تشهد إسرائيل، منذ حوالي شهر، عاصفة هستيرية بشأن ما عرف باسم "قضية التهرّب من الخدمة العسكرية الإلزامية"، التي تزعم تقارير الجهاتالمسؤولة في الجيش الإسرائيلي أنها تتسّع على نطاق غير مسبوق عامًا بعد عام. وحتى الآن صدرت تصريحات وردّات فعل طنانة في إدانة هذه القضية والدعوة إلى وضعها في مقدمة "الأجندة الوطنية" الإسرائيلية، وذلك من لدن وزير الدفاع، إيهود باراك وكبار قادة الجيش، وكذلك من لدن بعض القادة السياسيين والمسؤولين الرسميين وفي مقدمتهم رئيس الدولة، شمعون بيريس.
في مقابل ذلك اعتبرت أوساط أخرى أن المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية تعمدت أن تثير هذه العاصفة في هذا التوقيت بالذات لكي تبرّرمطالبتها الملحّة بزيادة الميزانية الأمنية، وذلك بالتزامن مع عشية بدء الإعداد للميزانية الإسرائيلية العامة، مؤكدة أنها بمثابة "عاصفة في فنجان" وأنّ التجنّد للجيش ما زال "القانون الفولاذيّ" الذي يحكم إسرائيل، دولةً ومجتمعًا.
يحاول هذا التقرير الخاص الصادر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار أن يلقي الضوء على هذه القضية والجدل الذي حفّ بها، سواء من طرف الجهات التي أشعلتها ولا تنفكّ تؤججها أو الجهات التي استأنفت عليها وحاولت أن تغوص على المرامي الخاصة الواقفة خلفها.
"التهرّب من الخدمة العسكرية"- تعريف المصطلح
تدرج موسوعة "ويكيبيديا" الإلكترونية مجموعة الطرق التي يمكن بواسطتها "الاستنكاف أو الامتناع أو التملص من الخدمة العسكرية" في الدول أوالأوقات التي تكون فيها هذه الخدمة إلزامية، مثل الولايات المتحدة إبان حرب الفيتنام أو إسرائيل، في عداد "الامتناع عن الجندية". ويعتبر هذا الامتناع خيارًا يلجأ إليه رافضو الخدمة العسكرية والمتهربون منها غير المعنيين بإشهار رفضهم والتعرّض بسبب ذلك إمّا لطائلة السجن أو لإدانة المجتمع الذي تتحكم فيه الأفكار العسكرية. وعلى سبيل الدقة فإن الموسوعة نفسها تميز بين مصطلحين: الأول- الامتناع عن التجنّد والذي يشمل استغلال الطرق القانونية المتاحة لعدم الخدمة في الجيش. والثاني- التهرّب من التجنّد، ويشمل استغلالاً لطرق غير قانونية من أجل عدم الخدمة في الجيش. وثمة توكيد على أن التهرّب من الجيش هو جنحة جنائية. كما أن الامتناع عن التجنّد في الجيش في إسرائيل، باعتبارها دولة "في حالة حرب دائمة"، تعتبر عملاً سلبيًا في الذهنية الإسرائيلية العامة.
وفيما يلي تفصيل الطرق التي يمكن بواسطتها الامتناع أو التهرّب من أداء الخدمة العسكرية، مع مراعاة أن بعض هذه الطرق تناسب الذكور فقط وبعضها الأخر يناسب الإناث فقط، وثمة طرق تناسب الجنسين معًا:
* طمس القدرات الذهنية والمادية الحقيقية (تخفيض "البروفيل") * الهجرة إلى خارج البلاد * الرفض العلني للخدمة العسكرية * الزواج أو الولادة (للإناث فقط) * إعفاء لأسباب دينية (للإناث فقط) * إعفاء لأسباب ضميرية (للإناث فقط) * الدراسة في المدارس الدينية اليهودية (للذكور فقط).
