كحال إدوارد سعيد الذي هاجم في كتابه "الاستشراق" (1978) المثقفين الغربيين الذين درسوا الشرق وكتبوا عنه كمنطقة مختلفة ومنفصلة عن ثقافتهم، كمنطقة غريبة تتسم بالسحر والتقلب، يقوم أيضاً البروفيسور غيل إيال، من دائرة علم الاجتماع في جامعة كولومبيا في نيويورك، في كتابه "نزع السحر عن الشرق"، الصادر أخيرًا عن منشورات "معهد فان لير" و"هكيبوتس همئوحاد"، بعرض تفسير ورؤية المستشرقين على اختلاف مشاربهم للواقع في "أرض إسرائيل" وللصراع الصهيوني- الفلسطيني ولمختلف الزعماء العرب.
الأسئلة الرئيسية التي تناولها الباحث (إيال) كانت: ما هو الاستشراق وما هي وظيفته في المجتمع والثقافة الإسرائيليين؟ كيف تغيرت هذه الوظيفة بمرور السنوات؟ هل تقوم المدارس الفكرية المختلفة بمواءمة نفسها مع توجهات وإرادة القادة والزعماء؟ إلى أي حد يعتبر الخبراء المختلفون أُناسًا مستقلين، أو محللين في الوقت المناسب؟ لماذا تنأى علوم الشرق عن دراسة وبحث اليهود-العرب أو "الشرقيين" ولماذا وضع هؤلاء، الأخيرون، في دائرة اختصاص الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع والعلوم السياسية؟.
يتفحص غيل إيال بشكل مسهب ومفصل طبيعة العلاقات بين الأكاديميا على اختلاف معاهدها ومراكزها وبين "العربستيم" (المستعربين) من حكام عسكريين، ومحققين في أجهزة المخابرات ("أمان" و"الشاباك") ومؤسسات الدولة وذلك في فترتي "الييشوف" و"الدولة" ويجد أنه كان هناك تضارب وتداخل في عمل المؤسسات والأجهزة المختلفة، وأن ذلك ناتج بالأساس عن التنافس على الهيمنة الاستشراقية.
ويُكثِر الباحث من استخدام مصطلح "مهجنين" في صدد المجموعات السكانية الموجودة بين اليهودية والعربية، مثل السفارديم والمستعربين والفلاحين، متفحصاً موقعهم في هامش المجتمع السائد.
كتاب "نزع السحر عن الشرق" هو تحليل سوسيولوجي فلسفي وسياسي ومحاولة لـ "فصل القمح عن الزوان" حتى يكون لكل "شرقه" الخاص، بحيث يسخره ويستخدمه وفقاً لمتطلباته واحتياجاته.
وكان عوز ألموغ قد حاول في كتابه "الصابرا- صورة عن قرب" عرض الشرق وسكانه العرب بشكل وصورة مختلفين عن الشخصيات الجديرة بالمحاكاة والإعجاب، كـ "بدائي أصيل" لجان جاك روسو، مروراً بـ "العبري القديم" لأبراهام مافو ويسرائيل بلكيند، العربي كنموذج ليهودي جديد، حسب صيغة ر. بنيامين، ألكسندر زايد وي. رابينوفيتش، وانتهاء بالإنسان الهمجي المتحدر من ثقافة دونية، والوحش المتعطش للدماء في "سيف الحمامة" لأنيتا شابيرا (ص242).
خلاصة القول هو أن اليهودي المتولد في البلاد مُتَضمَّن في العربي الفلسطيني كما ظهر ذلك في قصيدة مئير أريئيل "شاب مثقف"، فـ "في نهاية كل عبارة أو جملة تقولونها بالعبرية، يجلس عربي في يده نرجيلة، حتى لو بدأ ذلك في سيبيريا أو هوليوود".
يقدم محتوى الكتاب شرحاً وتفسيراً لبنية ثقافية اجتماعية معينة تمثل التجربة الإسرائيلية في اللقاء مع الشرق "الحقيقي" والمُتَخيَّل. وشيئاً فشيئاً يتفكك الشرق- حسب ما جاء به الكتاب- إلى أجزاء صغيرة ثم ينهض من بين ركامه واقع جديد للقاء بين الثقافة الإسرائيلية وبين العالم العربي الغريب المحيط بها. هذه التجربة تعتبر في معظمها بمثابة محاولة لبناء هوية غربية منفصلة أو متميزة، لكنها محاولة يائسة وغير مثمرة ذلك لأن العربي- العربي "الخارجي" والعربي "الداخلي" و"الحاضرون الغائبون" ويهود الشرق- لا يكف عن "إزعاجنا" و"إقلاق راحتنا".
