مما لا ريب فيه، أن المظهر الأبرز في المشهد الإسرائيلي العام المطل من خلف صورة الحملة العسكرية الواسعة، التي تشنها إسرائيل منذ ما يزيد على عشرين شهراً ضد الشعب الفلسطيني، بهدف إخماد انتفاضته، كان ولا يزال المظهر المتمثل بتكتل واصطفاف المجتمع الإسرائيلي على اختلاف مكوناته وتشكيلاته ومؤسساته الفاعلة، خلف هذه الحملة وأهدافها المعلنة. وازداد طغيان هذا المظهر وتجلى بوضوح أشد منذ أن شرعت حكومة أريئيل شارون في حرب الإجتياح وإعادة الإحتلال الدموية (التي تسميها حكومة شارون عملية "السور الواقي") لمناطق السلطة الوطنية الفلسطينية. غير أن هذا الوضوح الشديد في ما يسود المشهد الإسرائيلي لا يمثل بطبيعة الحال كامل الصورة بكل أبعادها وثناياها، إذ من المعلوم أنه كان لهذه الحملة العسكرية الإسرائيلية في شتى مراحلها ومسمياتها، إفرازازت وتداعيات داخلية عديدة، والتي، وبصرف النظر عن وزنها وآثارها العملية، لم تزل تتفاعل على الساحة الداخلية الإسرائيلية
.
هذا التفاعل الذي لم يُتوج أو يتمخض بعد عن أية حصيلة ذات شأن باتجاه إحداث تغيير ملموس في العقل السياسي الإسرائيلي فيما يخص قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يتجلى أكثر ما يتجلى في "نوبات" الجدل والنقاش التي تطفو أصداؤها بين الفينة والأخرى على سطح المشهد الإسرائيلي ذاته... وقد لوحظ بوضوح ارتفاع في وتائر هذا الجدل والنقاش، وإن كان طابعه لا يزال في حدود المألوف، منذ بدء حرب الإجتياح والتدمير وإعادة الإحتلال الشاملة ضد مناطق السلطة الوطنية في الضفة الغربية أواخر آذار الماضي، وهو ما أمكن ويمكن رصده في العديد من المقالات والتقارير والمعالجات التي نشرتها الصحف الإسرائيلية خلال الفترة الأخيرة.
في الصفحات التالية سَنُقَّلِب عدداً من الأوراق التي تضم وتنقل طائفة من الآراء ووجهات النظر المكتوبة بأقلام عدد من الكتاب والمعلقين والمراسلين الصحافيين الإسرائيليين، والتي تسلط الضوء وتعكس بعض جوانب ما وصفناه بـ "نوبات الجدل" التي تنتاب قسماً من الإسرائيليين حيال الوضع الراهن.
***
الكاتب والمحلل السياسي عوزي بنزيمان، كتب في مقالة نشرتها صحيفة "هآرتس" (عدد 19 أيار 2002): إن الطبقة السياسية الإسرائيلية تعيش في ظل أكذوبة كبيرة أخذت تتكشف بكل عريها في عهد حكومة أريئيل شارون.
وأضاف: إن هذه الطبقة لا تجرؤ على المجاهرة بصوت مسموع بالاستنتاج الذي يتوصل إليه أقطابها في الغرف المقفلة ومؤداه أنه لا يمكن الإبقاء على المأزق (الصراع) الإسرائيلي – الفلسطيني دون حل لردح طويل من الزمن. ويُعّبِر الكاتب عن رؤيته للحل بقوله: إن الفصل بين الشعبين (الإسرائيلي والفلسطيني) اللذين يعيشان في تداخل وتشابك شديدين، أضحى ضرورة أساسية وملحة لكليهما، ذلك لأن استمرار هذا التداخل منوط بدفع أثمان باهظة آخذة بالإرتفاع سواء على صعيد الخسائر في الأرواح أو الخسائر الإقتصادية... أو على صعيد استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط برمته.
ويمضي "بنزيمان" إلىالقول: إن الإرهاصات التي يمر بها الفلسطينيون والإسرائيليون منذ حوالي عشرين شهراً، لم تجد بعد إنعكاساً لها في سلوك ومواقف الطبقات السياسية لدى الطرفين، حيث لا تزال هذه الطبقات – كما يقول بنزيمان – على الأقل على المستوى العلني، تتمسك بمفاهيمها ووجهات نظرها السابقة، ولا تعمل على خلق الحافز المطلوب لمواءمة برامجها مع الواقع.
