بقلم: رائف زريق
تشهد الأيام الأخيرة تصعيداً في الهجمة على الفلسطينين في إسرائيل: على أحزابهم، وقادتهم، ومؤسساتهم، ويكاد لا ينجو من هذه الهجمة أحدٌ. من ناحية، هناك القوانين الجديدة التي تسعى إلى تحديد حرية العمل السياسي، ووضع حق المواطنة في موضع الشك. يضاف إلى ذلك قرار لجنة الانتخابات المركزية منع "التجمع الوطني" وقائده عزمي بشارة من المشاركة في الانتخابات المقبلة وذلك بناءً على طلب المستشار القضائي للحكومة، كذلك الأمر مع شطب ترشيح أحمد الطيبي (مع حفظ الاختلاف في المسوغات والدوافع) بناءً على طلب قوى اليمين. يضاف إلى كلّ ذلك قرار وزير الداخلية بإغلاق صحيفة "صوت الحق والحرية"، وفحص إمكانية إعلان الحركة الإسلامية حركة غير قانونية.
ما يهمني في هذه المقالة، ليس وصف التصعيد الإسرائيلي الرسمي والأجواء العنصرية السائدة، فأنا أتعامل مع هذا الموضوع كحقيقة معطاة. ما يهمني أكثر هو كيفية مواجهة هذه الحملة التحريضية وإلى أي مدى من الممكن تنسيق المواقف وترتيب الصفوف بحيث تتم مواجهة هذه الحملة بشكل موحّد. لقد حان الوقت للحديث عن أنفسنا وليس فقط الحديث عن إسرائيل. فإذا كانت هذه استراتيجية الدولة فما هي خطّتنا نحن لمواجهتها؟
سابدأ من النهاية، من الاستنتاج الأخير: لا توجد لدينا أية خطّة، لا بل أكثر من ذلك، لا توجد أية "نحن" مؤهلة لصياغة أية خطّة. إنّ "النحن"، باعتبارها ذات فاعلة سياسياً، ليست قضية مفروغ منها، وهي ليست ظاهرة طبيعية. فلا توجد "نحن" ( الفلسطينيين في إسرائيل) سياسية، إلاّ إذا نظّم الفلسطينيون في إسرائيل أنفسهم ضمن قوانين معيّنة تحكم اللعبة السياسية فيما بينهم، وتضبط أصول التنافس، محوّلةً الاختلاف فيما بينهم إلى اختلاف ضمن وحدة.
تقف الأحزاب والقوى المختلفة أمام العاصفة دون أن يكون هناك أي ميثاق يحكم تصرّفها والتزامها إزاء بعضها في مثل هذه اللحظات الحرجة. هناك فيض من الأسئلة لا يعرف المرء كيف يبدأ بالإجابة عليها أصلاً: مثلاً، هل من الضروري أنه في حال منع "التجمّع" من خوض الانتخابات أن تعلن باقي الأحزاب مقاطعتها هي الأخرى للانتخابات - باعتبار أنّ أي هجوم من هذا النوع على أي حزب هو هجوم على مشروعيّة ومصداقيّة جميع الأحزاب؟ هل نحن جميعاً في نفس القارب، نواجه نفس المخاطر، وهل علينا أن نتشاطر بالتساوي أعباء المرحلة، وأن نقف موحّدين أمام العاصفة؟
إذا كان هذا الكلام صحيحاً (وأنا أميل إلى موافقة هذا الرأي، وإن كان الأمر يقتضي بحثاً متروّياً)، أليس من الممكن أن ينسحب نفس المنطق على محاولة إخراج الحركة الإسلامية على القانون؟ ألا يجوز للحركة الإسلامية أن تطالب جميع الأحزاب الأخرى بمقاطعة انتخابات الكنيست في حال جرى إخراجها هي، أي: الحركة الإسلامية، خارج القانون؟ هل نقبل بتقسيمنا بين متطرفين ومعتدلين؟ "داخل القانون" و "خارج القانون"؟ وغير ذلك مما يشابه هذه الأسئلة.
لسنوات كثيرة خلت، كان "كلٌّ يغنّي على ليلاه". المشهد يتبلور على النحو التالي: السلطة تشنّ هجوماً على قائد هذا الحزب أو ذاك، القائد يصرّح أنّ الهجوم عليه هو هجوم على الجماهير العربية برمّتها (لاحظ التواضع مثلاً عندما يصرّح أحمد الطيبي أنّ لجنة الانتخابات لم تقم بشطب أحمد الطيبي إنّما "أحمد العربي") ليقيم التماثل والتطابق التام بين شخصه وبين مجمل القضية الفلسطينية. المرحلة اللاحقة تكون إقامة اجتماع شعبي، عادةً يعقد في مقرّ حزبه، يستدعي إليه بطاقات التضامن من الهيئات والشخصيات وأسماء المناضلين. الأحزاب الأخرى، والتي هي في حالة تنافس شديد مع القائد الحزبي، تقوم بالتضامن الشفوي معه، والذي لا ينطوي على أي التزام حقيقي يذكر، وتكرّر بطاقات التضامن - كليشيهات مثل: "إنّ الهجوم على الأخ عزمي بشارة هو هجوم علينا جميعاً، ويجب التّصدّي له بكل قوّة وحزم ونحن نقول لك: نحن معك!" ( كيف، متى، إلى أية درجة...؟).