يسعى الاستشراق إلى تحليل وبحث وتفسير أوجه التقارب والتباعد بين هاتين الثقافتين من خلال عرض مجمل أشكال المعرفة والممارسة التي تلخص اللقاء بين الإسرائيليين وبين الواقع المحيط بهم (ص10).
من بين المستشرقين الذين يتفحصهم الكتاب أكاديميون في الجامعات المختلفة والذين أقام بعضهم معاهد خاصة لبحث ودراسة الشرق، فضلاً عن عملهم كموظفين في جهاز الدولة أو كعسكريين وصحافيين وباحثين مستقلين. وينتج كل هؤلاء، سوية مع السياسيين الذين يعملون بوحي منهم، خطاباً نافذاً أو مُعتمداً فيما يتعلق بهذه المواضيع.
ما يدّعيه المؤلف هو أن عالم معارف ومحتوى الاستشراق ليس حكراً على الخبراء فقط، وإنما هو في متناول يد كل إسرائيلي، وأننا جميعاً "مُستشرقون صغار"، ذلك لأن لكل مواطن في الدولة رأيه الخاص فيما يتعلق بالزعماء العرب، والحروب ونتائجها، وعمليات الجيش الإسرائيلي، والانتفاضات، وبالأخص فيما يتعلق بالنظرة إلى مواطني الدولة العرب.
عنوان الكتاب استعاره المؤلف من مصطلح "نزع السحر عن العالم" للكاتب ماكس ويبر، أي فقدان المعنى في العالم العصري المركب والصعوبة في فهمه. ذلك لأن الثورة العقلية أوجدت فصلاً بين المجالات المختلفة: الدين، العلم، الاقتصاد، السياسة، الفنون ...الخ (ويبر 1948). كذلك الحال، فإن الشرق الأوسط أيضاً ليس مبنياً ككتلة واحدة لا تتجزأ، أي كعرب ومسلمين، وإنما هو مركب ومعقد ومتنازع للغاية.
وخلافاً لإدوارد سعيد الذي هاجم اختراع الكيان الخيالي المسمى بـ"الشرق" ووضعه على النقيض التام من الغرب والغربية، يطرح غيل إيال في كتابه أوضاعاً بينية (وسطية)، بمعنى ليس "نحن" وليس "هم"، ليس هنا وليس هناك، وإنما "مهجَّن" وفق ما ذهب إليه هومي بابا في مؤلفه "موضع الحضارة" (لندن، روتلدغ 1994). فالحدود هنا بين العوالم الثقافية ليست خيطاً رفيعاً وجلياً مثلما تخلق الحدود السياسية "منطقة حرام" و"مناطق منزوعة" و"منطقة تماس" و"منطقة حدودية"...الخ.
هؤلاء "المهجنون" كُثُر، وحيث أنهم لا ينتمون إلى معسكر محدّد لا بد إذن من بحثهم وتفحصهم بدقة متناهية وطرحهم كمجموعة متميزة ومنفصلة تنطوي أيضاً على سمات ومزايا من كلا المعسكرين. ثمة هنا عصرنة وغربية وتميز عن السكان الأصليين من جهة، وتشابه كبير مع السكان المحليين من جهة أخرى. ويبحث جلّ الكتاب في الاختلافات والفوارق بين الصورتين النمطيتين الرئيسيتين وبالأخص ما بينهما، وفقاً لما درسه وعرضه الخبراء والمستشرقون أمام صانعي القرارات.
ويشخص المؤلف "المهجنين" على أنهم "المستعربون"، أي اليهود الذين اتبعوا نمط حياة فلسطيني (من حيث اللغة واللباس والموسيقى وأصناف الطعام... الخ). "اليهود السفارديم" الذين كانوا على دراية وإلمام بالمجتمع الفلسطيني الحضري، و"الفلاحين" الذين اتخذوا لأنفسهم صورة أحفاد وذرية العبريين القدماء ("نمرود" لإسحاق دينتسينغر، و"الكنعانيون" وما شابه..).
بعد حرب العام 1948 التي شكلت ما يشبه "نقطة التحول" في التأرخة الصهيونية، ظهر "مهجنون" جدد ، وهم "المتسللون" الذين عبروا حدود الدولة، و"عرب إسرائيل" و"الشرقيون"، المهاجرون الجدد الذين قدموا في نطاق "الهجرة الجماعية"(ص17).
