المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات وأراء عربية
  • 1243

الارهاب هو الاغتيال والتفجير والقتل العشوائي. يظهر عادة في مراحل اليأس، ولدى من يريد من الشباب استباق نضج التغيير الاجتماعي لدى الجماهير. يظنون أن الاغتيال أو التفجير، يمكن أن يكون بديلا عن العمل الجماهيري المنظم، عن التعبئة الشعبية الشاملة.
الارهاب ظاهرة اجتماعية، ليس حكرا على البيئة الاسلامية كما يحاول الاعلام العالمي أن يصور الأمر الآن. وهذا ليس دفاعا عن الأنظمة الاسلامية القائمة، وليس تبريرا لأي خطأ ارهابي قائم، انما هو حقيقة تاريخية لا بد أن نطل عليها.

 


ما هو الارهاب؟

الارهاب هو الاغتيال والتفجير والقتل العشوائي. يظهر عادة في مراحل اليأس، ولدى من يريد من الشباب استباق نضج التغيير الاجتماعي لدى الجماهير. يظنون أن الاغتيال أو التفجير، يمكن أن يكون بديلا عن العمل الجماهيري المنظم، عن التعبئة الشعبية الشاملة.
الارهاب ظاهرة اجتماعية، ليس حكرا على البيئة الاسلامية كما يحاول الاعلام العالمي أن يصور الأمر الآن. وهذا ليس دفاعا عن الأنظمة الاسلامية القائمة، وليس تبريرا لأي خطأ ارهابي قائم، انما هو حقيقة تاريخية لا بد أن نطل عليها.
لقد ظهر الارهاب داخل الأنظمة الرأسمالية، كما ظهر داخل الأحزاب اليسارية، ثم ظهر داخل الحركات الاسلامية، انشق عنها وتبنى طرحاًً دينياً ذاتياً متطرفاً. ظهر الارهاب بشكله المنظم في روسيا الاقطاعية وفي مرحلة انتقالها من مجتمع الاقطاع والرق الى المجتمع البورجوازي الرأسمالي. وظهر الارهاب في أوروبا الرأسمالية وهي في ذروة بناء مجتمع الرفاه. وظهر في الولايات المتحدة الأميركية بصورة بشعة، اذ ارتبط بالعنصرية وبسيادة الرجل الأبيض على الرجل الأسود، واتخذ تعبيره المنظم في حركة «كوكلوكس كلان» التي كانت حركة رعب على امتداد أراضي الولايات المتحدة الشاسعة. وها هو الارهاب يظهر في البيئة الاسلامية، حيث تعمل الدول، بنجاح أو بفشل، من أجل التنمية الاقتصادية. ومن المفيد أن نلحظ هنا أنه في الوقت الذي تجري فيه الاعتقالات والمحاكمات لشبكات الارهاب في السعودية والمغرب (الاسلاميين)، تجري محاكمة أعضاء حركة «7 نوفمبر» في اليونان (الرأسمالية)، وهي حركة ارهابية أتعبت السلطة اليونانية على مدى خمسة عشر عاما، والاسم الذي تحمله هو ذكرى انتفاضة الطلبة في أثينا عام 1973 ضد الديكتاتورية العسكرية التي كانت قائمة آنذاك. وبدلا من الفكر الديني الذاتي والانتقائي الذي يبرر للارهابي كل شيء، يعبر الارهابيون اليونانيون عن فكر يساري ذاتي وانتقائي يبررون فيه لأنفسهم كل شيء، من الاغتيال الى السرقة. انه اذاً، المنهج نفسه، والمنطق نفسه، يبرز في مجتمعات مختلفة، وفي مراحل مختلفة من التطور التاريخي، وداخل حركات سياسية مختلفة ومتناقضة، ولذلك من الخطأ الفادح القول بأن الارهاب مرتبط بالبيئة الاسلامية أو بالفكر الديني الاسلامي، ومن الخطأ ربط الارهاب بفكرة الجهاد ذات الأبعاد السامية. ولو شئنا الدقة لقلنا ان الارهاب هو نتاج الحضارة الرأسمالية قبل أن يكون وليد البيئات الاسلامية. ولا يجب أن يكون في هذا التوضيح أي توجه تبريري، ولا بد أن يكون الهدف منه فهم الظاهرة بعمق، وعلى