المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 892

منذ الأيام الأولى التالية لقمة العقبة بدا اريئيل شارون، كيف نقولها، مثيرًا للإهتمام. ليس لأنه أطلق العنان لإبداع سياسي ما، بحيث تفتّق ذهنه عن خطة سياسية خارقة للوصول الى هامش تسوية في المنطقة، ولا لأنه مرّ انقلابًا ذهنيًا في جيله السبعيني الذي يفترض في العادة أن يزيد صاحبه رويّة وحكمة وسعة صدر وصبر.

كلا، فما أثار الاهتمام في الشخصية السياسية شارون هو كيفية جسر المسافة ما بين استعماله (المتأخر) اصطلاح "الاحتلال" في توصيف سياسته نفسه في الاراضي الفلسطينية، وبين تمسّكه برؤى الاستيطان بما تعنيه من توسّع عنيف كعنصر أساس في نهجه. عمليًا، ما نحتاج لفهمه يقع في المسافة الفاصلة ما بين شارون، السياسي المضطر على المناورة لضرورات الافلات من (بعض) الضغط الدولي والانهيار الاقتصادي، وما بين شارون الذي يصح تسميته: "إياه". جنرال فحسب.

 

يميل البعض للتقليل من قيمة استعمال الكلام لدى السياسيين أصحاب المسؤوليات. المسألة فيها نظر. ولكن حين يقول السياسي ما يقول فإن الأمر ليس سلسلة زلات لسان فرويدية، ولا مجموعة ارتجالات آنية، بل إنه كلام مخطط ومحسوب بالاستناد الى أكثر من معيار يأخذ بالاعتبار طيفًا متشابكًا من المستمعين، وهؤلاء هم أصحاب مصالح، وأيضًا موارد مصالح السياسي نفسه، وفي الآن الواحد. وحين يستعمل شارون الاحتلال اصطلاحًا فهو يتحدث الى أكثر من قطاع. ويكفي التأمّل فيما يعنيه الأمر بالنسبة لجمهوره المركزي. وبالمناسبة فإن جمهوره المركزي ليس اليمين المتطرف بالأساس، لأن مصوتي هذا القطاع يختارون مسبقًا المرشح الأكثر تشددًا. ولكن هؤلاء لن يحققوا أي نصر لليميني المناوب إذا لم يسعَ هذا الأخير الى اجتذاب تلك الشرائح الغائمة المسماة "مركز". فهذه تجري حساباتها، لو عمّمنا بعض الشيء، بحسب الاحتياجات الفردية الآنية الراهنة، ولا تصل باعتباراتها في الغالب الى أبعد من حدود الحيّ الذي تقطنه. وحين كان شارون مرشحًا لرئاسة الحكومة، في المرتين، اجتذب هؤلاء الأخيرين بالذات. المتطرفون كانوا في جيبه منذ البداية. فقد جرى يومها كالعادة إعادة اختلاق وجدولة وتسويق للحاجيات التي يفترض بالمرشح توفيرها. هنا تحوّل "الأمن" ليس الى عنصر مرتبط جدليًا بالسياسة وأحوالها ومضمونها، ومشتق منها مباشرة، بل الى مجرد سلعة يمكن توفيرها ميكانيكيًا بوسائل شبه تقنية تقوم في غالبيتها على طروحات محددة منزوعة من سياقها: "محاربة بنى تحتية للإرهاب"، "إجتثاث الارهاب من جذوره"، "دعوا الجيش يقوم بالعمل"، ثم "دعوا الجيش ينتصر".. الى آخره.

 

في هذا المشهد بدا رئيس حكومة اسرائيل ليس أكثر من مقاول، وربما مقاول ثانوي، وظيفته الوساطة ما بين الجمهور وبين صاحب السيادة والارادة والقدرة الأوحد، أقصد مؤسسة الجيش. مجمل مهامه يفترض أن يتراوح ما بين الخروج بعمليات عسكرية تقترب من منتوجات هوليوود، أو إعادة تشغيل المغاسل الكلامية التي تسيل منها الحجج التبريرية لما "نضطر للقيام به" (بالمناسبة، هذا "الذي نضطر للقيام به" يشمل مثلا قتل طفل هنا، ومنع مرور مسنّ مريض على حاجز حتى الموت أحيانًا، واقتلاع مئة زيتونة هناك، وإصابة عدد من المارة في شارع مكتظ على هامش عملية الاغتيال المناوبة، وأمور من هذا القبيل!).