تقوم اللعبة على المقايضة التالية: القائد الرمز الذي يتعرّض للهجوم لا يقصد تماماً أنّ الهجوم عليه هو هجوم على كلّ فلسطين وأبنائها، فهو لا يريد شركاء في جني الأرباح الانتخابية من الهجوم عليه، إنّما يريدها لنفسه ولحزبه، لكنّه على استعداد في نفس الوقت لرفع يافطة مكتوب عليها: "الهجوم عليّ يساوي الهجوم على فلسطين"، وذلك كي يشاركه ويشاطره الآخرون الأعباء وليس الأرباح، أي أن يشاطروه خسائره، لكنه لا يريدهم أن يشاطروه غنائمه. بكلمات أخرى، فهو يطلب منهم أن يكونوا معه حيناً، وأن يكون لوحده حيناً آخر.
أمّا الأحزاب الأخرى المتضامنة فهي الأخرى تتضامن بحذرٍ شديد وبتقشّفٍ زائد، فتدفع ضريبة كلاميّة حول التضامن دون أن تكون على استعدادٍ حقيقي لأن ترمي بثقلها، وأن تتكبّد الخسائر كي تدافع عن قائد حزبٍ آخر تلاحقه الدولة وتستعديه. قبل بضع سنواتٍ، مثلاً، حصل اعتداء جسدي على رئيس بلديّة الناصرة السيّد رامز جرايسي. جبهة الناصرة قرّرت إقامة أمسية تضامن مع رامز جرايسي في مقرّ جبهة الناصرة، وكأنّ الحدث حزبي صرف. أيّ أنّه حتى تتضامن مع رئيس البلدية، عليك أيضاً أن تتضامن مع الجبهة. وبذلك أصبح التضامن مشروطاً. الهدف من ذلك كان واضحاً، وهو تحقيق إنجاز حزبي على خلفية الاعتداء، وبذلك غاب الوجه المبدئي للتضامن وحضر الوجه الفئوي. أمّا الأحزاب الأخرى المتضامنة، فخوفاً من أن يصبّ تضامنها في خانة الحزب المنافس، فإمّا انها قد أحجمت عن التضامن، وإمّا اكتفت بتضامن لا يتجاوز الضريبة الكلامية. هنا أيضا ًغاب الصالح العام وحضر الفئوي الحزبي.
أمرٌ مشابه حصل قبل حوالي السنة عندما جرى تقديم عزمي بشارة للمحاكمة على أثر خطابه في القرداحة السورية. من ناحية، أعلن التجمّع – وبحقّ - أنّ هذا الهجوم هو هجوم على جميع أعضاء الكنيست العرب، وهو مقدّمة للهجوم على حق التمثيل السياسي للفلسطينيين، ومحاولة لتدجينهم. إلاّ أنّه إذا كان الموضوع يخصّ جميع الفلسطينيين في الداخل - بحقٍّ وحقيقة - إذاً لماذا لا يُشرَك في حملة التضامن أحزاب أخرى أو هيئات تمثيلية، مثل "لجنة المتابعة"؟ السبب واضحٌ جدّاً: "التجمع" رأى أنّه من الممكن تحويل الهجوم عليه إلى منصّة سياسية لتجنيد الدعم الحزبي له، وبالتالي ليس هناك أيّ مبرّر لأن يقدّم "التّجمّع" على طبق من فضة منصّةً إعلامية لمنافسيه الحزبيين.
