يبدو أن الحرب الإسرائيلية ـ اللبنانية، الدائرة منذ أكثر من شهر، ستسجّل بكونها أطول الحروب التي خاضتها إسرائيل منذ قيامها (1948)، وأعقدها وأصعبها، وربما أكثرها كلفة من الناحية الاقتصادية، على الأقل.
وكانت الاستراتيجية العسكرية التقليدية التي اعتمدتها إسرائيل، منذ قيامها، تستند إلى عدة ركائز، أهمها: 1) بناء جيش صغير ومتحرك وقوي، معمّد بأحدث ما في الترسانة العسكرية الأميركية من أسلحة؛ 2) تأمين قدرة الجيش على السيطرة في مجالي القوة الجوية وقوة النيران في الميدان، بالاعتماد على سلاح الجو والمدفعية والدبابات، توخّيا لتجنّب أو تقليل الخسائر في العنصر البشري؛ 3) استخدام أحدث مبتكرات تكنولوجيا الإدارة والاتصالات والتوجيه؛ 4) اعتماد عناصر الردع والمفاجأة ونقل المعركة إلى خارج إسرائيل بعيدا عن مناطق سكن الإسرائيليين (سياسة الذراع الطويلة)؛ 5) تأمين عنصر التفوق على الجيوش العربية المحيطة أو المفترضة، من النواحي التقنية واللوجستية، للتعويض عن النقص في الحشد البشري والعمق الجغرافي؛ 6) حسم المعركة بأسرع وقت ممكن عبر الاستخدام المكثف للقوى.
وكما هو معلوم فإن إسرائيل، وإضافة إلى كل ما تقدم، ظلت تتمتع بعوامل قوة مضافة، على غاية الأهمية في معادلات الصراع وموازين القوى، في المنطقة، يمكن تمثلها في العناصر التالية: أولا، احتكارها التسلح النووي لضمان تأمين عنصر الردع. ثانيا، ضمان الولايات المتحدة لتفوقها العسكري ولأمنها واستقرارها. ثالثا، حرص الدول الغربية على بقائها، لاعتبارات عديدة، فعلى الرغم من مناهضة بعد الدول لسياساتها واحتلالاتها واعتداءاتها، إلا أنها لا تسمح بالقضاء عليها أو تهديدها. رابعا، واقع التشتت والضعف وارتهان الإرادة في النظام العربي، الذي يفاقم منه تهميش وتقييد المجتمعات العربية عموما، وإضعاف دورها في مقاومة التحدي الإسرائيلي خصوصا. خامسا، ضعف امكانات الشعب الفلسطيني، في مواجهة إسرائيل، بحكم تشتته في مناطق اللجوء، وبحكم قيود السيطرة الإسرائيلية عليه، في الأراضي المحتلة.
على ذلك فإن الحرب الدائرة بين إسرائيل والمقاومة اللبنانية، وبغض النظر عن مآلاتها العسكرية أو السياسية، ستضطرّ إسرائيل إلى مراجعة استراتيجيتها العسكرية التقليدية هذه، بحكم الاعتبارات التالية:
1ـ في هذه الحرب وجدت إسرائيل نفسها أمام واقع جديد عليها، فهي اليوم تخوض حربا غير نظامية، إذ هي مثلا لا تواجه دولة بعينها، ولا جيشا نظاميا، وبديهي أنه في هكذا حرب يصعب تحديد الأهداف، وتعيين مفهوم موازين القوى، كما يصعب تحديد معنى النصر والهزيمة؛ ولعل هذا هو مصدر الاضطراب والتخبط الإسرائيليين في هذه الحرب.
2 ـ في هذه الحرب استطاعت المقاومة أن تنقل المعركة إلى داخل البيت الإسرائيلي، أي إلى نهاريا ومعلوت والعفولة وطبرية وعكا وحيفا وصفد، وأن تضطر حوالي مليون إسرائيلي للنزوح من أماكن سكناهم، أو للاحتماء في الملاجئ، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
3 ـ في هذه الحرب اضطرت إسرائيل إلى تعديل جدولها الزمني، فهي باتت أمام حرب استنزاف طويلة، كما أنها اضطرت لتغيير سلم أولوياتها واستهدافاتها السياسية.
4 ـ هذه أول مرة في تاريخ الحروب الإسرائيلية تعجز إسرائيل عن اجتياح الأراضي، بسبب استبسال المقاومين في مواجهة الدبابات وجنود المشاة الإسرائيليين، وهو ما شكل مفاجأة حقيقية لإسرائيل.
5 ـ لم تستطع إسرائيل في هذه الحرب السيطرة على مصادر النيران، ما جعلها تخوض حربا دفاعية من أرضها.
طبعا نحن لا نتصور هنا بأن المقاومة ستستطيع أن تهزم إسرائيل عسكريا، فهذا الطموح لم تدعيه المقاومة، لا ينبغي تحميلها مسؤوليته، فهزيمة إسرائيل هي رهن معطيات عربية ودولية، ورهن تطورات عديدة سياسية واجتماعية واقتصادية، ولكن القصد من كل ذلك التوضيح بأن المقاومة الشعبية، على قلة عددها وضعف امكاناتها، تستطيع أن تضعضع النظريات العسكرية الإسرائيلية، وأن تحرم الجيش الإسرائيلي من تحقيق انتصار سريع وسهل، وهو الأمر الذي تعودت عليه إسرائيل في حروبها السابقة.