العاصفة- المعطيات والوقائع
في 17 تموز/ يوليو 2007 نشر "قسم الموارد البشرية" في الجيش الإسرائيلي معطيات تتعلق بفوج المجندين للجيش في آب/ أغسطس 2007 أشير في سياقها إلى كون هذا الفوج هو الأقل عددًا في الأعوام القليلة الفائتة. وقد أجمعت عناوين وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي تناولت هذه المعطيات بالعرض والتحليل، على أن الشبيبة الإسرائيلية "أصبحت أقل حماسة للتجنّد في صفوف الجيش الإسرائيلي وأقل رغبة في الانخراط ضمن الوحدات القتالية"، وذلك في أعقاب عام واحد فقط على "حرب لبنان الثانية" في الصيف الماضي (2006) وما أسفرت عنه من نتائج كئيبة.
وأبانت معطيات الجيش، بصورة جافّة، أن 25% من الشبان الإسرائيليين في سن 18 عامًا (أي كل شاب إسرائيلي رابع) لا يتجندون للجيش. وقدارتفعت نسبة الذين لا يتجندون للجيش بسبب الدراسة في المدارس الدينية اليهودية إلى 11% بعد أن كانت نسبة هؤلاء 10% قبل ذلك بعام واحد فقط، أي في فوج آب/ أغسطس 2006. ولم يتم تجنيد 4% من شباب هذا الفوج بسبب تورطهم في ملفات جنائية في حين أن نسبة مماثلة منهم (4%) متواجدة في خارج البلاد. أما الأسباب الأخرى الواقفة خلف عدم التجنّد للجيش فمن أبرزها الحصول على إعفاءات من الخدمة العسكرية لأسباب طبية أو نفسانية، وفقًا للمعطيات ذاتها.
وبلغت نسبة المجندين الراغبين في الانخراط ضمن الوحدات القتالية في الجيش الإسرائيلي 67,3% وهي منخفضة بـ 1,6% عن نسبتهم بين المجندين في فوج آب/ أغسطس من العام السابق (2006) والتي بلغت 68,9% وبـ 2,7% عن نسبتهم بين المجندين في فوج شهر تشرين الثاني/ نوفمبر العام 2006، التي بلغت 70%.
وقد احتل لواء "غولاني" المرتبة الأولى في لائحة الوحدات القتالية التي يرغب المجندون الشبان في الانخراط فيها، حيث تبارى كل اثنين من المجندين على مكان واحد في اللواء. ويليه لواء "ناحل" فلواء "كفير" (لواء 900) ثم لواء "غفعاتي".
مباشرة بعد نشر هذه المعطيات قال الجنرال في الاحتياط غدعون شيفر، الذي شغل في السابق منصب قائد "قسم القوى البشرية" في الجيش الإسرائيلي، إنه إذا لم تسارع الدولة إلى الاعتناء بهذه المشكلة فإنها ستتسع باطراد. وأضاف: "إذا لم نفعل شيئًا فسنصل في الأعوام القريبة المقبلة إلى وضع لا يؤدي فيه 50% من شبابنا الخدمة العسكرية الإلزامية".
وتلاه الجنرال إليعازر شتيرن، قائد "قسم الموارد البشرية" في الجيش الإسرائيلي، الذي قال إن الحكومة والكنيست في إسرائيل لا تبذلان جهدًا كافيًا لوقف ظاهرة التهرّب من الخدمة في الجيش الإسرائيلي. ووردت أقوال شتيرن في أثناء زيارة قام بها في يوم 23/7/2007 إلى "قاعدة الاستيعاب والتصنيف في تسريفين" بمناسبة تجنيد شبان جدد للواء "غفعاتي" برفقة رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، غابي أشكنازي.