تتضمن فصول الكتاب وصفا مسهبا للسكان العرب والفئة المصنفة كـ"مهجنين"، وذلك من وجهة نظر الخبراء المستشرقين الذين كثيرا ما ناقض أحدهم الآخر في أبحاثهم كنتيجة لوظائفهم المهنية وزمنهم ومكانتهم في المجتمع الإسرائيلي.
ففي ثقافة "الييشوف" كانت تجربة اللقاء مع الشرق شائكة ومركبة كما اشتملت على منطقة حرام مأهولة بالمهجنين. فمن جهة سادت الرؤية أو النزعة الاستشراقية التي تبناها زعماء ومفكرو الصهيونية، هرتسل ونورداو وجابوتنسكي، الذي قال "نحن ذاهبون إلى فلسطين من أجل محو بقايا الروح الشرقية العالقة بين ظهرانينا، باستطاعتنا أن نصنع معروفا للعرب في فلسطين إذا ما ساعدناهم في تحرير أنفسهم من الشرق"، ودافيد بن غوريون في تصريحاته وتفوهاته المختلفة ضد السكان العرب الآسيويين وبلكيند الذي نظر إلى العرب كقوم من "البدائيين و"المتخلفين". من جهة أخرى كانت هناك محاولات قليلة جدا وغالبا فاشلة لدمج الغرب مع الشرق.
هناك تيار في الصهيونية أطلق عليه"الاندماجية الغيرية" كـ"حلف السلام"، استهوى أنصاره بالذات نمط حياة أبناء الصحراء والبازار والقرية، البدو العرب المحليين، مثل موشيه شاريت الذي عاش في قرية عربية خلال فترة معينة، حتى يعيش أبناؤه التجربة البدائية، أو بيسح بار- أدون الذي عاش بين البدو وحاكى ثقافتهم قبل أن يصبح فيما بعد عالما في الآثار.
يكرّس الكتاب عددا من أجزائه لمدارس المستشرقين المختلفة من فترة "الييشوف"، والذين كان معظمهم من ذوي التأهيل الأكاديمي الألماني، وكان القسم الأكبر من هؤلاء المستشرقين أعضاء في "حلف السلام" أو من مؤيديه. هناك مجموعة أخرى ضمت "المستعربين" وهم وجهاء مقربون من الزعامة السياسية ويعملون في خدمتها إضافة إلى مجموعة من المستشرقين الذين كانوا جزءا من أجهزة استخبارات "الييشوف". وقد سادت أجواء المنافسة بين مختلف هذه المجموعات التي خاضت صراعات فيما بينها على "مجالات نفوذ" أبحاثها وصلاحياتها فضلا عن تضارب وتباين استنتاجاتها ومعطياتها في الكثير من الأحيان.
ومن بين المواضيع التي كانت محل خلاف شديد في عمل فرق المستشرقين هذه: ماهية القومية العربية، القرية العربية والسلطة عليها، استيعاب الشرقيين، المستعربون الجدد، عمليات طرد الفلسطينيين ("سد باب العودة")، الصراع على إدارة مناطق الحدود وإدارة شؤون الأقلية الفلسطينية، استيعاب اليهود- العرب ("بلدات التطوير") وغيرها.
ولعل الفصل المركزي والأكثر أهمية (في الكتاب) بالنسبة للجمهور الواسع هو الفصل الذي يتناول الخطاب حول القرية العربية، ذلك لأنه على تماس مع الواقع الراهن.
كما هو معروف، فقد اتسعت مجالات اهتمام وعمل الحكم العسكري لتشمل مسائل الطرد والذوبان والأتونوميا والرقابة، حيث كتب في الوثائق الرسمية أن "إحدى وظائف الحكم العسكري هي تشجيع وإتاحة الإمكانية لأجزاء من السكان للانتقال إلى البلدان المجاورة" (قسم العمليات فرع الحكم العسكري 24/1/1951، أرشيف جيش الدفاع الإسرائيلي 1955، 1953).
كذلك كان الحكم العسكري هو المسؤول الرئيسي أيضا عن جمود البنية الهيكلية للقرية، وذلك بالأساس نتيجة لعمليات مصادرة الأراضي المكثفة (إيان لوستيك، "عرب في الدولة اليهودية". حيفا، مفراس 1985)، وهي ظاهرة لا تزال تتكرر اليوم أيضا في الجليل والنقب.
