أحد الادعاءات التي يواجهنا به محاورون يهود ليبراليون بخصوص ما حصل في فلسطين الأربعينيات والخمسينيات أن ما كان هو بمثابة غُبن لا بُد مِنه بحقّ الفلسطينيين في الطريق إلى إزالة الغبن بحقّ اليهود. كان لا بُد- وفق الإدعاء- من إنتاج المسألة الفلسطينية من خلال المشروع الصهيوني لحلّ المسألة اليهودية. ويحاورون كأن المسألة في حكم التاريخ، حصل ما حصل وهيا نتّفق على الآتي. يشجعوننا على قبول روايتهم للرواية، قراءتهم للتاريخ، ويحثّوننا أن نكون عمليين، براغماتيين، ونذهب معهم في مشوار كأنه جديد مقطوع النسب التاريخي مفتوح على الازدهار وجنّة عدن.
يبدو لي إن هذا الإقرار بغبن تاريخي حصل للفلسطينيين هو إقرار تكتيكي جاء بالأساس، لأنه لا مجال لدى أي إنسان يهودي معقول الضمير إلا أن يعترف بما اقترفته أيدي المشروع الصهيوني، لا سيما وأن اللاجئين الفلسطينيين هنا في كل أرض مستوية فوق جبل غربي الساحل وصولاً إلى شرقي الأردن وغوطة دمشق.
أما عندما يتحدثون عن التاريخ في هذا الصدد لا يقصدون حركة التاريخ وإنما جموده كأن الغبن الذي حصل بالنكبة بما سبقها وأعقبها حصل في لحظة من الزمن، في مفصل من الزمن، وانتهى هناك ولم يحدث بعدها. كأنه حصل لمرّة واحدة ولم يحصل شيء منه، شيء مثله، شيء كمحصّلة له بعد ذلك. كأن كل ما حصل بعده هو محاولة لإصلاح ما وقع من إجحاف ومن تدمير بالفلسطينيين ووطنهم.
واللافت أن مِنا، كفلسطينيين هنا وفي غير مكان، يستسيغون هذا الخطاب الإعترافي- ويقصد به التبرير لا الاعتذار- ويذهبون معه مرتاحين أن اليهود اعترفوا ولا مجال أمامنا سوى الترجّل عن مشاريعنا وعن لائحة اتهامنا ومغادرة مواقع روايتنا وقراءتنا للتاريخ وللصراع. ومِن هنا يسهل الذهاب في تفاهمات ومشاريع تسوية و«سلامات» تُباع للناس في كُتيبّات يدفع كُلفة إصدارها متموّلون حالمون من أصحاب النوايا الحسنة.
الاعتراف بـ«الغبن الذي لا بُد منه» الآتي إلينا من أوساط ليبرالية يهودية تراوح أحيانًا على ضفاف اليسارية الفقاعية، يسير خطوة أبعد في تاريخ الصراع مما هو مألوف لنا وعلينا، ذاك الإدعاء اليساري من أن الصراع بدأ في العام1967، أي بعد الاحتلال وموبقاته.
فإذا زال الاحتلال زالت أسباب الصراع. ومع هذا نراه اعترافًا يُقصد به التهرب من استحقاقات التاريخ، ومن تبعات أي تسوية تقوم على العدل حتى النسبيّ منه. وكل عدل في شروط سياسية مكانية وزمانية هو نسبيّ. فهو اعتراف منقوص لأنه أداتي. يستخدمونه لا ليروا ونرى ما نستحقّ في ضوئه بل للذهاب إلى ما لا نستحقّ. للوصول إلى غاية هي استمرار لقصّة النجاح الصهيونية في فلسطين وتكريس الهيمنة اليهودية على المكان.
فاعترافهم بحصول النكبة يأتي، كما أسلفنا، كأنها حصلت وانقضت هذا بينما هي حاصلة إلى يومنا هذا، إلى كتابة هذه السطور وإلى قراءتها غدًا أو بعد غد. هذه هي القضية، إن ما أحدثه المشروع الصهيوني لفلسطين والفلسطينيين لا تزال تُحدثه الدولة اليهودية بقوانينها وسلطتها وإجراءاتها بحقّ الفلسطينيين في كل مواقعهم. وهذا ما لا يعترف به أحد ولا يعترف لأنه يوجب اتخاذ موقف ويجعل الليبرالي المتوسّط في مواجهة مع ذاته، في تناقض كبير بين صورته في عين ذاته وبين حقيقته على الأرض وفي الواقع. وإذا شئنا أن نسجّل كم نكبة ألمت بفعل القوة الإسرائيلية بالفلسطينيين بعد النكبة الأولى لاحتجنا إلى ثلاث أو أربع سنوات من «المشهد الإسرائيلي»، وإذا شئنا أن نسمّي الضحايا من الفلسطينيين في النكبات الخاصة بهم التي أعقبت النكبة لاحتجنا إلى جدارين أو ثلاثة بطول جدار الفصل العنصري المقام حاليًا على صدر التاريخ محاولة لوأده أو شاهدًا على قبره.
هذا في مستوى الحاصل والمرئي والمسموع أما في مستوى المكتوم والمستتر فلا تزال نفوسنا منكوبة ولا تزال النُدب فيها عميقة لم تندمل بل نراها تنفتح نزيفًا غاضبًا كل ما طالبونا أن نضع هذه الملفّات على الرفوف أو في أرشيفاتنا، أو لأن نُبقيها مجرد صور في الذاكرة، حنينًا لذيذًا يدغدغنا، يسكن فينا يرسلنا مرة إلى بيسان ومرّة إلى الكرمل الغربي، مرة الى سلمة ومرة أخرى إلى عسقلان، مرة إلى إقرث ومرّة بعدها إلى البروة. هكذا، كموتيقات شعرية، أو صور للتذكّر، أو أطياف نستحضرها بعذوبة. ومرّة أخرى، نجد مِنا مَن يتجاوب فيستلطف «التذكّر» ويكتفي به. بل يصير الآخر اليهودي بمثابة الجهة المشكورة على إتاحتها لنا هذه الفرصة، متسعًا للتذكّر من خلال ورشة يموّلها صندوق أو ثريّ يهودي، وتذكرًا فعليًا وحديثًا عن الذاكرة.. هل تذكرون "برنامج سلامات" الذي بثته دار الإذاعة الإسرائيلية ردحًا غير قصير من الزمن. فقد كانت السلامات من الباقين هنا إلى المشرّدين هناك، من المهاجرين في وطنهم إلى الذين هُجروا عن وطنهم، وكانت تنتهي دومًا بشكر دار الإذاعة الإسرائيلية التي «أتاحت لنا هذه الفرصة، والسلام». وحصل أن بعض المسلّمين المرسلين التحيات تلعثموا عند فقرة الشكر التي عادة ما تكون مكتوبة على ورقة، فلم تأت سويّة واضحة لأن المشهد عبثي إلى حدود أن العقل الباطني تغلّب على البراغماتية وهزمها.. وها أنا مثل هؤلاء أجد صعوبة في شكر الذين يعترفون كي يجعلونا ننسى، يعترفون كي يهربوا من الاعتراف ذاته، يعترفون بنقطة من الحقيقة فارين من موجها وعواصفها. أما ما يزيد الروح وجعًا فهم هؤلاء مِنا المعترفون على الطريقة ذاتها القابلون عليهم أحكام علم النفس الاجتماعي يستلطفون التذكّر والقصص، أما الشخوص والرواة وهم أحياء يرزقون فلا يعنونهم من قريب أو بعيد...