ونقلت الإذاعة العسكرية (غالي تساهال) عن شتيرن قوله: "أتوقع أن تنعكس أهمية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي لا في الأقوال فحسب وإنما أيضًا في الأنظمة والقوانين والتشكيلة المتنوعة من الأفعال، سواء فيما يتعلق بمن يتم إعفاؤه من الخدمة العسكرية وبأية خفّة يتم فيها الإعفاء من الخدمة في الجيش الإسرائيلي، أو فيما يتعلق بكيفية التعامل مع من يؤدي الخدمة العسكرية في الجيش".
وتمثل أحد الحلول، التي اقترحها شتيرن، في إعفاء الجنود المسرحين من الخدمة العسكرية من دفع القسط الدراسي الجامعي.
ومما قاله في هذا الشأن:
"إذا كانوا (يقصد المسؤولين الإسرائيليين) ينوون رفع القسط الدراسي في الجامعات إلى 15 ألف شيكل (حوالي 3600 دولار) فيمكن أن يصبح، من ناحيتي، 25 ألف شيكل (حوالي 6000 دولار) شريطة أن يحصل الذي خدم لمدة ثلاثة أعوام في الجيش الإسرائيلي، وطبعًا في إطار الوحدات القتالية، على ثلاثة أعوام تعليم مجانًا. وليدفع الذي لا يخدم في الجيش الإسرائيلي قسطًا دراسيًا كاملاً".
وقال شتيرن أيضًا إن النجوم (في الفنّ والرياضة) الذين يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية يسهمون في "خفض الدافعية للخدمة العسكرية في المجتمعالإسرائيلي". وأعرب عن الأسف لكون الخدمة العسكرية في الجيش لا تشكل "أحد معايير المشاركة في البرامج التلفزيونية الشعبية" (يقصد برامج "تلفزيون الواقع").
وفي أعقاب شتيرن دعا رئيس هيئة الأركان العامة للجيش، غابي أشكنازي، هو أيضًا، إلى شجب ظاهرة التهرّب من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي التي وصفها بأنها "تنهش المجتمع والجيش في إسرائيل". وأعرب عن أسفه لأن المتهربين من الخدمة العسكرية "لا يخجلون بقرارهم عدم التجند في الجيش".
وأضاف أشكنازي، في خطاب ألقاه في يوم 31/7/2007 في مراسيم توزيع جوائز قائد الإذاعة العسكرية في مقرّ سلاح الجو في هرتسليا: "في هذه الأيام تنهمك وسائل الإعلام بموضوع التهرّب من الخدمة العسكرية. وهذا أمر يبعث على السرور. لقد كانت ظاهرة التهرّب هذه قائمة في السابق. ويسألني البعض الآن: ما هو الجديد إذن؟ الجواب هو أن المتهربين فقدوا الشعور بالخجل. ومهمتنا جميعًا الآن هي أن نعيد الخجل إلى سحنات المتهربين وأن نعيد شعور الاعتزاز إلى الجنود في الخدمة".
ومضى يقول: "سنحتاج إلى جيش إسرائيلي قويّ خلال الأعوام الكثيرة المقبلة حتى حلول السلام. وإلى أن يحين ذلك فإن التهرب من الخدمة العسكريةينهش أساس الجيش والمجتمع وينبغي علينا أن نجتث هذه الظاهرة من جذورها".
أما وزير الدفاع إيهود باراك فقال إنه "ينبغي العودة إلى الأيام التي كان فيها التهرب من الجيش بمثابة وصمة قابيل (وصمة عار) على جبين المتهربين".
باراك، الذي كان يتحدث في ندوة خاصة عقدت في يوم 30/7/2007 في جامعة تل أبيب بدعوة من "معهد دراسات الأمن القومي"، إحياء لذكرى المعلق العسكري في صحيفة "هآرتس"، زئيف شيف، شنّ هجومًا عنيفًا على ما أسماه "الشرعية التي تحظى بها ظاهرة التهرّب من الخدمة العسكرية لدى مختلف أطياف المجتمع الإسرائيلي، بدءًا من المحاضرين في الجامعات مرورًا بصناع الرأي العام وانتهاء بنجوم الإعلام الذين يدفعون قدمًا أبطالاً ثقافيين تهربوا من الخدمة في الجيش الإسرائيلي"، منوهًا بأن "المجندين ومقاتلي تشكيلات الاحتياط هم الذين يستحقون أن يكونوا الأبطال الحقيقيينللمجتمع الإسرائيلي". واعتبر باراك أن الجيش الإسرائيلي يتحوّل من "جيش الشعب" إلى "جيش نصف الشعب فقط" وأن "بقاء المجتمع الموجود في خضم أخطار على وجوده مرهون باحترام هذا المجتمع للأبناء الذين يدافعون عنه".