لقد تحول الحكم العسكري عملياً إلى ما يشبه الوصي على أراضي الدولة المصادرة (ص124)، كما "حرص" بالإضافة إلى ذلك على إتباع سياسة تعطيل منهجي لإصدار تراخيص البناء وإعداد الخرائط الهيكلية وإقرارها علاوة على هدم المباني والبيوت غير المرخصة وطرد "المتسللين" إلى أراضي الدولة (أرشيف الجيش الإسرائيلي 1965/170 27 م ب5).
معظم المجالس المحلية العربية في السنوات الأولى لقيام الدولة كانت مجالس معينة وليس منتخبة وكذلك كانت الأحزاب العربية، أحزاب تابعة أو ذيلية موالية للحزب الكبير الحاكم، حزب "مباي".
صحيح أن الحكم العسكري ألغي في العام 1966 (بعد 18 عاما من سلطته القمعية)، غير أن أنشطته وممارساته الخفية عن الأنظار استمرت من ناحية ملموسة على الأرض بوتيرة أشد، وذلك من خلال استمرار العديد من الهيئات والدوائر الرسمية، مثل لجنة المدراء العامين لشؤون التوزيع السكاني، ومكتب مستشار الشؤون العربية وممثلي الجيش والشرطة والمخابرات وغيرها من الدوائر والوزارات الحكومية، في إتباع وممارسة إشراف ووصاية وثيقين على أراضي الدولة في محيط التجمعات الفلسطينية.
على هذه الأرضية أعدت أبحاث كثيرة حول القرية العربية التي تحولت إلى موضوع للسجال والخطاب، لا سيما في الفترة الواقعة بين سنة 1952 و1981. كذلك تحول الإنسان (المهجن) العربي الإسرائيلي إلى موضوع لأبحاث العديدين من علماء الجغرافيا والسوسيولوجيا والعلوم السياسية وبدرجة أقل خبراء الاقتصاد، حيث تولى هؤلاء "تطهير" هذا الإنسان (العربي- الإسرائيلي) نظرا لأنه لم يكن ينتمي لا للمعسكر اليهودي ولا للمعسكر العربي الموجود وراء حدود الدولة .
أجرى غيل ايال، في كتابه، مقارنة مثيرة للاهتمام بين القرية العربية وبلدة التطوير، اللتين تعرضتا على حد سواء لعملية إقصاء مادية واقتصادية واجتماعية من "الصالح المشترك".
على أرضية الحروب الخارجية وما زعم أنه "طابور خامس" في الداخل تصارع الأكاديميون والمحللون والخبراء، من متقاعدي أجهزة المخابرات على اختلافهم، على موقع الصدارة، وهو ما شكل أرضية لقيام معاهد أبحاث عدة مثل "معهد شيلوح" في جامعة تل أبيب، الذي تحول إلى "مركز ديان" والذي نافس أبحاث يهوشفاط هركابي واسعة النطاق، و"معهد ترومان" في القدس الذي استقطب نخبة من المستشرقين الإسرائيليين .
أحد المواضيع المثيرة للجدل والذي شغل المستشرقين الإسرائيليين على اختلاف أنواعهم هو "الميثاق الوطني الفلسطيني" حيث قام كل واحد منهم، تبعا لمدرسته، بتفسيره حسب رؤيته، إلى أن أضحت هذه الوثيقة (الميثاق) في منزلة "التلمود" السياسي الإسرائيلي أكثر من كونها "ميثاقا للفلسطينيين" (ص189).
موضوع اللاجئين احتل أيضا موضعا مركزيا في مواضيع البحث وكذلك الحروب المختلفة وبالأساس زعماء الدول العربية (عبد الناصر، السادات، حافظ الأسد، الملك حسين وآخرون...).
يتمثل جوهر الكتاب في عرضه لواقع متخيل، وعرضه لدورنا في خلق هذا الواقع وفي نزع "السحر" أو "الوهم الجميل" عن الشرق.
يقول إيال في "الخاتمة" إن الصهيونية احتوت داخلها واستخدمت دائما ما رفضته واستبعدته ظاهريا، ولم يكن وجودها ممكنا بدونه، ويضيف أن الصهيونية لم تكن واقعا وإنما أسطورة حافلة بالتناقضات، أسطورة كان يتعين عليها دوما (أي الصهيونية) اختراعها من جديد (ص193).
[خاص. ترجمة "مدار"]
(*) د. دان ياهف- أستاذ جامعي في كلية "بيت بيرل".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, معهد فان لير, جيش الدفاع الإسرائيلي, المستعربون, نمرود, هكيبوتس همئوحاد, ايال