 

وصل شارون الحكم استنادًا الى أكثر المنتوجات الرسمية نجاحًا حتى اليوم: التخويف. لم يعد الأمن حالة معرّفة الحدود والمعنى بل أمسى رمزًا مشتقًا إما من الأساطير أو من عالم الخيال العلمي. صار معيارًا إيمانيًا جديدًا، من يقبله دخل في دين الإجماع القومي الصهيوني الفخم ومن استأنف على صحّته ولو ببنت شفة صار في عداد الكافرين. هكذا تصاغ الارادة السياسية الحرة للمواطن في ما يسمى ملاذ الشعب اليهودي الأخير، مصيبته الأولى. وفي مناخ كهذا ضاق الأفق وتعطّلت العقول. (جملة اعتراضية: وبمساهمة ناجحة من ذلك العمل الفلسطيني العسكري الموجّه ضد مدنيين إسرائيليين). هنا يجد أمثال شارون مساحة واسعة للعب. فهو القوي، هكذا سوّق نفسه. وهو القادر الأوحد الوحيد على الإنقاذ الأسطوري المطلق من ورطة الحاجة الأمنية شبه الاستحواذية. ماذا إذن؟ إذا كان شارون هو السوبرمان في وقت الحرب، فلا شك بالمرة أنه سيكون المنقذ نحو شطآن السلام.

 

هنا تكمن الإثارة في شارون. فقد نجح خلافًا لكل التوقعات في أن يتزيى بلبوس الحمل والذئب معًا. هو البلدوزر الذي لا يخشى شيئا ويعرف كيف يعالج هؤلاء الفلسطينيين، وبما أنه كذلك فهو بالطبع من يعرف كيف يجرّهم من أنوفهم الى "السلام". وبين الحرب والسلام لم تختلف حتى اللغة. القوة، القوة فقط. (وقد أخبرونا مرارًا أن "العرب لا يفهمون سوى القوة" حتى رأينا جيش الإحتلال الاسرائيلي وسياسييه يفهمون في لبنان لغة "اليوغا"!). لا أعرف اذا كان الأمر ذكاء متّقدًا لدى السياسي شارون، أم أنه غباء مُحزن لدى من يجرّهم، أم الأمرين معًا. إجمالا، لا أميل الى اعتبار مجموعة بأكملها غبية. لأن هذا سيكون غباءً مني. ولا أميل أيضًا لاعتبار سياسي ما مُطلق الذكاء، فهذا أيضًا سيكون غباءً مني. ماذا إذن؟

 

 

ربما يعود الأمر الى ما يفوق راهنية هذه المجموعة وفردانية هذا السياسي الشخص. هناك التاريخ والسياقات التي ينتجها والمعطيات التي يفرضها. لا تُصاغ الأمور بجرّة سنة ولا بمجرّد لحظة نبوغ أعجوبية. هذا متروك للأساطير والأفلام والأديان، السماوية وغيرها. مرة أخرى، هناك تاريخ.

 

ومثير ما يظنه شارون عن التاريخ. ففي مقابلة صحفية اجراها معه آري شفيط في "هآرتس" مع تولّيه الحكم قال ما معناه: الشعب اليهودي يحارب منذ مئة سنة، واذا لم يكن لدينا "حل" فلا بأس بأن نحارب مئة سنة أخرى. الرجل لديه وقت كافٍ!

 

شارون لا يرى حلا لأنه لا يرى إمكانية للتكافؤ بين الاسرائيلي والفلسطيني. ولكن هذا الأخير، يا للوقاحة، يرفض إلا التكافؤ. هكذا! فماذا يستنتج جنرال اعتاد حل أعقد قضية بلغة البندقية: ليس هناك من حل. ففي عرفه، الحل يعني الاملاء والفرض. لغة الحرب لا تحاول حتى المداهنة لتنتقل الى طاولة المفاوضات. إنها تبقي على كامل الزيّ، وتدخل بالجزمة العسكرية والأقدام المعتدّة رؤوس أصحابها بقوتها. في حال بائس كهذا من الايديولوجيا تأتي السياسة - الممارسة.