حقيقتها، حتى يكون من الممكن التصدي لها ومعالجتها بشكل ناجح، ذلك أن الخطأ الارهابي الذي نحن بصدده، يواجه بخطأ على مستوى الفكر، يعتبر الارهاب جزءاً تكوينياً أصيلاً من شخصية الانسان المسلم، ويستخلص من ذلك حتمية «صراع الحضارات»، حيث تمثل الحضارة الغربية في هذا التحليل، مفاهيم الديمقراطية وحقوق الانسان، ومفاهيم الانتخاب والحوار البرلماني. ولكن هذه الديمقراطية أفرزت «الألوية الحمراء» في ايطاليا، و«الجيش الأحمر» في اليابان، و«بادر ـ ماينهوف» في ألمانيا الغربية، و«العمل المباشر» في فرنسا، فهل نجاري الخطأ بناء على ذلك ونقول ان الارهاب جزء مكون أصيل في شخصية الانسان الغربي، ونطلق من جهتنا دعوة مضادة لتبني «صراع الحضارات»؟
ان الفكرة البسيطة والعميقة في الآن نفسه، والتي لا بد أن نتوقف عندها ونشرحها بمختلف الوسائل والسبل، هي أن الارهاب عمل فاشل، اذ لم يحدث أن نجح الارهاب في الوصول الى اهدافه في أي مجتمع من المجتمعات، ولا في أي مرحلة من المراحل التاريخية. وجوهر هذا الفشل أنه لا يمكن احداث تغيير اجتماعي ما، ومهما كانت درجة الظلم السائدة، بالاستناد الى الارادة الفردية. ويحتاج التغيير دائما الى عمل جماعي يصل الى مستوى العمل الجماهيري الواسع، وهو عمل لا يمكن الوصول اليه الا من خلال تنظيمات قوية، تتبنى فكراً وبرنامجاً يلقى القبول والتأييد من الناس. وبعد ذلك فان التحرك لا يكون الا في لحظات مناسبة يؤخذ فيها العمل المحلي والاقليمي والدولي بعين الاعتبار، فقد تكون الظروف الذاتية الداخلية جاهزة للتحرك والتغيير، بينما تكون الظروف الدولية معاكسة لذلك، فيتوقف التغيير أو يفشل اذا تحرك من دون أن يأخذ مجمل العوامل بعين الاعتبار، فالتغيير عمل اجتماعي تاريخي وليس مجرد حماس أفراد مهما بلغ عددهم. وهنا يبرز عامل القيادة وخبرتها ونضجها، فمن دون قيادة واعية وكفؤة فان العوامل الايجابية المتوفرة كلها يمكن أن تضيع وتتلاشى وتضطرب، بسبب قرار خاطىء. ولو نظرنا بتمعن الى قيادات الحركات الارهابية، من سوريا الى مصر الى الجزائر، ثم الى السعودية والمغرب الآن، لوجدنا أن القيادات الارهابية تفتقد الى المواصفات الفكرية أو السياسية التي تؤهلها لقيادة عمل تاريخي. ان هذه الملاحظة لا تعني أن القيادات الارهابية لا تتمتع بكفاءات فردية، فقد ثبت أن كفاءاتها الفردية على صعيد التخطيط التآمري كبيرة للغاية، ولكن كفاءتها على مستوى الرؤية الثورية التاريخية الناضجة، والتي تستطيع قيادة تغيير في المجتمع كله، ضعيفة للغاية ان لم تكن معدومة.
من أبرز الأمثلة الحديثة على غياب الرؤية التاريخية الناضجة لعملية التغيير، ما ورد في أحد الأشرطة التلفزيونية لأسامة بن لادن، يتحدث فيه عن نتائج أحداث 11 سبتمبر في نيويورك، وعن نتائج انهيار البرجين الكبيرين. لقد تحدث طويلا عن الخسائر الاقتصادية التي تسبب بها الحادث، وبدأ يشرح بالأرقام، قيمة الخسائر في البرجين، ثم في البورصة، ثم في شركات الطيران، ليستدل من كل ذلك على أن هذا هو نتاج عملية واحدة فقط، فكيف لو كانت هناك عشر عمليات أخرى مشابهة مثلا؟
ان الحديث عن الاقتصاد الأميركي وكيفية تدميره، يظهر سذاجة لا حد لها في فهم معنى الاقتصاد، والاقتصاد الأميركي بالذات، ويبرز ضحالة في المستوى القيادي لأسامة بن لادن وأمثاله، الذين يعتقدون أن تدمير مبنى في ولاية أميركية سيهز الاقتصاد الأميركي، أو أن تدمير سفارة في بلد افريقي سيدفع الولايات المتحدة الى تغيير استراتيجيتها العالمية، ان هذا المستوى من القادة يستطيع أن يخطط لتدمير مبنى، ولكنه لا يستطيع أن يقود حركة شعب، لانه أسامة بن لادن وليس العز بن عبد السلام، ولا جمال الدين الأفغاني، ولا حتى محمد علي جناح.
ومن أبرز الأمثلة على توفر الرؤية التاريخية الناضجة لدى القيادة، ما حدث مع الحزب الشيوعي الايطالي بعد الحرب العالمية الثانية. لقد كان الحزب بعد الحرب قادرا على تسلم السلطة مباشرة، وكانت الأغلبية في القيادة تدعو الى التحرك لإنجاز هذا الهدف بسرعة، ولكن «تولياتي» أمين عام الحزب هو الذي وقف محذرا وقائلا لزملائه: «اياكم والمغامرة». لقد أدرك تولياتي أن ايطاليا ستكون جزءا من التحالف الغربي بعد الحرب، وأنها ستكون ركيزة أساسية من ركائز (حلف الأطلسي) الناشئ بعد الحرب لمواجهة الاتحاد السوفياتي، وادرك أيضا أنه من المستحيل في ضوء ظروف كهذه أن يتولى السلطة في ايطاليا حزب شيوعي، وأدرك أن الأمر سيكون مغامرة فاشلة، فأحجم عن القيام بها، لأنه قائد يفهم التاريخ والجغرافيا السياسية.
وثمة مثل عربي مشابه، ففي أواخر عهد عبد الكريم قاسم في العراق، كان الحزب الشيوعي العراقي قادرا على تسلم السلطة، حتى أنه ناقش الأمر مع القيادة السوفياتية في موسكو، وكان القرار في النهاية ألا يقدم الحزب على هذا العمل، لأن الاقدام عليه سيجر الى مواجهة مباشرة بين موسكو وواشنطن، حيث تعتبر واشنطن النفط ومنطقة الشرق الأوسط من مناطق نفوذها الاستراتيجية. وهذا الذي أدركه الشيوعيون العراقيون في الستينات، لم تدركه القيادة العراقية في التسعينات، فكان ما كان من احتلال الكويت ومحاولة السيطرة على نفطها.
واذا كنا نتحدث عن ضعف المستوى القيادي لدى الحركات الارهابية، فلا بد أن نشير هنا الى مسؤولية تقع على عاتق الأحزاب السياسية الناضجة، مهما كان اتجاهها الفكري، فهذه الأحزاب تعمل في حواضر الأرياف، وفي المدن. تعمل في المدارس والجامعات والنقابات، ولكنها بعيدة كل البعد عن مدن الصفيح التي تتشكل حول المدن عشوائيا في البلدان النامية. تضم مدن الصفيح هذه أهل الريف النازحين الى المدن، وهم يعيشون في فقر مدقع، وداخل بيوت تفتقد الى أي عنصر من عناصر الحياة الحديثة، ويقضون عمرهم من دون أن تصلهم أية خدمة من خدمات الدولة، فلا شوارع ولا كهرباء ولا ماء ولا مدارس ولا مستوصفات ولا مراكز لاطفاء الحرائق، ويشعرون في النهاية أنهم لا ينتمون الى الدولة وأن الدولة لا تنتمي اليهم. وفي الوقت نفسه فان الأحزاب لا تصل اليهم، فلا أحد يخاطبهم، ولا أحد يتبنى مطالبهم، وحين يجدون أمامهم أي داعية متطرف، يدعوهم الى التمرد ضد السلطة وضد المجتمع، يتجاوبون معه بسرعة، فاذا أضيفت الى التطرف نزعة دينية تريح ضمائرهم، تحولوا الى وقود متفجر. انها اذا مسؤولية الدولة في العناية بأبنائها، ومسؤولية الأحزاب في الوصول الى جمهورها. وهنا منبع الخلل ومنبع العلاج البعيد المدى.

 

(الشرق الاوسط، لندن، 1 حزيران)

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات