلاقات بين الدولتين إلى الاتصالات التي شرع رجل الأعمال الإسرائيلي شاؤول أيزنبرغ في إقامتها مع القيادة الصينية في السبعينيات من القرن العشرين الماضي والتي نجح من خلالها في إقناع تلك القيادة بامتلاك الخدمات التكنولوجية الإسرائيلية المتطورة. في تلك الأعوام انصب اهتمام الصين على استيراد التكنولوجيا المتطورة في المجالين المدنيّ والعسكريّ نظرًا لانشغالها بإنشاء بناها التحتية في إطار سياسة الإصلاح والانفتاح الاقتصاديّ.
وتشير الوثائق الإسرائيلية إلى أن أيزنبرغ هذا نجح في العام 1979 في عقد لقاء سريّ جمع أرباب الصناعات الأمنية الإسرائيلية وقيادة المؤسسة الأمنية في الصين، وترتبت على هذا اللقاء عدة صفقات كبيرة لتبادل السلاح. وقد خدم التعاون العسكري الذي نشأ في أعقاب ذلك الدولتين وأرسى منظومة علاقات قريبة فيما بينهما لا تزال قائمة بكيفية ما إلى يومنا هذا. غير أن الصين ظلت ترفض أن تنعكس هذه العلاقات الأمنية- الاقتصادية الوثيقة على مستوى تبادل التمثيل الرسمي بين الدولتين، بسبب الخشية من أن يؤثر ذلك على علاقاتها المتشعبة مع الدول العربية. وفقط في كانون الثاني/ يناير 1992 أقامت الدولتان علاقات دبلوماسية كاملة فيما بينهما. وقد تمّ ذلك في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشرقية وأساسًا في أعقاب اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام. ومنذ ذلك التاريخ تبودلت زيارات دبلوماسية على أعلى المستويات بين الطرفين، بلغت الذروة في الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني إلى إسرائيل في العام 2000. كما وقعت اتفاقيات تعاون عديدة في المجالين الاقتصادي والأمني.
رغم هذا ظلت التعليقات الإسرائيلية تركز على أن تطور العلاقات الدبلوماسية وإلى حدّ ما الاقتصادية لم يؤثر البتة على "دفع غايات إسرائيل السياسية"قدمًا. وأشير في هذا الشأن إلى استمرار الصين في بيع الأسلحة إلى "جهات معادية لإسرائيل" واستمرارها في تصدير الصواريخ وتكنولوجيا صناعة الصواريخ إلى بضع دول في الشرق الأوسط وإسهامها في المشروع النووي الإيراني. كما أشير إلى عدم حدوث تغيير في سياسة الصين المؤيدة للعرب في ما يتعلق بالنزاع الإسرائيلي- العربي ونأيها بنفسها عن التدخل في العملية السياسية.
لكن العلاقات الإسرائيلية- الصينية شهدت في تلك الفترة بعض الجزر أيضًا، على خلفية الأزمة الناشبة في العلاقات الصينية- الأميركية. وقد بدأت هذه الأزمة إبان ما عرف باسم "أحداث تيان آن مين" (تفريق السلطات الصينية مظاهرات "أنصار الديمقراطية" في أكبر ميادين العاصمة بكين بقوة السلاح ما أدى إلى سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى) وتفاقمت على خلفية تصاعد مطالبة الصين بضم تايوان إليها. وبين هاتين الحادثتين قررت الولايات المتحدة فرض حظر على بيع الأسلحة إلى الصين. في أعقاب ذلك انخفضت الصادرات الصينية من إسرائيل وزادت معارضة الولايات المتحدة لصادرات إسرائيل الأمنية إلى الصين. وفي العام 1999 أبدت الولايات المتحدة معارضة شديدة لتنفيذ صفقة تبيع إسرائيل بموجبها طائرات "فالكون" إلى الصين رغم إدعاء إسرائيل بأن واشنطن وضعت في صورة هذه الصفقة وأقرتها. وتعهدت إسرائيل للصين بتنفيذ الصفقة معولة على أن تفلح في تذليل المعارضة الأميركية، وعندما باءت جهودها بالفشل أعلنت من جانب واحد عن إلغاء الصفقة تمامًا في العام 2000. وأدى ذلك إلى نشوء أزمة في العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين، لكن هذه الأزمة لم تؤثر على استمرار التعاون في المجالات التي رغبت الصين في أن يستمر التعاون بشأنها. وهذا ما تؤكده المعطيات الإسرائيلية الرسمية التي أشارت إلى أنه بين الأعوام 2000- 2005 زادت التجارة بين الدولتين بثلاثة أضعاف وفي العام 2006زادت بنسبة 40% عما كانت عليه في العام الذي سبقه.