وبحسب رأي الكاتب، فإن ذلك يتجلى، لدى الجانب الفلسطيني، في استمرار دعوة الرئيس ياسر عرفات إلى "مسيرة المليون شهيد إلى القدس"، ولدى الجانب الإسرائيلي في إستمرار رئيس الوزراء أريئيل شارون بالتحدث عن التسوية بمفاهيم "القطاعي" أو "المفرق" من قبيل: اتفاق انتقالي طويل الأجل.
ويشدد "بنزيمان" في هذا السياق علىأن: الأكذوبة التي يعيش شارون في ظلها حالياً تتمثل في رفضه الإعلان أو الإقرار بأنه لا يمكن إحلال السلام دون إزالة وتفكيك مستوطنات تقوم على أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنه (شارون) يواصل التحدث عن استعداده لـ "تقديم تنازلات مؤلمة" في التسوية الدائمة، لكنه يرفض في الوقت ذاته تلبية المتطلب (الثمن) الفعلي المترتب على مثل هذا التصريح اللفظي. ويخلص "بنزيمان" إلى استبعاد الأمل في إحراز أي تقدم أو إنفراج سياسي في ظل حكومة شارون الذي يبدي "رعونة وخشية من مكاشفة الجمهور بحقيقة أنه لا مناص من القيام بانسحاب كبير، إن لم يكن انسحاباً كاملاً، من جميع الأراضي الفلسطينية، وأنه لا مناص بالتالي من التخلي عن المستوطنات".
حرب "السور الواقي" و "وحدة المجتمع الإسرائيلي"!
في مناقشة لهذا الموضوع، مدعومة بنقل مشاهد ووجهات نظر إسرائيلية تحليلية، كتبت "ليلي غاليلي" في مقالة تقريرية بصحيفة "هآرتس" (16 أيار 2002): أن الحرب لم تعد توحد سكان البلاد (إسرائيل)، وبالأخص هذه الحرب الجارية الآن التي تولد شعوراً بأنها "حرب مخصصة".
تستهل "غاليلي" تقريرها بسرد المشهد التالي:
ظهر أحد أيام الجمعة، وفي خضم عملية "السور الواقي"، وقفت مجموعة من رافضي الخدمة العسكرية (جنود وضباط في الإحتياط) في شارع "عميق رفائيم" في القدس (الغربية)... رفع هؤلاء (أثناء تظاهرتهم) أعلام إسرائيل ووزعوا منشورات لحركة "يوجد حدّ". بعد لحظات قليلة من تجمع هؤلاء الرافضين للخدمة، بدا الشارع وكأنه تحول إلى حلبة شجار ومصارعة... حيث قوبل المحتجون بصيحات استنكار وشجب من جانب مارّة متعصبون بينهم شبان متدينون لم يخدموا مطلقاً في الجيش الإسرائيلي... إندفع فجأة من بين صفوف المتجمهرين في المكان شاب وأمسك بالطرف الآخر للعلم (علم إسرائيل) الذي كان مرفوعاً في يد أحد رافضي الخدمة، قائلاً له "ليس لك الحق في رفع هذا العلم" و ... "هذا علمي أنا وليس علمك..." وراح كل منهما يشد العلم لجهته... في هذه الأثناء وصلت سيارة دورية شرطة إلى مكان التجمهرة، وترجلت منها على عجل إحدى الشرطيات التي تدخلت في محاولة لفض "الإشتباك" بين المتنازعين على العلم... أمسكت الشرطية بدورها بطرف عصا العلم وأمرت الرجلين المتنازعين بالكف عن الإمساك به (أي العلم) قائلة:"العلم اصبح الآن لي أما ..." ... وهكذا راح الثلاثة يسحبون العلم كل في اتجاهه!
هذا المشهد البسيط، تقول "غاليلي"، بدا مشهداً يُعّبر رمزياً عن الواقع الإسرائيلي خلال الشهور الأخيرة... وتضيف: صحيح أن التوتر الأمني – وهو الوصف العام جداً لـ "هذا الشيء" الذي ليس من المعروف إذا ما كان صحيحاً تسميته أو وصفه بـ "حرب" – يُنهِك الأعصاب، لكن هذا الوضع لم يستطع، ولم يؤد إلى توحيد ورصّ صفوف المجتمع الإسرائيلي... فيما يبدو في الظاهر كإجماع قومي في ظل وضع من التهديد الوجودي إنما يمثل في الواقع صراعاً ضارياً بين مجموعات وقطاعات مختلفة في المجتمع (الإسرائيلي) حول الطابع المستقبلي للدولة الإسرائيلية.