تجدر الإشارة إلى أنه في ظل هذه الأجواء أصدر رئيس المحكمة العسكرية في يافا، الكولونيل آفي ليفي، حكمًا مشددًا بالسجن الفعلي لمدة ستة أشهرعلى الجندي الإسرائيلي "س"، الذي كان من المفروض أن يتجند في الجيش الإسرائيلي في آب/ أغسطس 2001، لكنه لم يفعل ودخل إلى معترك العمل لكي يعيل عائلته. وقال ليفي، في جلسة المحكمة التي عقدت في 5 آب/ أغسطس 2007، إن "ظاهرة التهرّب من الخدمة العسكرية هي ظاهرة مرضية وتنتشر مثل النار في الهشيم وتجرّ وراءها سلسلة من الأمراض. والأنكى من ذلك أنها توجد حالة من اللامساواة والتمييز بين دم ودم". وأضاف "أن الطريق لاجتثاث هذه الظاهرة تكمن في إنزال عقوبات قاسية ورادعة ومناسبة" على المتهربين من الخدمة العسكرية.
كما أن رئيس الدولة شمعون بيريس دعا، في تعقيبه على الموضوع، إلى تغيير نظرة الشعب في إسرائيل إلى الجيش. وأضاف: "إذا ما نمّينا نظرةالاستخفاف وعدم الجدية إزاء الجيش الإسرائيلي، فإن ذلك سيمّس بمكانته. يجب العودة إلى فترة الإجماع التي كان فيها المجتمع الإسرائيلي كافته يقف من خلف الجيش. ثمة حملات نقد حادّة تضرّ الجيش الإسرائيلي بصورة شديدة. إننا دولة تواجه العديد من الأخطار الوجودية ويتعيّن أن نعود إلى تنمية مشاعر العزة الوطنية بالخدمة العسكرية في الجيش".
ردّات الفعل
رأت الوزيرة السابقة شولاميت ألوني ("ميرتس") أن هذه الحملة تنطوي على مظاهر فاشية، مشيرة إلى أن المقصودين من ورائها هم رافضو الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية، أو الأشخاص الذين ليس في وسعهم تأديتها لأسباب صحية أو نفسانية، منوهةً بأن الكنيست أقرّ قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع "إعفاء خمسين ألف شاب من الحريديم (اليهود المتدينين المتشددين) من الخدمة العسكرية لمدة خمسة أعوام". كما أقرّ إعفاءهم من دفع القسط الدراسي ومنحهم مخصصات ضمان الدخل. وشجبت ألوني طرد المغني أفيف غيفن من الإذاعة العسكرية لأنه لم يخدم في الجيش والحملة التي يجري شنّها ضد بعض نجوم الفنّ والرياضة على هذه الخلفية.
أضافت ألوني، في تعليق تحت العنوان "الفاشية هنا"، أن "تبجّح إيهود باراك واستعلاءه قد تسببا بالكثير من الأضرار في السابق، وعلى ما يبدوفسيلحقان المزيد من الأضرار في المستقبل". وأوضحت أن "التساوق الشعبي مع تصريحات باراك في هذا الشأن هي التي ينبغي أن تثير القلق، إذا ما كنا راغبين بعد في أن نكون مجتمعًا ديمقراطيًا يحترم حقوق الإنسان وحريته، والمقصود كل إنسان حتى لو لم يكن جنديًا بطلاً أو طالبًا في مدرسة دينية أو عضوًا في منظمة غوش إيمونيم (الاستيطانية المتطرفة) أو قناصًا محترفًا في وحدة عسكرية مختارة" (موقع "واينت" الإلكتروني، 7/8/2007).