قراءة إسرائيلية للتطورات الأخيرة في الصين
ترى معظم القراءات الإسرائيلية للتطورات في الصين بأن الهدف الرئيس للمؤسسة السياسية الصينية يتمثل في الحفاظ على وحدة الأراضي الصينية وعلى رفع مكانة الصين الدولية. أما الوسيلة الأساس لتحقيق ذلك فهي استمرار النموّ الاقتصادي الذي بلغ في الأعوام العشرين الفائتة نحو 20% سنويًا. وفي سبيل ذلك تزداد حاجة الصين أكثر فأكثر إلى الأسواق الأجنبية وإلى المصادر الخارجية للمواد الخام وكذلك إلى الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا المتطورة.
وتعمل الصين في هذا المجال على عدة مستويات.
مهما تكن هذه المستويات ينبغي الإشارة إلى ما يلي:
· محاولة الصين زيادة نفوذها في الأسرة الدولية دون أن تثير غضب أو خشية دول أخرى. لكن الملاحظ أن الصين تعمّق في الآونة الأخيرة من حضورها في الأطر الإقليمية والدولية وتوطد علاقاتها مع الأقطاب المتضادة مع الولايات المتحدة مثل روسيا والاتحاد الأوروبي.
· تسعى الصين إلى احتلال مكانة رفيعة المستوى في منطقة جنوب شرق آسيا وذلك عبر توثيق العلاقات مع جاراتها. وتؤكد المعطيات الرسمية أنه في العام 2004 شكلت الاستثمارات الأجنبية المباشرة من دول اليابان وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان وهونغ كونغ 59% من مجموع الاستثمارات الأجنبية في الصين في ذلك العام، وبلغت نسبة التجارة مع هذه الدول 41% من مجمل التجارة الصينية الخارجية.
· تسعى الصين أيضًا إلى توثيق علاقاتها مع الدول المزودة بالمواد الخام ومصادر الطاقة، ومعظمها دول نامية من أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط.
· يمكن القول إن مشكلة الصين الرئيسة في الأعوام القليلة الماضية هي علاقاتها المضطربة مع الولايات المتحدة. ومؤخرًا بدأت أوساط أميركية ترى أن الصين هي الخصم الأساس للولايات المتحدة في الساحة الدولية. أما الصين فتعتقد من ناحيتها أن الولايات المتحدة تحاول كبح جماح تطورها وتقييد حدود نشاطها الدولي، ولذا فهي ترى فيها التهديد الأكبر لها. وهذا الشعور يدفع بها نحو تعزيز علاقاتها مع دول نامية عديدة تتقاسم معها في الوقت نفسه العداء للولايات المتحدة، مثل إيران والسودان وفنزويلا. لكن العلاقات بين الدولتين هي أكثر تركيبًا من هذا التوصيف الأفقيّ وتتميز في الوقت نفسه بالتعاون الاقتصادي الواسع النطاق (حوالي 10% من الإنتاج الصيني يتم تصديره إلى السوق الأميركية وتبلغ نسبة الاستثمارات الأميركية 5% من مجمل الاستثمارات الأجنبية في الصين).
· ينسحب الإشكال السالف في العلاقات الصينية- الأميركية على ساحة الشرق الأوسط. فالصين ترى أن الشرق الأوسط لا يزال عنوانًا رئيسًا لمصادر الطاقة وسوقًا كبيرة لإنتاجها العسكري وللأيدي العاملة الصينية، كما أنه مصدر للاستثمارات والتكنولوجيا، ولذا فهي تعزز علاقاتها مع دول مثل إيران والسعودية. وتنظر الصين إلى مركزية دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط كخطر محتمل على حرية ملاحتها البحرية وعلى تزويدها بالمواد الخام ومصادر الطاقة. لكن لم يظهر إلى الآن ما يشير إلى أن الصين تسعى إلى ضعضعة مكانة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بل إنها تضطر أحيانًا إلى مماشاة الإملاءات الأميركية (مثل التسليم مع تجميد الولايات المتحدة لعائدات النفط الذي اشترته الصين من نظام صدام حسين والموافقة على فرض عقوبات ضد إيران). مع هذا فإن الصين لا تني تعمل على ترسيخ مكانتها في دول الخليج وتزيد حضورها السياسي في المنطقة كافة بصورة تدريجية (مثل تعزيز علاقاتها مع السعودية والتدخل الدبلوماسي في قضايا العراق والمشروع النووي الإيراني).