وتمضي الكاتبة مشيرة إلى أن: التضامن والتكاتف الإجتماعي كانا في ما مضى وصفاً أو شعاراً مرادفاً للحروب التي خاضتها إسرائيل، أو على الأقل جزءاً لا يتجزأ من الأسطورة... في حين نجد أن الشهور العصيبة الأخيرة أظهرت المجتمع الإسرائيلي في حالة من الإنقسام والتشرذم المعهودين، ولا يقتصر ذلك على الصعيد السياسي وحسب. فجميع التناقضات والإنقسامات الإجتماعية لا تزال قائمة على حالها كما في الظروف والأوقات الإعتيادية ... ولعل القاسم المشترك الإجتماعي الوحيد يتمثل في "الخوف من عمليات الإرهاب"، لكن الخوف، وخاصة في سياق الإرهاب، يبقى مجرد عامل شخصي (خاص) لا يولد تكاتفاً وتعاضداً.
يقول الدكتور يحئيل كلر، أستاذ علم النفس في جامعة تل أبيب، في وصفه للنزاع الحالي المندلع بين إسرائيل والفلسطينيين منذ حوالي عشرين شهراً: "هذه هي الحرب الأكثر خصخصة..." من بين سائر الحروب والمعارك التي عاشها الإسرائيليون...
ويضيف د. كلر الذي شارك مؤخراً في إعداد بحث حول ردود فعل المجتمع الإسرائيلي على الأحداث والعمليات التي تشن في نطاق الإنتفاضة الحالية: إن كل إسرائيلي ظل يقف بمفرده وجهاً لوجه إزاء الخطر الخاص المحدق به شخصياُ، دون أن يكون هناك إطار أو جامع وطني عام يحارب الإسرائيليون تحت رايته أو بإسمه، إطار يتولى حمايتهم والذود عنهم... ويستطرد "كلر" موضحاً: هناك شعور يمكن وصفه بـ "خصخصة الخوف"، وليس إحساساً بخطر محدق بالوجود القومي ... فالحرب تنطوي عادة على هدف يوحد صفوف المجتمع، لكن "في ظل وضعنا، حالتنا الراهنة، ما من هدف جماعي مشترك"...
ويبين د. كلر في هذا السياق أن : عملية "السور الواقي" رمت من ضمن ما رمت إليه، إلى محاولة خلق إحساس بالحرب – لدى الإسرائيليين – لكن هذه المحاولة لم تتكلل بالنجاح، إذ إن هذا الشعور، الإحساس، كان مجرد حالة عابرة، مؤقتة...
ويمضي د. كلر إلى القول إن : الحروب شكلت في الماضي لحظة إنفراج وانتعاش للإسرائيلية، أما الآن فلا توجد مظاهر انفراج اجتماعي أو مظاهر تجنّد جماعي... هناك فقط "نوع من التأقلم في مواجهة عمليات الإرهاب".
وتشير "غاليلي" إلى وجود محاولات لخلق مثل هذا الشعور الجماعي تجاه الوضع الراهن، وذلك بطرق مصطنعة تتبدى في مظاهر عاطفية للغاية، مثل بعض الملصقات التي تشاهد على سيارات الإسرائيليين، والتي تحمل عبارات من قبيل "شكراً من القلب" (وهذا الشكر موجه لقوات الأمن الإسرائيلية) أو رسمة نجمة داود، والأغرب من هذا وذاك – كما تقول غاليلي – هو الملصق الذي يتضمن عبارة "الشعب معك يا حكومة إسرائيل"، وذلك في تبديل معكوس للأدوار، على غرار ما يتم في دول ديكتاتورية، وهو ما يرمز بشكل خاص، حسب رأي كاتبة المقال، إلى "حكومة ضعيفة تنشد العطف والحماية، أكثر مما يرمز إلى تكاتف والتفاف الشعب حول سياسة هذه الحكومة وأفعالها".
وتستعرض "غاليلي" عدداً من التجليات البارزة لغياب التكاتف الإجتماعي في إسرائيل في مواجهة الوضع الراهن، مشيرة إلى العديد من المظاهرات والإضرابات الإحتجاجية التي جرت خلال الشهور الماضية، والتي تمحورت حول قضايا ومطالب اجتماعية واقتصادية، وذلك خلافاً لما جرت عليه الأمور في الحروب السابقة التي خاضتها الدولة العبرية، حيث "كانت الإحتجاجات والنزاعات الداخلية والساحة الإجتماعية الإسرائيلية برمتها تصمت تماماً في ظل هدير المدافع...". في هذا الصدد، يقول البروفيسور يهودا شنهاف، عالم الإجتماع المحاضر في جامعة تل أبيب: نلاحظ الآن انقطاعاً تاماً بين الوضع الإجتماعي – الإقتصادي وبين الوضع الأمني... هذا شيء لم نعهده من قبل".