من ناحية أخرى فإنّ كلام معظم أعضاء الكنيست من الأحزاب الأخرى لم يتجاوز الطابع الارتجالي ولم يأخذ طابعاً إجرائيّاً يُظهر للدولة وللمستشار القضائي أنّ أعضاء الكنيست العرب يقفون صفّاً واحداً متماسكاً في هذه القضية. كان من الممكن مثلاً أن يكرّر أعضاء الكنيست ما جاء في الخطاب والإصرار على أنّ ما قيل يمثّل رأيهم أنّه إذا أراد المستشار القضائي أن يقدّم عزمي بشارة للمحاكمة عليه أن يقدّم الآخرين أيضاً للمحاكمة. ما هذا إلاّ اقتراح، والفكرة الأساسية هي في كيفية تحويل التضامن إلى تضامن مبدئي وفعّال. إلاّ أنّ أحداً من أعضاء الكنيست لم يكن يرغب في هذا المستوى من التضامن، وأن يقف "وراء" التجمع. وبالتالي جاء التضامن محدوداًُ، باعتبار أنّ هذه المعركة معركة التّجمّع، وبما أنّه لن يشاركنا أرباحه، فنحن لن نشاركه خسائره. هذا المنطق التقشّفي في التضامن أخذ في الازدياد منذ أواسط التسعينيات بعد أن اعتقد البعض أنّ السلام قد أصبح قاب قوسين وأنّ مشاكلنا في طريقها إلى الحلّ، ولا حاجة لنا لتنظيم أنفسنا.
يهدّد هذا التضامن البخيل مُجمل فكرة الحيّز العام الوطني، حيث تجري عملية خصخصة للوطن وللشعب. فلا شيء هناك يتوسّط بين سقف الحزب (الجبهة ، التجمّع، الموحّدة) وبين الكنيست الإسرائيلي. لا توجد هناك هيئة تمثيلية ترعى الصالح العام وهي فوق هذه الأحزاب، تقوم على ما هو مشترك بينها، محوّلةً الخلاف فيما بينها إلى خلاف يستند إلى قاعدة مشتركة، أيّ أنّه خلاف ضمن وحدة. فاليوم هناك اختلاف بين "الجبهة" و "ميرتس" من ناحية، ومن ناحية أخرى هناك اختلاف بين الجبهة والتّجمّع. إلاّ أنّه لا فرق بين الاختلافين، بمعنى أنّه لا خاصّية لخلافاتنا. فخلافاتنا لا تعيد إنتاج مشروع فلسطيني إنّما تعيد إنتاج المشهد السياسي الإسرائيلي فقط.
إنّ غياب هيئة من هذا النوع تعني غياب أية قوانين تحكم العبة السياسية وتضبط التنافس السياسي بين الأحزاب. فكل شيء مشروع من أجل التّفوّق على الحزب الخصم، وجميع الأسلحة (بما فيها الأسلحة المحظورة، وباعتقادي فإنّ ذهاب التّجمّع مع أحمد طيبي في الانتخابات السابقة كان بمثابة إدخال "سلاح محظور" في العمل السياسي) تصبح شرعيّة.
عندما تغيب المعايير تحضر ثقافة الغاب، الكلّ يتربّص للكلّ. وعليه، عندما تقع الواقعة وتحضر الحاجة للتضامن الحقيقي يتطلّع البعض حواليه فلا يجد أحداً يسعفه، أو يقف إلى جواره. لا أحد يرغب في التضامن الحقيقي الذي قد يخسّره امتيازات عديدة، خاصةً وأنّ هذا التضامن لا يملك ثقة أنّه حين يتعثّر هو الآخر سيجد من يتضامن معه. الفلسطينيون في الداخل لا يملكون شرطة ولا محاكم ولا نظاما قضائيا خاصا بهم يقوم بإلزامهم قسراً على الوفاء بوعودهم. كل ما يمكن أن يكون لديهم هو الثقة المتبادلة. إلاّ أنّ هذه الثقة غائبة حتى الآن، وما دامت غائبة فلا يمكن الحديث عن أي مشروع وطني حقيقي، وكل ما هناك هو رطانة قومية على السطح، وهرولة سريعة نحو الأسرلة في أعماق الواقع.
إنّ محاولة شطب عزمي بشارة من قائمة التّجمّع هي سابقة خطيرة، وهي قضية أهم من أن تبقى مواجهتها حصراً على التّجمّع وحده، والرّد عليها يجب أن يكون جماعيّاً. إلاّ أنّه حتّى يتسنّى أمرٌ كهذا، يجب أن يكون هناك ميثاق شرف للعمل السياسي يلتزم به الجميع. حتّى الآن لا يوجد أيّ ميثاق كهذا: الجبهة تعتقد أنّ الفلسطينيين في إسرائيل مجرّد جزء من اليسار الإسرائيلي، والحركة الإسلامية ترى أنّنا مجرّد جزء من الأمّة الإسلامية، وعليه لا ترى حاجة ملحّة لتنظيم هذه "النحن". إلاّ أنّ التجمّع الوطني نفسه ليس بريئاً ولا يستطيع أن يُعفي نفسه من مسؤولية غياب ميثاق من هذا النوع. بدون ميثاقٍ كهذا سيبقى عملنا السياسي يراوح مكانه - كثيرٌ من الكلام وقليل من الثقة.