إنّ الاستنتاج المطلوب ممّا تقدّم هو أنّ ثمة احتمالا لأن تتغير السياسة الصينية في الشرق الأوسط بناء على مستجدات الأوضاع في المنطقة ووفقًا لتقلبات ميزان القوى العالمي. وسبق أن أشارت استنتاجات مؤتمر هرتسليا السابع بشأن "ميزان المناعة والأمن القوميّ الإسرائيليّ" (2007) إلى أن سياق هذا التغيير قد يكون راجعًا، ضمن أشياء أخرى، إلى استمرار حالة الضعف والانكفاء في مكانة الولايات المتحدة كزعيمة للعالم، فضلاً عن التراجع المستمر في اهتمام وقدرة الولايات المتحدة على تحمل عبء "إصلاح العالم"، هذا إلى جانب استمرار التآكل الذي طرأ على قدرتها على التعاون مع أوروبا. في الوقت ذاته تتعزز بشكل مستمر قوة كل من الصين والهند. وبعد خمسة أعوام قد تتمكن الصين من ردم الفجوة التكنولوجية والعسكرية القائمة بينها وبين الولايات المتحدة، بل ومن تجاوزها أيضًا.
رؤية مستقبلية
بناء على ما سلف ترى معظم القراءات الإسرائيلية أن الصين ستضطر عاجلاً أم آجلاً إلى أن تتخذ موقفًا سياسيًا من الأحداث الشرق أوسطية، مرجحةً ناحية التحالف مع القوى التي تدفع في اتجاه استقرار المنطقة، نظرًا لما يعنيه هذا الاستقرار من منافع اقتصادية للصين على المدى المنظور وعلى المدى الأبعد. لكن يظلّ من المحتمل أن يتأثر هذا الموقف بتطورات ليست خاضعة لسيطرتها مثل ازدياد التوتر مع الولايات المتحدة أو تشديد سيطرة الولايات المتحدة على مصادر النفط في الشرق الأوسط. كما أن من شأن ازدياد التوتر بين الدول الإقليمية والولايات المتحدة أن تدفع بهذه الأولى إلى أحضان بكين. ويعتقد أصحاب هذه القراءات أن تصاعد النفوذ الصيني في السياسة الشرق أوسطية قد يعود بالنفع على إسرائيل أكثر ممّا قد يضرّ بها، نظرًا لوجود علاقات أمنية- اقتصادية بينهما بقيت مقاومة للصدمات في فترات الأزمة.
أما على المستوى الأمني فتشير هذه القراءات إلى الخشية من استمرار نشر السلاح الصيني غير التقليدي في الشرق الأوسط. وقد بدأت الصين، وفقًا لهذه المصادر، بنشر نظم أسلحة وتكنولوجيا عسكرية في مجال الصواريخ وكذلك تكنولوجيا نووية وسلاح كيماوي في كل من إيران والسعودية وسورية وليبيا وغيرها منذ الثمانينيات. ويصل بعض هذه التكنولوجيا إلى منظمات مسلحة تقاتل ضد إسرائيل (في حرب لبنان الثانية استعمل حزب الله صاروخًا من طراز صينيّ ضد إحدى السفن الحربية الإسرائيلية). لكن هذا الموضوع يخضع هو أيضًا لحساب الربح والخسارة الاقتصادية الذي تأخذه الصين في الحسبان، والذي يبقى في رأس سلم أولوياتها.
ويؤكد عفرون أن من الصعوبة بمكان التكهن بشأن الكيفية التي سيتطوّر فيها الموقف الصينيّ في الشرق الأوسط، لكن ما يمكن افتراضه الآن هو أن تظلّ الصين معنية بتعميق الاستقرار في هذه المنطقة، من جهة ومعنية بزيادة نفوذها فيها، من جهة أخرى.
إنّ مجرّد ذلك يلزم إسرائيل، في رأي هذا الباحث، بأن ترى في الصين منذ الآن وفي الأحوال كافة دولة عظمى مؤثرة في الشرق الأوسط وأن تعمل على تعزيز علاقاتها معها في مختلف المجالات، لكن ليس على حساب "العلاقات الإستراتيجية" مع الولايات المتحدة. ويعتبر هذا الباحث بأن هذا الأمر غير بسيط البتة لأنّ مقاربة الصين تظلّ انتفاعية، أولاً ودائمًا، وبالتالي فإنّ فائدة إسرائيل بالنسبة لها قليلة، إذا ما قيست بالفوائد المعوّلة على سائر الدول في المنطقة.