ويعطي "شهناف" لهذا الإنقطاع (الوضع) الجديد، تفسيرين يكمل أحدهما الآخر كما يقول، الأول: إن حالة اللامساواة بين الطبقات الإجتماعية (في إسرائيل) قد ازدادت وتعمقت إلى الحد الذي لم تعد فيه لأجهزة ومؤسسات التجنيد للحرب سلطة وهيبة إزاء هذه الطبقات... والتفسير الثاني أن أقساماً واسعة من الجمهور الإسرائيلي لا تُقرّ بعدالة هذه الحرب (الحرب الحالية التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين).
ويقول البروفيسور "شهناف" موضحاً: لو أن هذه الحرب أُعتبرت عادلة في نظر جميع الإسرائيليين، فلربما كان في مقدورها التقليل من شأن وأهمية الفجوات – الإجتماعية والإقتصادية – بما يؤدي بالتالي إلى تجنيد وحشد الجميع (خلف هذه الحرب وأهدافها...).
ويضيف: على الصعيد الإجتماعي، ثمة هنا مقولة فيما يتعلق بطابع الحرب ومشروعيتها، ربما أن الحديث يدور هنا عن عملية طويلة من خصخصة الأيديولوجيا... ففي عصر ما بعد الحداثة لم تعد الدولة تملك أجهزة وأليات التجنيد والتحشيد التي امتلكتها في الماضي".
ويستطرد "شهناف" قائلاً: في الماضي ساد الإعتقاد بأن الحرب تضر بالفقراء والمحتاجين، من حيث أنها تمنع تدفق ميزانيات ضخمة كان يمكن أن تحول لفائدتهم... لكن السلام الذي تحقق لفترة من الوقت لم يجلب لهم بدوره المنفعة أو الفائدة المرجوين. وهكذا انبثق الإستنتاج بأن السلام والحرب على حد سواء، ما هما إلا ملهاة في يد الأغنياء. والحرب والسلام عملية سياسية تنتج عنها لا مساواة، ولذلك، ما من سبب خاص يدعو (الطبقات الفقيرة) إلى التزام الهدوء حتى في وقت الحرب...
فالفقراء يدركون أنه إذا حل السلام المنشود، فسوف تأتي بعدئذٍ حكاية العولمة... والشعور بالوطنية والتضامن القومي يتداعيان من تحت، من خلال انعدام العادلة الإجتماعية، ومن فوق، من خلال العولمة".
كذلك الحال بالنسبة للتوترات والصراعات الطائفية في إسرائيل... فهذه التوترات حسب تقرير "غاليلي" ليس فقط لم تتوار في ظل الوضع الحالي الذي يسود فيه تكاتف ظاهري في المجتمع الإسرائيلي، بل إن هذه التوترات شهدت أيضاً تطورات وتعقيدات مفاجئة... ففي عدد من المقابلات التي نشرت مؤخراً في صحيفة "معاريف" روى إسرائيليون – يهود – ذوو ملامح شرقية عن مصاعب عديدة يواجهونها يومياً جراء الوضع الراهن. يقول ألون حداد، من سكان تل أبيب، في شهادة بليغة على هذا الوضع: كلما أصعد إلى حافلة أو سيارة أجرة، ألاحظ أن الركاب يتجمدون في أماكنهم... في البداية كنت أسأل بصوت مرتفع (كم الساعة الآن؟!) حتى يسمع بقية الركاب أنني أتكلم العبرية بلكنة صحيحة (محاولاً بذلك درء الشبهة والمخاوف المرتسمة في عيون ونظرات الركاب...) لكنني مللت هذا الوضع في الفترة الأخيرة".
يقول البروفيسور "شهناف" معلقاً: إن الوضع الأمني يمحو الحدود بين اليهودي الشرقي والعربي (الفلسطيني) وقد وجد ذلك تعبيراً نفسياً له، حيث أن عدداً متزايداً من اليهود الشرقيين يشاهدون الآن وهم يتقلدون على صدورهم قلادة نجمة داود حتى لا يظن المارة أو الركاب أنهم عرب.
من جانب آخر، فإن الشعار الجديد الذي يتبناه معسكر السلام الإسرائيلي، الذي تحدث على مرّ سنوات طويلة بمصطلحات ومفاهيم تدعو إلى إنصاف الفلسطينيين أصبح الآن: "لنخرج من المناطق من أجل إسرائيل". وفي تفسير لذلك، تقول "غاليلي": إن شعور التضامن القومي وأحياناً التضامن الديني أيضاً، يولد نوعاً من القيود والضوابط التي تعزل اليهود الإسرائيليين عن "الآخرين"... ومع ذلك – تُنهي غاليلي تقريرها قائلة – لا تزال تمور داخل هذا المجتمع (الإسرائيلي) المقفل، كافة التناقضات والفجوات والصراعات التي لا تداويها الحرب أو السلام...
أكذوبة "حرب الدفاع عن البيت"
الكاتب والمحلل "زئيف شترنهل" يواصل من جهته مناقشة الموضوع من الوجهة السياسية والتاريخية في مقال نشر في نفس العدد من صحيفة "هآرتس" (16 أيار 2002)، حيث كتب يقول:
نظرية الإستيطان التي توجه سياسة الحكومة الحالية باتت تقتضي النظر إلى الصهيونية ليس باعتبارها حلاً لـ "المسألة اليهودية"، وإنما تجسيداً للوعد الإلهي...
ومن هنا يأتي الإستنتاج بشأن حق اليهود في السيطرة على (أرض إسرائيل-فلسطين) بأكملها، في حين يُنظَر إلى خطوط الهدنة من العام 1949 باعتبارها حالة عابرة في صراع لا يزال مستمراً، ولن يتوقف إلا بعد أن يُطرد من البلاد آخر عربي يرفض الإعتراف والإقرار بسيادة اليهودي...
وبحسب ما يراه "شترنهل" فإن: هذا هو المغزى الحقيقي لمفهوم أو إصطلاح "حرب الدفاع عن البيت" (الشعار الذي أطلقه شارون على "حرب إعادة احتلال مناطق السلطة الوطنية") والذي يشكل حالياً أساساً للتماثل الفظ المسمى لدينا "وحدة وطنية". وعلى هذه الأكذوبة الكبرى، يعيش اليوم المجتمع الإسرائيلي، وهي الأساس الذي تستند عليه عملية "غسل الدماغ" اليومية التي يمارسها ساسة اليمين وغالبية ساسة حزب "العمل" والكثيرون جداً من رجالات الإعلام والمثقفين الإسرائيليين.
ويضيف الكاتب إن هذا الأمر: لا ينطوي على خصوصية كبيرة، فبمقدار ما يكون المجتمع أقل اقتناعاً بعدالته الأخلاقية، بمقدار ما تكون ثقته أقل بأهداف الحرب التي فرضها عليه حكامه، حيث تكون هذه الحرب بحاجة أكثر إلى دعاية وضغوط وتهديدات... ويجري "شترنهل" مقارنة ذات دلالة في هذا الصدد، بقوله: يعلم الجميع أن حرب الجزائر شكلت وصمة عار في تاريخ فرنسا خلال النصف الثاني من القرن العشرين... فقد أُرتكبت هناك على مدى عشرات السنين جرائم حرب جرى إنكارها أو طمسها (من جانب الفرنسيين المستعمرين)... واليوم ليس هناك أي سبب يدعو للإعتقاد أن المؤسسات الرسمية في دولة إسرائيل ابتداءً من الجيش وانتهاء بوزارة الخارجية أكثر مصداقية من الـ "كي دورسي" الفرنسية في تلك الآونة. غير أنهم هناك، في فرنسا، يعربون الآن علىالأقل، عن ندمهم ويكفرون عن ذنبهم، في حين أن الإسرائيليين ما زالوا ينتظرون من أريئيل شارون "مهندس غزو لبنان" (1982) أن يطلب الصفح والمغفرة من ذوي ضحايا حرب الإستيطان الأولى... وليس صدفة أن مثل هذا الإعتذار لن يتم، ذلك لأن عملية "السور الواقي" ليست سوى استمراراً لحملة "جهنم الكبرى"... فحرب لبنان (1982) لم تكن في الواقع سوى مرحلة أولى في استراتيجية شاملة لليمين الإسرائيلي الإستيطاني، هدفها –كما يقول الكاتب- تحطيم وتركيع الحركة الوطنية الفلسطينية بما يتيح (لهذا اليمين) ضم أوسع أجزاء ممكنة من أراضي الضفة الغربية (إلى إسرائيل) ... لذلك –يمضي شترنهل- وعندما لم يكن هناك من أحد يحلم بعد بـ "أوسلو"، شن شارون حملة للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية وعلى زعيمها ياسر عرفات. ويجزم الكاتب أن: ما يجري الآن (في إشارة لـ "عملية السور الواقي") ما هو إلاّ محاولة من جانب شارون لإستكمال المهمة التي بدأها في إجتياح (غزو) لبنان 1982... فـ: "عمليات القمع والإذلال والسلب والنهب والممارسات التي توصف حتى من جانب شهود عيان إسرائيليين أحياناً على أنها ممارسات همجية، تُوظف في خدمة نفس الهدف الذي حُدّد لقوات الغزو الإسرائيلية للبنان قبل عشرين عاماً.
ويقول "شترنهل" إن هذه الأعمال والممارسات، حتى وإن لم توصف بعد من الناحية القانونية المجردة، على أنها جرائم حرب، تثير القشعريرة لدى الكثيرين بما في ذلك الذين يرتدون أو ارتدو في الماضي زي الجيش الإسرائيلي...".
ويرى الكاتب أن غالبية أقطاب السياسة الإسرائيليين الذين تعاقبوا على السلطة، استخلصوا من "المحرقة" استنتاجاً رئيسياً واحداً... فهم لم يصبحوا أشد حرصاً تجاه قدسية الحياة وحقوق الإنسان ومعايير العدل العالمية، وإنما استخلصوا أن الشعب الذي اكتسب خبرة وتجربة من خلال حطام فشله يجوز له كل شيء. وأنه ليس من حق أحد أن يرتاب في ما يفعله. ومن هنا فإن كل من يجرؤ على وصف أنماط وصنوف ممارسات النظام الإسرائيلي بأنها سلوك مُخزٍ، إن لم يكن إجرامياً بشعاً، سيوصم أتوماتيكياً (من جانب هذا النظام الإسرائيلي) بـ اللاسامية.
فالمجتمع الواقع تحت الضغط لن ينظر إلى نفسه في المرآة بعيون متبصرة، وإنما سيلقي على الآخرين تبعة كل ما يعانيه من مشاكل... وعلى ما يبدو فإننا نجد في إتهام منتقدي إسرائيل باللاسامية أمراً أسهل من أن نسأل أنفسنا كيف يمكن، وكيف يجب أن تكون ردة فعل الإنسان العاقل الذي يشاهد صباح مساء دبابات أحد اقوى الجيوش في العالم وهي تجوب شوارع مدن ومخيمات لاجئين تعرضت للقصف والتدمير؟. ويرى "شترنهل" أن استخدام ذريعة "اللاسامية" على نطاق واسع، في مواجهة رأي عام عالمي أضحى اليوم أشد حساسية تجاه حقوق الإنسان، مآله أن يرتد إلى نحر صاحبه. ويضيف، أن حركة الإستيطان الإسرائيلية، تحتاج، كأية حركة قومية متطرفة، إلى عدو... ووجود مثل هذا العدو يعد بمثابة ضرورة منهاجية دائمة. ولعل مقولة "كل العالم ضدنا" تلعب مثل هذا الدور... إنها أسطورة تنطوي على عنصر قوي من التزوير الواعي، لكن هذا العامل أو العنصر يتيح إسكات الضمير ودفن الرأس في الرمال في وقت صار فيه الواقع لا يُطاق.
***
بين غزو لبنان (82) وغزو الضفة الغربية (2002)
انتهز العديد من الكتاب وحملة الأقلام الإسرائيليون مناسبة مرور عشرين عاماً على غزو إسرائيل للبنان صيف العام 1982، والتي تصادف في هذه الأيام، لعقد مقارنات تبحث عن أوجه الشبه والإختلاف بين الغزو العسكري الإسرائيلي للبنان في حزيران 1982 والإجتياح العسكري الإسرائيلي الحالي لمدن ومخيمات الضفة الغربية.