 

على مدى السنين الثلاث الأخيرة التي تنازل فيها حزب الأغبياء المسمى "العمل" عن الحكم بشكل شبه مخطط، كونه اعتقد أن القوة ستنفعه سواء في إرهاب الفلسطيني او اجتذاب الاسرائيلي، اقتربت القيادة الفلسطينية الشرعية بحكمتها السياسية الى مخارج عدة بمقدورها وقف قمع شعبها، وبث رسالة سياسية الى المجتمع الاسرائيلي، وإعادة الأمور الى بعض نصابها. هنا كان يجب أن يبحث شارون، النهج وليس الشخص، عن المخرج. فجاءت الاغتيالات والاجتياحات لتشعل ما يتم إطفاؤه. ومرة أخرى وجد من يرقص معه "التانغو" عبر عمليات عنيفة مجنونة أعادت الاسرائيلي الذي ربما بدأ يفكر بما تجنيه عليه حكومته، الى غيتو الخوف. دون أي منطق، نجح شارون. وبمساعدة أيد فلسطينية لا مجال للشك في نواياها بل بالامكان الاشارة بحزن الى نتائج تكتيكاتها. هكذا كان يثبت شارون لضحاياه الاسرائيليين أمرين بحجر (بمدفع) واحد: أولا أن الفلسطينيين لا يريدون سلامًا، وثانيًا أن شعب اسرائيل لا يوجد أمامه سوى مواصلة الجلوس على خوازيق الحراب. وجلسوا عليه.

 

لعبت مناورات الانتقام دورًا أعتقد أنه سيكون الأبرز حين يلخص من يلخّص (وآمل أن يلخص) حرب هذه السنوات المجنونة لشدة خبث مُعلنيها. لم يعد السياسي الاسرائيلي بحاجة الى إتعاب نفسه، أو الى تشغيل طواقم ترويجية. صار الانتقام ليس مشروعًا فحسب بل أيضًا الرد الوحيد المتاح، مما أوصل الأشياء الى وضع يخرج فيه الفاشي العنيف ليبرمان بدعوة الى "قصف المقاطعة على أصحابها" دون أن يحتاجه الأمر تبرير سفالته، وبدون أن يفكّر جبناء الاعلام الاسرائيلي الطاغي بطرح أسئلة محرجة عليه. العنصرية فقدت الحياء وكذلك التحريض على القتل. يمكن للمافيا الطليانية أن تنافس على الحكم في اسرائيل اليوم بكامل الشرعية. إنها ليست بحاجة حتى لاقتناء مستشارين لغويين. ليس أن لغتها ملائمة فحسب، بل بالامكان نسخها حرفيًا عن أشداق الاسرائيلي المُهاجر ليبرمان.

 

ها هي توليفة شارون إذن: إيمان أصولي بانعدام الأمل بأي حل، استناد في الرؤيا السياسية الى مفاهيم العنف والحرب، سهولة مُفرطة في إعادة الاسرائيلي الى الغيتو، إطلاق الرصاص على كل بارقة أمل تلوح في أضيق أفق سياسي، والحفاظ على مظهر السياسي القوي. وفي ثنايا كل هذا هناك النزعة الأكبر: الحفاظ على السلطة.

 

هكذا انفقدت الاثارة في شخص شارون. خلال ثلاث سنوات قدم الدليل تلو الدليل على فاشية نهجه. على ضيق بل انعدام أفقه السياسي. وعلى تعنته على إثبات معتقده بوجوب جرّ هذه الحرب مئة سنة، وجرجرة الشعبين اليها. ولا أدري، فقد تكون بداية النهاية اقتربت مع زيادة مظاهر التعب في المجتمع الاسرائيلي. كل عائلة خامسة تستصعب التزود بالأكل، الفقر يفقد حدوده الحمراء، العنف يصاعد النزيف باستمرار، وجنرالات الجيش لم يعودوا قادرين على الحفاظ على نظريتهم العسكرية. هنا يحل سؤال الأسئلة: ما العمل؟

المفارقة ان مسؤولية الاجابة عن السؤال تُفرض على الفلسطيني مرة أخرى. ليس لديه دبابة

 

ولكن لديه أمرين: الأول متين هو قوة الحق، والثاني يحتاج اجتهادًا وهو الحكمة السياسية. وهذه تقتضي ليس التعلم من العمليات السهلة ضد رُكاب الباصات الاسرائيليين، بل من حجر الزاوية.. الحجر الذي حاولوا عبثًا النيل منه. يجب التعلم من عفاريت جنين الصغار الرائعين الذين يقتربون من الدبابة بحجر فيأسرون قلوب العالم. فلو تركنا لهم قيادة الانتفاضة الثانية لكان الوضع الآن أفضل بما لا يقبل المقارنة. هؤلاء هم القادرون على هزم شارون، وليس تبجحات البطولة لدى من يرسلون شبانا الى الموت والقتل، بشكل عديم القيم وعديم الفائدة.

 

المصطلحات المستخدمة:

اريئيل, انقلاب, هآرتس, غيتو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات