القيادة الصهيونية حاربت ظاهرة إجهاض النساء اليهوديات خلال فترة الانتداب
أشار بحث جديد، صدر في إسرائيل مؤخرا، إلى أنه خلال سنوات الثلاثين والأربعين من القرن الماضي انتشرت ظاهرة الإجهاض بين الشابات في المجتمع اليهودي (الييشوف) في فلسطين، الأمر الذي أثار قلق القيادة الصهيونية من تراجع النمو الطبيعي اليهودي بشكل كبير مقابل النمو الطبيعي لدى الفلسطينيين.
وعقب عميد الجامعة العبرية في القدس، البروفسور أبراهام هليفي فرانكل، عن هذا القلق في خطاب ألقاه خلال مراسم نهاية العام الدراسي، في أيار العام 1940، والذي خصص معظمه لظاهرة الإجهاض المنتشرة. وقال إن "الفريضة التي في نفوسنا وإيماننا، هي الفريضة الأولى بين فرائض ’افعل’ في التوراة، وهي انمو وتكاثروا". وكان فرانكل حينها، وهو باحث في الرياضيات، قد أجرى حسابات تبين منها أنه في كل جيل سيتضاعف عدد العرب في فلسطين، بينما اليهود في الييشوف سيجدون صعوبة في التعويض عن الوفيات، بسبب نسبة الإنجاب المتدنية.
وقالت صحيفة "هآرتس" في تقرير نشرته في 26 تموز الفائت، إن أعداء فرانكل هم نمط الحياة العصري وقلة الأطفال في العائلة اليهودية، ولكن في مقدمة أعدائه كانت ظاهرة الإجهاض التي انتشرت بين شبان الييشوف.
وأنهت المؤرخة الاجتماعية من جامعة بار إيلان، الدكتورة ليلاخ روزنبرغ– فريدمان، مؤخرا، بحثا حول قضية الولادة والإجهاض في فترة الانتداب البريطاني، كشفت من خلاله عن أن ظاهرة الإجهاض بين الشابات اليهوديات في فلسطين كانت واسعة جدا. وقالت إن "هذه ليست حكاية أو قضية جانبية. فعمليات الإجهاض كانت وسيلة منع الحمل الأكثر انتشارا في تل الفترة".
الإجهاض عكس
التوتر بين اليهود
ويتبين من البحث الجديد أن عمليات الإجهاض عكست التوتر داخل الييشوف في الفترة التي سبقت قيام إسرائيل. فمن جهة، سعى اليهود إلى تشكيل أغلبية بين السكان في فلسطين، معتبرين أن هذه أهم مهمة صهيونية. ومن الجهة الأخرى، تطلع المجتمع اليهودي إلى بناء مجتمع عصري وتقليد المجتمعات في أوروبا الغربية. وقالت روزنبرغ– فريدمان إن "هذا موضوع يسلط الضوء على المجتمع كله الذي تصبح صورته مختلفة عندما نبحث موضوع الإجهاض".
ورأت الباحثة أن "هذا الصراع سائد، بقدر كبير، في مجتمعنا حتى اليوم، وهو كيف نكون محافظين أو عصريين، ولكننا نواصل الطريق ونكون ثوريين في الوقت ذاته. وقد أحضر القادمون [المهاجرون اليهود إلى فلسطين] من الاتحاد السوفياتي معهم نموذج العائلة مع ولد واحد أو اثنين، ومن ألمانيا جاء الأطباء ومعهم الخبرة. وأجرى قسم من الأطباء عمليات الإجهاض في إطار دخلهم الجانبي وقسم آخر فعل ذلك انطلاقا من أيديولوجيا. ورغم أن قوانين الانتداب حظرت إجراء عمليات إجهاض، لكن البريطانيين لم يتدخلوا في معظم الحالات".
ولا تتوفر معطيات رسمية حول حجم عمليات الإجهاض التي جرت في تلك الفترة، خاصة وأنها كانت عمليات تجري في السر وبشكل شخصي جدا. رغم ذلك فإن هذه الظاهرة تنعكس من خلال معطيات الولادة لدى النساء اليهوديات في فلسطين. وكان معدل الولادة للمرأة الواحدة 1ر2 ولد في العام 1944.
وقال الباحث في الإحصائيات في تلك الفترة، البروفسور روبرتو بيكي، الذي خاض نضالا من أجل زيادة النمو الطبيعي اليهودي، إن "عدد الولادات هذا هو من الأدنى في العالم". لكن الأمر الذي أثار قلق قيادة الييشوف حينذاك هو أن متوسط الانجاب لدى المرأة الأوروبية كان 7ر1 ولد. وللمقارنة، فإن نسبة الولادات لدى المرأة في إسرائيل، اليوم، هو 3 أولاد لكل امرأة.
وأشارت روزنبرغ– فريدمان إلى الأسباب التي دفعت نساء يهوديات إلى الإجهاض، وقالت إنه "كان يسود انعدام أمن اقتصادي وانعدام أمن شخصي في حينه. والأحداث، والأنباء عن أن الألمان على وشك احتلال البلاد، كان لها تأثير. وربما يوجد اليوم شعور بالأمن رغم كل المصائب الموجودة".
السبب الأساس: الأحوال الاقتصادية!
وأجرت الدكتورة طوفا بيرمان– ييشورون بحثا آخر حول الموضوع، وشمل مقابلات مع ثلاثة آلاف امرأة خضعن لعمليات إجهاض في سنوات الأربعين. وقد توصلت إلى الاستنتاج بأن السبب الأساس لإجراء عمليات إجهاض كان الأحوال الاقتصادية. وكتبت الأديبة الإسرائيلية شولاميت لبيد (والدة رئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد)، في أحد كتبها، أن المرأة اليهودية "تقول لنفسها أخيرا ما لم تكن تجرؤ قبل ذلك حتى على التفكير به: طفلتها جائعة، فكيف ستنجب طفلا آخر، فيما هي لا تملك الخبز لابنتها الصغيرة"، وذلك لدى وصفها ارتباك وتردد بطلة روايتها قبل توجهها إلى طبيب لإجراء عملية إجهاض.
وجرت عمليات الإجهاض في عيادات خاصة ومستشفيات، وأحيانا في البيوت. لكنها هذه الظاهرة الواسعة أثارت سجالا حادا وسط نضال جماهيري ضد عمليات الإجهاض. والتقى البروفسور فرانكل مع الحاخام الأكبر الأشكنازي في حينه، الحاخام إسحق هيرتسوغ (جد عضو الكنيست الحالي إسحق هيرتسوغ)، وبحث معه موضوع الإجهاض. وألقى الحاخام هيرتسوغ خطابا شديد اللهجة ضد هذه الظاهرة أمام جمعية النواب، التي شكلت قيادة الييشوف، في العام 1942. وقد تحول هذا الخطاب إلى معلم في الطريق ضد ظاهرة الإجهاض. وشبه الحاخام عمليات الإجهاض بالمحرقة التي تعرض لها اليهود في ألمانيا النازية، وحتى أنه ألمح إلى أن المحرقة هي عقاب من الرب بسبب عمليات الإجهاض في الييشوف.
وقال الحاخام هيرتسوغ في خطابه إن "الأنباء من وادي الجحيم في أوروبا أرهبت كل معسكر إسرائيل في جميع أنحاء العالم. ويتسمر شعر بدننا لدى السماع عن الأهوال عموما، لكن ما يرهب كل قلب بشكل أكبر هو المجزرة الجارية بحق أطفال إسرائيل، ولا توجد كلمات في فمنا للتعبير بشكل لائق عن هذه الترويع المفزع! لقد تغلب المستأصل على مصدر إسرائيل. وها هي الفكرة قد بدأت تنبض في قلبي ولا تدعني أرتاح، إذ ربما هذا هو ردّ الصاع بالصاع".