غير أن ناشطًا آخر من "ميرتس" هو ران كوهين، عضو الكنيست من كتلة "ميرتس- ياحد"، قال إن عدم الحفاظ على سياسة واضحة ومثابرة في تجنيد جميع المواطنين للجيش الإسرائيلي، من جهة والإهمال المتواصل لغاية الجيش الإسرائيلي في أن يكون سورًا واقيًا ضروريًا لوجود الشعب في إسرائيل، من جهة أخرى، هما ما أديا إلى حصول تآكل آخذ في التعاظم في مكانة الجيش الإسرائيلي لدى المجتمع المدني وفي شرعيته لدى الجمهور.
وأضاف: هذا التآكل ينعكس أولاً وقبل أي شيء على الفئات التي تتهرّب من الخدمة العسكرية منذ إقامة الدولة. وهذه الفئات هي المجتمع الحريدي(الديني المتشدد) والجمهور العربي. صحيح أن دولة إسرائيل على حقّ في عدم تجنيد العرب، غير أن عدم استعداد هؤلاء للإسهام بدورهم في المجتمع في إطار الخدمة المدنية التطوعية يجعل من الصعب عليهم أن يطالبوا بالمساواة في الحقوق التي يستحقونها قانونيًا.
في الوقت نفسه فإنّ الجيش الإسرائيلي أضاع جوهره باعتباره جيش الشعب وكذلك تخلى عن الخدمة المدنية. وبات واجب الخدمة العسكرية ناجمًا عن القانون الإلزامي. إن الذي لا يتجند للخدمة العسكرية أو المدنية البديلة يمسّ بالتضامن الذي على أساسه أقيمت دولة إسرائيل والتي ما زلنا نقيم على بقاياها المجتمع الإسرائيلي إلى الآن. وقبل أن نتفرق إلى شظايا من الفئات التي لا صلة بينها يجب علينا أن نتحد مرة أخرى من حول التجنيد العسكري والمدنيّ وأن نحوله إلى نموذج حقيقي للتضامن المدنيّ والاجتماعيّ! (صحيفة "معاريف"، 9/8/2007).
من ناحيته اعتبر أبراهام بورغ، الرئيس الأسبق للكنيست والوكالة اليهودية، أن "مصطلح المتهربين بات مرادفًا لليساريين من ذوي النفوس الجميلة في تل أبيب الكبرى" وأن من الخطأ الكبير الانسياق وراء المعادلة التي تمدّ جسرًا من الصلة بين هؤلاء وبين "الجنود الذين يرفضون أوامر إخلاء المستوطنين" حسبما تجلّى الأمر في الخليل مؤخرًا. وأضاف: "بدل أن تغمر دولة إسرائيل موجة قلق من جراء المواقف المتطرفة للحاخامين والمتعصبين الذين تغلغلوا مثل الخلايا السرية في الأنسجة الرسمية والحكومية الإسرائيلية، فقد أوجدنا معادلة المساواة بين المتهربين ورافضي تنفيذ أوامر إخلاء المستوطنين واستشطنا غضبًا ليومين وشجبنا قليلاً وواصلنا الحياة قدمًا" (صحيفة "هآرتس"، 15/8/2007).