وجاء في مستهل تقرير كتبه "أرييه ديان" ونشرته صحيفة "هآرتس" (عدد 16 أيار): كانت شواطىء السباحة والمقاهي في تل أبيب تعج بالرواد ظهيرة يوم السبت 5 حزيران 1982... كانت عملية تجنيد الإحتياط توطئة لغزو لبنان في ذروتها، لكن حياة معظم مواطني إسرائيل جرت كالمعتاد. لم يكن هناك إحساس بالخطر أو التهديد يُخيّم على الناس... في هذه الأيام، وبعد مرور عشرين عاماً، حيث تخوض إسرائيل مواجهة عسكرية جديدة، تبدو الأجواء في شوارع تل أبيب مختلفة تماماً. بيد أنه وإلى جانب الفروقات بين الحربين هناك تشابه كبير بينهما. فـ "أرئيل شارون" وياسر عرفات هما أبرز وأهم رجلين في كلا الحربين. وكانت إسرائيل تتمتع في الأولى (حرب1982)، تماماً كما في الحرب الحالية، بتأييد سياسي أميركي، في حين عانى الفلسطينيون في كلا الحالتين من لا مبالاة العالم العربي تجاه مصيرهم.
وفي كلا الحربين سقطت أعداداً كبيرة من المواطنين والمدنيين الفلسطينيين، ولحقت أضرار جسيمة بمدن مهمة (صور وصيدا في حرب 82 ورام الله وجنين في الحرب الحالية)، ورفضت إسرائيل في الحالتين اتهامات بشأن ارتكابها لجرائم حرب. وفي الحربين أعلنت إسرائيل أن كل ما تهدف إليه هو "القضاء على بنية الإرهاب"، لكنها وضعت لنفسها في الحالتين أجندة مختلفة، تضمنت أهدافاً سياسية بعيدة المدى.
ويبرز بشكل واضح الفرق في نظرة الجمهور الإسرائيلي إلى الحربين... فقد واجه كثيرون من بين الإسرائيليين الذين أيدوا في ذلك الحين أجندة شارون غير المعلنة-القضاء على منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان توطئة لفرض حل على الفلسطينيين في الضفة والقطاع يُمنحوا بموجبه حكماً ذاتياً محدوداً تقوده "زعامة بديلة" –واجهوا صعوبة في تقبل استخدام القوة الضخمة والمفرطة في سبيل تحقيق هذا الهدف.
ولا شك أن الهوة الجلية بين الذرائع المعلنة لحرب 1982 –اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن و "ضمان سلامة الجليل"- وبين اجتياح بيروت قد أثار غضب قسم من الإسرائيليين.
في المقابل، ثمة اليوم بين الإسرائيليين الذين يعارضون أجندة شارون غير المعلنة –القضاء على السلطة الفلسطينية بهدف فرض "قيادة بديلة" تقبل بحل يقوم على كانتونات مجزأة ومحاطة بالمستوطنات- الكثيرون الذين يعتقدون أن عملية التفجير التي استهدفت فندق "بارك" في نتانيا قد استوجبت من الحكومة التصرف بالطريقة التي تصرفت بها (عملية "السور الواقي").
ويمضي "ديان" في تقريره مشيراً إلى: فارق جلي آخر بين الحربين ينبع من متغيرات مر بها المجتمع الإسرائيلي خلال العقدين الأخيرين، وهذا الفارق يتمثل في إنحسار تسامح المجتمع تجاه الآراء ووجهات النظر الخارجية عن "الإجماع" الإسرائيلي. صحيح أنه جرت في العام 1982، محاولات لاسكات وخنق الأصوات المنتقدة للحرب، لكنه لم ينشأ واقع مشابه للواقع القائم حالياً، حيث تسارع منظمات وهيئات جماهيرية مختلفة (ابتداءاً من نقابة الأطباء مروراً بالمجلس الأعلى لنقابات ومنظمات السلك الأكاديمي وانتهاء بنقابة الفنانين الإسرائيليين) إلى الوقوف والإصطفاف إلى جانب الحكومة، وضد كل من يجرؤ من زملاء هؤلاء على توجيه انتقاد للحرب الحالية ضد الفلسطينيين.