الإجهاض والديمغرافيا
ووفقا للأبحاث التي تم نشرها حول الموضوع فإن الحاخام هيرتسوغ قد يكون الشخصية الأبرز، لكن كانت هناك شخصيات يهودية في الييشوف ربطت بين المحرقة وعمليات الإجهاض. غير أن هذا الخطاب لم يؤد إلى تراجع انتشار هذه الظاهرة.
ونظر زعيم الييشوف، دافيد بن غوريون، بخطورة إلى ظاهرة الإجهاض والخصوبة المتدنية لدى المرأة اليهودية. وكتب في صحيفة "هبوعيل هتسعير"، في العام 1943، أنه "راودني أكثر من مرة السؤال: هل كان سينهض مشروعنا في البلاد لو أن أمهاتنا تصرفنا مثل بناتنا؟ ما كان معظمنا سيكون موجودا". واتهم بن غوريون الرأسمالية بانتشار ظاهرة الإجهاض واحتج على سلوك أبناء الشبيبة "غير المسؤول". واعتبر أن "التهرب من تنشئة الأبناء هو نتيجة خلل أخلاقي في الحضارة الرأسمالية في دول أوروبا الغربية. وهل نحن البقية الباقية من إسرائيل، الذين جئنا لإقامة الوطن مجددا، سنبني أنفسنا على الأساس الفاسد للشعوب المتحجرة في أوروبا خلال السنين الأخيرة؟ هل ستقول المرأة الشابة وصديقها الشاب إن العالم كله خُلق من أجل متعتنا الشخصية وليكن من بعدنا الطوفان؟".
وبادر بن غوريون بعد قيام إسرائيل إلى منح جائزة ولادة، قيمتها 100 ليرة، لكل أم تنجب عشرة أولاد على الأقل. وقالت "هآرتس" إنه بعد الإعلان عن الجائزة بدأت تتعالى الأسئلة حول الأم التي لا يتواجد جميع أولادها في البلاد، أو الأم التي توفي جنينها خلال الولادة. لكن المعضلة الأكبر كانت "ماذا تفعل الدولة للأم العربية التي توجهت للحصول على الجائزة؟"، بينما تم الإعلان عن هذه الجائزة من أجل تشجيع الأمهات اليهوديات على الانجاب.
وقالت روزنبرغ– فريدمان إن "بن غوريون اصطدم هنا بمعضلة بين كونه زعيما صهيونيا وكونه اشتراكيا". ووفقا للصحيفة فإن بن غوريون رفض رأي الحاكم العسكري، الذي قال إن "نسبة الولادة مرتفعة أكثر لدى السكان العرب ولا يحتاج إلى أي تشجيع بواسطة جائزة". وقرر بن غوريون التعامل بمساواة بين اليهود والعرب في قضية الجائزة. وفي السنوات الأولى بعد قيام إسرائيل، حصلت عشرات النساء على جائزة تشجيع الولادة وبينهن نساء عربيات.
ولم تنجح روزنبرغ- فريدمان في العثور على أقوال لشخصيات عامة إسرائيلية عبرت عن تحفظها من النضال ضد عمليات الإجهاض. لكن في بداية سنوات السبعين، وقبل وقت قصير من نشوب حرب أكتوبر العام 1973، وعندما حاول الوزير زيراح فيرهافتيغ (متدين) تمرير قانون لتحديد عمليات الإجهاض، ردت رئيسة الحكومة الإسرائيلية في حينه، غولدا مئير، بشدة على مشروع القانون بقولها: "هل تريدون أن تكونوا أصحاب الملك على جسدي؟". وأجابها فيرهافتيغ: "وهل تريدين أن تكوني صاحبة الملك على الكثيرين من أبناء الشبيبة الذين يذهبون إلى الجيش والحرب؟".
ولخصت روزنبرغ- فريدمان بالقول إن "هذا هو جوهر النقاش، وفقا لفيرهافتيغ. إذا كان الابن هو شأن خاص، فبأي حق أرسلته غولدا إلى الحرب؟".