وفي قراءة بورغ سيحلّ خراب إسرائيل من ذلك الإجماع الذي يفتقر إلى القيم والمضمون. وبسبب هذا الإجماع ليس في وسع إسرائيل أن تحسم عدة أمور في الشؤون المتعلقة بالقيم وسياسة الدولة. وإنّ المعادلة الأخيرة التي أوجدها هذا الإجماع مدّت جسرًا يصل بين المتهربين من الخدمة العسكرية وبين الجنود الذين رفضوا تنفيذ أوامر إخلاء بيوت في الخليل. وبعد أن تنتهي موجات الديماغوغية والانتهازية الإعلامية سيتضح كم أن هذه المعادلة بالغة الخطورة، لأنها تعفينا من مواجهة ما هو موجود في مناطق إسرائيل المتوحشة. "إنّ المعادلة الحقيقية هي التي ترى القاسم المشترك بين رافضي تنفيذ الأوامر في الخليل وجذورهم التوراتية وبين حماس وحزب الله والأصولية المسيحية وسائر إخوتهم في دنيا التعصب الدينيّ"، على حدّ تعبيره.
أما رون بن يشاي، المعلق العسكري في الموقع الإلكتروني التابع لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، فقال إن هناك نوعين من "التهرّب" يسمان المجندينالإسرائيليين الذين ينخرطون في صفوف الجيش.
هذان النوعان هما بحسب بن يشاي:
الأول- أسماه "التهرّب الرمادي". ويتم من طرف شبان مؤهلين من النواحي كافة للخدمة العسكرية القتالية غير أنهم يتوجهون إلى وحدات غير قتالية أو يتحررون من الخدمة العسكرية قبل إنهائها. وفي رأيه فإن معظم هؤلاء كانوا سيتهربون من الخدمة العسكرية عمومًا لكنهم لم يفعلوا ذلك مخافة أن يوصموا بالعار من ناحية اجتماعية وتشغيلية.
وتابع بن يشاي قائلاً "إن الخدمة في الجيش الإسرائيلي لا تزال ذات قيمة في نظر معظم أبناء الشبيبة في الوسط العلمانيّ. وهم يعرفون أن عدمتجندهم يقلل من احتمالات قبولهم في وظائف نوعية لدى القطاعين الخاص والعام. ولذا فهم يتجندون في الجيش لكن أهلهم يبذلون كل ما يستطيعونه من جهد كي لا يخدموا في وحدات ميدانية قتالية".
النوع الثاني- هو تدفق أبناء الشبيبة من ذوي الكفاءات العالية على الخدمة في الوحدات المختارة (مثل وحدة هيئة الأركان العامة- سييرت متكال- ووحدة شلداغ ووحدة ماجلان وغيرها)، وهذا الأمر يخفض من مستوى الكفاءات التي تنخرط ضمن صفوف الوحدات القتالية الاعتيادية في الجيش الإسرائيلي ويخلق أزمة في تنشئة ضباط صف وقادة وحدات في المستقبل (موقع "واينت" الإلكتروني، 6/8/2007).
تأثير الحرب على لبنان
يذكر أنه تحت تأثير نتائج الحرب على لبنان في الصيف الماضي (2006) أثير موضوع "التهرّب من الخدمة العسكرية".
وقد رأى المعلق العسكري غلعاد كاتس، في مقال نشره في موقع "أوميديا" الإلكتروني المعروف بتوجهاته السياسية والأمنية الصقرية بتاريخ 8/5/2007، أن وجود نسبة 23% من الذكور ونسبة 40% من الإناث لا يؤدون الخدمة في الجيش، حتى ذلك التاريخ، يعتبر ضوءًا أحمر فوريًا من مغبة استمرار ظاهرة التهرب من هذه الخدمة خصوصًا على ضوء حرب لبنان الثانية التي "أثبتت أن دولة إسرائيل لا تزال في عين عاصفة الحرب، وهو ما يستوجب تعزيز قوة الجيش وتحصينه"، على حدّ تعبيره. وأضاف أنه "خلافًا بصورة مطلقة لوضع إسرائيل الموضوعي فإن هناك ميلاً لدى أقسام واسعة منالمجتمع الإسرائيلي للتغاضي عن هذا الوضع والاكتفاء بالمقاربة المادية (ماترياليستية) المتطرفة والعدمية القومية واللهاث خلف تحقيق الإنجازات. إن هذه المقاربة تسحب الأفضلية النوعية التي حافظت على إسرائيل طوال نحو ستين عامًا من قيامها. وهذه النوعية التي جعلت إسرائيل قصة نجاح غير مسبوقة تدير ظهرها لظواهر يتحول فيها رياضيون ومطربون وعارضات أزياء إلى رموز ثقافية (أيقونات) في نظر الكثير من الشبان... من المسؤول عن ذلك؟ هل هم أولئك النجوم أنفسهم أم المجتمع الإسرائيلي وفي مقدمته جهاز التربية والتعليم؟ من الصعب الإجابة عن هذا السؤال في هذا المقاملكن أصبح واضحًا لكل من يهمه أمن دولة إسرائيل وطابع المجتمع فيها أنه يستحيل الاستمرار على هذا النحو".
وختم هذا المعلق بالقول:
"لقد حان الوقت لأن يتم طرح موضوع مكانة الجيش في المجتمع الإسرائيلي للنقاش العام بصورة جادة. وفي إطار هذا الجدل ينبغي استيضاح ما إذا كان الجيش الإسرائيلي ما زال يشكل بوتقة صهر أم أنّ الحديث يدور عن فكرة عفا عليها الزمان؟. هل واجب التجند الملقى على عاتق جميع شبان إسرائيل ما زال ذا صلة، أم أنه ينبغي تحويل الجيش إلى جيش مهنيّ يحظى كل شاب يتجند فيه براتب، كما لو أنه يشتغل في عمل اعتيادي؟".
أما المؤرخ والخبير في شؤون الأمن القومي د. تشيلو روزنبرغ فأكد أن الدولة "التي لا تحيا على أساطير مؤسسة ليس في وسعها الاستمرار في الوجود... وليس من المبالغة القول إنّ إحدى أهم أساطير دولة إسرائيل بلغت الآن مرحلة أزمة من غير الواضح لأحد ما إذا كانت هناك إمكانية للخروج منها، وهذه الأسطورة هي كون الجيش الإسرائيلي جيش الشعب". وأضاف: "حتى القادة باتوا يعرفون الآن بأن الجيش الإسرائيلي لا يمثل الشعب كافة. ومن واجب ربابنة الدولة، من أجل مصلحة الجيش الإسرائيلي ومناعته، أن يتخذوا قرارات شجاعة. أول هذه القرارات، وأكثرها أهمية، هو أن الجيش الإسرائيلي ليس ناديًا اجتماعيًا. على الجيش الإسرائيلي أن يتركز في وظيفته الأساس مثل أي جيش، وهي الدفاع عن الدولة من أعدائها الخارجيين. وهذه هي الغاية الوحيدة التي ينبغي أن تناط به. في وضع كهذا يمكن بناء الجيش الإسرائيلي ضمن بنية تستجيب مع حاجات الدفاع عن الدولة والمجتمع".
عاصفة ليست بريئة
من ناحيته قال البروفيسور ستيوارت كوهين، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بار- إيلان وباحث زميل كبير في "مركز بيغن- السادات للدراساتالإستراتيجية" في الجامعة نفسها، إن التملص من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي لا يعتبر ظاهرة جديدة على الإطلاق. وقد ارتفعت نسبة الذين لا يخدمون في الجيش في الأعوام العشرين الفائتة باطراد (بلغت نسبتهم في العام 1980- 12،1% وارتفعت إلى 16،6% في العام 1990 لتصل إلى 23،9% في العام 2002). كما أن المجموعة الكبيرة من بين نسبة الـ25% الذين لا يخدمون في الجيش مؤلفة من الشبان الحريديم (11%). ومع أن عدم تجنيد الحريديم هو ظاهرة تستحق الاهتمام، في رأي كوهين، فإنها في سياق العاصفة الحالية مجرّد صرف للأنظار لأنه لم يطرأ أي تغيير مفاجئ يذكر على مقاربة هذه المجموعة لروح الخدمة العسكرية في الجيش. فجمهور الحريديم لم يبد البتة حماسةً للتجند في الجيش الإسرائيلي وارتفاع نسبة غير المجندين في صفوفهم هو نتيجة لنسب الولادة العالية لديهم. وإذا ما انضافت إلى النسبة السالفة نسبة الذين لا يتجندون بسبب وجودهم في خارج البلاد أو بسبب ماضيهم الجنائي أو بسبب حصولهم على إعفاءات لأسباب طبية تبقى نسبة الذين من المحتمل أن يكونوا قد تعرضوا "لتغيير قيمي في موقفهم من الخدمة العسكرية" محصورة في نطاق 5% فقط! وحتى لو أضيفت إلى هؤلاء نسبة الذين يتجندون ولا يظهرون تحفزًا للخدمة في الوحدات القتالية ونسبة الذين يحصلون بعد تجندهم على تسريح مبكر من الجيش بادعاءات تكون أحيانًا كاذبة، فإن الصورة العامة تبقى دون تغيير، وهي تفيد بأن التهرّب من الخدمة العسكرية هو ظاهرة هامشية.
وأضاف كوهين، الذي يعتبر خبيرًا رائدًا في مجال العلاقات المتغيرة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل وفي مجال سياسة القوى البشرية التي ينتهجهاالجيش الإسرائيلي، أن ما يثير الاستغراب هو أن نسبة 5% فقط من المجندين المحتملين يحاولون التهرب من الخدمة العسكرية وذلك في ضوء الصورة المرتسمة عن الجيش الإسرائيلي في نظر الشبان الإسرائيليين قبل التجند في صفوفه، والناجمة أساسًا عن المهمات الموكولة إليه خلال الأعوام القليلة المنصرمة في المناطق الفلسطينية (المحتلة) وخلال تنفيذ عملية الانفصال عن قطاع غزة وبعض أجزاء شمال الضفة الغربية وفي أثناء حرب لبنان الثانية.
وخلص كوهين إلى القول إن ما يفسر هذه العاصفة، التي أثارها كبار قادة الجيش الإسرائيلي، هو ما ورد في تقرير لجنة بروديت بشأن الميزانية الأمنية الإسرائيلية الذي نشر في أيار/ مايو 2007. فقد أظهر هذا التقرير كيف أن الجيش الإسرائيلي أفرط في استعمال "مناورات افتعال الأزمات" لكي يضفي شرعية على مطالباته المتكررة بزيادة الميزانية الأمنية السنوية بصورة مضخمة. وقد وجد تقرير بروديت أن ما ينبغي شجبه في هذا السلوك "هو ليس واقع أن الجيش الإسرائيلي خدع الجمهور والساسة فحسب وإنما أيضًا أنه بذلك استنكف عن تطبيق الإصلاحات المطلوبة، وبدل أن يصبح جيشًا ناجعًا تحوّل إلى هيئة متضخمة وثقيلة".
وسواء لقي تحليل البروفيسور ستيوارت كوهين هذا أذنًا صاغية لدى المؤسسة السياسية الإسرائيلية وغيرها أم لا فإن ما ينبغي إعادة التذكير به هو "حكم القيمة" الصادر عن باحث إسرائيلي آخر هو د. ياغيل ليفي، المتخصص في دراسة الجيش الإسرائيلي، في سياق كتاب صدر له أخيرًا ويحمل عنوان "من جيش الشعب إلى جيش الضواحي"، والذي أحال فيه استلاب المؤسسة السياسية للمؤسسة العسكرية إلى هيمنة الفكر العسكريّ على إسرائيل. ويعني ذلك، من جملة أمور أخرى، أن التحدّي الأهم الذي يواجه المؤسسة السياسية الإسرائيلية هو كبح جماح الفكر العسكري المسيطر عليها، لا كبح جماح المؤسسة العسكرية، التي تميل بطبيعتها إلى الحلول العنيفة والهدّامة.