ففي العام 1948 خاضت القوات الصهيونية، المتمثلة بالهاجناه وشتيرن وأرغون، حرب إقامة دولة إسرائيل، التي تم خلالها إنشاء الجيش الإسرائيلي، وفي حينه تم الادعاء بأن إسرائيل واجهت في آن واحد ثمانية جيوش عربية، وكانت إسرائيل تتوخّى من ذلك، أولا، جلب تعاطف العالم معها باعتبارها ضحية هجمة الشرق "المتخلف" على الغرب "المتنور" أو "المتحضر"؛ وثانيا، تكريس أسطورة "الجيش الذي لا يقهر". وفي الواقع فإن عديد مجموع الجيوش العربية التي خاضت تلك الحرب لم يصل إلى حدود ستين ألف جندي، في حين بلغ عديد القوات الصهيونية النظامية 100 ألف جندي، بواقع 1/7 من عدد المستوطنين الصهاينة، الذين ناهز عددهم آنذاك سبعمئة ألف؛ مع الفارق أيضا في مستوى التسلح والتدريب والقيادة، لصالح القوات الصهيونية. والقصد التوضيح هنا بأن هذه الحرب كانت مجرد حرب صورية، بأكثر تجلياتها، وكانت حربا لتبرئة النظام الرسمي العربي (حينه) من ضياع فلسطين، وهذا ما يفسر أن هذه النظام تبنى الرواية الصهيونية، المتعلقة بهجوم ثمانية جيوش عربية على إسرائيل!
أما الحرب الثانية (1956)، فهي كانت حربا إسرائيلية محدودة وبالمشاركة، ولتوظيفات دولية، وهي شنت ضد دولة عربية واحدة (مصر)، وقد تحكمت المعادلات الدولية بنتائجها وتوظيفاتها السياسية.
وفي حرب يونيو (1967) وهي الحرب الثالثة، استطاعت إسرائيل في بضعة أيام احتلال سيناء وهضبة الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة، أي ما يزيد عن عشرة أمثال مساحتها، في فترة قياسية، وبضربة مفاجئة. والواقع فإن الجيوش العربية النظامية حينها بالكاد قاتلت، بعد أن دمرت امكاناتها وفقدت التواصل والإمداد اللوجستي، وبعد أن كشفت إثر تدمير سلاح الطيران والصواريخ.
فقط في الحرب الرابعة (1973) تمكنت جيوش مصر وسوريا من تحقيق مكاسب عسكرية مهمة، ففي هذه الحرب كان ثمة إرادة في القتال، وكان ثمة استعداد، وذلك بغض النظر عن المآلات السياسية لهذه الحرب.
وربما أن الحرب الخامسة ( يونيو 1982) هي إلى حد ما أقرب إلى الحرب الحالية السادسة، ولكن ميزة تلك الحرب أنها كانت تخاض ضد قوات فلسطينية أساسا، وهي بمعنى ما قوات نظامية، متواجدة في غير أراضيها، وفي ظل نوع من الانقسام الأهلي (اللبناني) بشأن شرعية وجودها. وعلى الرغم من أن هذه الحرب استمرت طويلا (ثلاثة أشهر) إلا أن قيادة المقاومة الفلسطينية حينها، تذرّعت بتجنيب لبنان الدمار، لتبرير عدم المواجهة مع الجيش الإسرائيلي، وقد شمل الأمر خروج قوات منظمة التحرير من بيروت، بناء على طلب من أركان الحركة الوطنية اللبنانية (بعد حصار بيروت ثلاثة أشهر)، وإثر توقيع اتفاقية مع فيليب حبيب المبعوث الأميركي للشرق الأوسط في حينه.
هكذا فإن ميزة الحرب الحالية أنها اكدت بأن الحرب الشعبية، أو الحرب غير النظامية، أي حرب المقاومة، يمكن لها أن توجع إسرائيل، وأن تفقدها عناصر قوتها، وأن تضعضع معادلاتها العسكرية. وكانت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى (1987- 1993) بينت مكامن ضعف إسرائيل، وأكدت مكامن القوة في المجتمعات العربية، المتحررة من القيود النظامية الرسمية، في مواجهة التحدي الإسرائيلي، كما أنها قوضت أسطورة "الجيش الذي لا يقهر"، بعد أن تحول هذا الجيش إلى مجرد جيش ينشئ الحواجز، ويلاحق أطفال الحجارة، ويهاجم النساء والعجائز في بيوتهم؛ وهو ما بينته أيضا الانتفاضة والمقاومة المسلحة التي اندلعت منذ أواخر العام 2000.
ثمة اعتبارات كثيرة يمكن استنتاجها من هذه الحرب بغض النظر عن مآلاتها ونتائجها، والمهم البناء على كل ذلك واستثماره مستقبلا في مواجهة تحدي إسرائيل وغطرستها.