يقول د. يهودا بن مائير، الذي شغل منصب نائب وزير الخارجية في فترة حرب لبنان، ويعمل الآن باحثاً في نطاق مركز الدراسات الإستراتيجية في جامعة تل أبيب، إن هناك اختلافاً يفوق كل تصور بين حرب لبنان 1982، وعملية "السور الواقي"... ويضيف: القتال يدور في هذه المرة على مقربة من البيت ولا يوجد أي احتمال في ابتعاد ونقل المعركة إلى الشرق من نهر الأردن... هذه المرة لا يوجد طريق بيروت-دمشق ليتم الوصول إليه، ولذلك فإنه يُنظر إلى عملية "السور الواقي" باعتبارها تهدف إلى تحقيق مصلحة أمنية حقيقية لإسرائيل... هذه العملية لها هدف محدد وواضح ("وقف الإرهاب") وهو هدف مقبول لدى الجمهور الإسرائيلي. ويعتقد "بن مائير" أن موقف الرأي العام الإسرائيلي سيتغير فقط إذا اتضح، كما حصل في حرب لبنان، أن للعملية أهدافاً مختلفة عن أهدافها المعلنة... وبحسب د. بن مائير، فقد "برهن شارون أنه تعلم من حرب لبنان عدة دروس... ففي العام 1982 كانت لديه خطط طموحة، واجهت تعقيدات وأدت إلى فقدان دعم وتأييد الرأي العام الإسرائيلي، هذا أولاً، وثانياً في لبنان رأى شارون في الأميركيين عاملاً معيقاً ودفع نحو مواجهة صعبة بين مناحيم بيغن والرئيس ريغان، أما الآن فهو يحرص على تنسيق كل خطواته مع الأميركيين... الدرس الثالث الذي استخلصه شارون مرتبط بأهمية الحفاظ على "الوحدة الوطنية"، إذ أدرك أن وجود حزب العمل وشمعون بيريس في المعارضة سيجعل الأمور أصعب بكثير سواء هنا في البلاد أم في أوروبا...".
شولميت ألوني، (الزعيمة السابقة لحركة "ميرتس") وعلى عكس "بن مائير"، تعتقد أن هناك تشابهاً يكاد يكون تاماً بين الحربين. وهي ترى أن جانباً كبيراً من تأييد الجمهور الإسرائيلي لعملية "السور الواقي" يعود إلى وجود شمعون بيريس في حكومة شارون... وتقول "ألوني": "شارون بادر إلى شن الحربين، فيما وفر شمعون بيريس شرعية وغطاء لهما... في العام 1982 كان بيريس يتزعم المعراخ (التجمع) إلى جانب اسحق رابين. حيث دفع حزبه نحو تأييد الحرب. وقد استمر التأييد الشعبي (في إسرائيل) العارم لتلك الحرب طيلة الوقت الذي أيدها فيه المعراخ... اليوم يقوم بيريس الحائز على جائزة نوبل للسلام بتجنيد الدعم لأعمال شارون سواء في البلاد أو في الخارج".
وتعتقد "ألوني" أنه لا يجوز لليسار الإسرائيلي دعم وتأييد حرب تقوم على "محاصرة المدن الفلسطينية وتجويع السكان الفلسطينيين ووضعهم تحت حظر التجول وتدمير ممتلكاتهم". وهي مقتنعة أن لدى شارون في هذه المرة أيضاً نوايا خفية وتقول "خطط شارون لم تتغير. في العام 1982 تحدث شارون عن تدمير بنية وقواعد الإرهاب وسعى عملياً إلى تنصيب بشير الجميل رئيساً للبنان وإلى جعل الآردن دولة فلسطينية.
اليوم، يتحدث شارون عن تصفية بنية الإرهاب، ويسعى إلى تدمير كل البنية المدنية للسلطة الفلسطينية ليجعل حياة الفلسطينيين هنا غير محتملة. ولقد أعلن صراحة ثلاثة من وزراء حكومته –آفي إيتام وبني ألون وأبيغدور ليبرمان- أنه يجب تنغيص حياة الفلسطينيين هنا بغية دفعهم للهرب والنزوح إلى الأردن".
وترى "ألوني" أن الأجواء العامة في إسرائيل هي التي تغيرت منذ العام 1982 فـ "اليوم يوجد كم للأفواه وخوف من التعبير عن الرأي. وهو ما يؤدي إلى شل المعارضة... بينما نرى كيف تحولت الصحافة ووسائل الإعلام إلى بوق للحكومة.." وتضيف إن المجتمع الإسرائيلي وقع ضحية لخدع وألاعيب شارون الإرهابية، وكذلك لعقدة الملاحقة التي يُنميها الساسة الإسرائيليون في قضية اللاسامية والمحرقة. وتقول " لا يكفون لدينا عن التذكر بالمحرقة وكل من يوجه انتقاداً يُنعت فوراً باللاسامية... إنها ألعوبة شريرة". وتضيف "صحيح أن الإرهاب يمثل مشكلة، لكنه لا يشكل خطراً على وجود الدولة... لقد نجح شارون في إقناع الجمهور الإسرائيلي – أن ذلك يشكل خطراً يتهدد وجود الدولة، وأنهم –العرب- يريدون إلقاءنا في البحر". وتنهي ألوني حديثها قائلة: "شارون لم يتغير، بل نحن الذين تغيرنا".