المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 5458

صدر مؤخراً عن دار نشر "يديعوت أحرونوت" كتاب جديد للمؤرخ آفي شلايم تحت عنوان "الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي" وهو كتاب يتسم بالشمولية، يستعرض فيه المؤلف معظم الأحداث والتحركات والسيرورات السياسية المركزية منذ قيام الدولة (إسرائيل) وحتى العام 2004 وذلك وفق ترتيب تسلسلي.

لقد أفلح البروفيسور آفي شلايم في جمع كل الحلقات في سلسلة واحدة عندما ربطها ببعضها وبذلك أعطى تفسيراً وسياقاً متصلاً للأسباب والنتائج على عكس الكثيرين ممن يعزلون أو يقيمون فاصلاً بين أعمالنا وأعمال غيرنا في الداخل والخارج ولا ينجحون دوماً في الجمع بين السبب والنتيجة.

وعلى الرغم من أن آفي شلايم يعد واحداً من "جيل المؤسسين" لـ"المؤرخين الجدد"، إلى جانب البروفيسور بيني موريس، إيلان بابه، سمحا فلابان وآخرين، إلاّ أن كتابه لا يحتوي على أي "سبق" أو كشف مدوٍّ لا يعرفه "الخمسينيون" أو من تزيد أعمارهم عن ذلك ممن يمتلكون إلماماً في السياسة وفي التاريخ العسكري.

ويكمن جوهر "المؤرخ الجديد" في التوجه النقدي وفي تحليل الوقائع وبالأخص في تفسيرها وفي الاستخدام المكثف لوثائق جديدة كشف النقاب عنها حديثاً في أرشيف الدولة وأرشيف الجيش الإسرائيلي والأرشيف الملكي البريطاني (pro)، ولا سيما في طريقة بحث التاريخ الشفوي كطريقة مكملة للمصادر والمراجع المكتوبة. وعلى ما يبدو فإن الطريقة الأولى أخذت تحتل أكثر فأكثر مكانة وحيزاً أكبر في الأبحاث الأدبية والاجتماعية من خلال التقاطع الذي تجريه بين الشفوي والمكتوب. وفي الواقع فإن لائحة المقابلات الشفوية التي يتضمنها الكتاب تبدو مثيرة للغاية، والتي جرت مع رؤساء دولة وحكومات وملوك وجنرالات في الجيش الإسرائيلي (أنظر قائمة المقابلات ص 600-601).

وكان كتاب آفي شلايم قد رأى النور أولاً باللغة الإنكليزية سنة 2000. ونظراً لأهميته البالغة، خاصة من حيث تقديمه لرواية مختلفة عن الرواية المقبولة والمتداولة في أوساطنا (في إسرائيل)، فقد تمت ترجمته إلى اللغات الإيطالية والإسبانية والبرتغالية والعربية، ثم قام الباحث (الكاتب) توطئة لصدور الطبعة العبرية بـ"حتلنة" [تحديث] الكتاب في "الخاتمة" متضمناً المستجدات الهامة حتى يومنا هذا تقريباً.

يعرض شلايم في مقدمة الكتاب لائحة كرونولوجية يمكن التنويه بما تتضمنه من أحداث "إيجابية" و"سلبية" والأشخاص "الجيدين" وعلى رأسهم موشيه شاريت، أبا إيبان، إسحق رابين في فترة ولايته الثانية لرئاسة الحكومة، وغيرهم... وكذلك "السيئين" (مثل دافيد بن غوريون، موشيه ديان، يسرائيل غاليلي، يغئال ألون، إسحق شامير، بنيامين نتنياهو وغيرهم ...) حيث يمتحن الفريقان [أي "الجيدون" و"السيئون" كما ورد ذكرهم في كتاب شلايم] في ضوء نظرتهم وتعاطيهم تجاه "عرب أرض إسرائيل" والمحيط العربي برمته.

فصل المدخل في الكتاب والذي عنون بـ"أسس الصهيونية"، جاء مقتضباً جداً، وعلى ما يبدو فقد حاول الباحث التهرب من الخوض في تاريخ "عتيق"، ويا للخسارة (!) إذ ربما كانت تكمن هناك جذور الصراع، وعدم القدرة على التوصل إلى تسوية إقليمية، وعدم الاعتراف بالقومية الأخرى، أو الاستخفاف والتنكر لها، والاعتماد على القوى الأجنبية وغير ذلك.

المسألة المفقودة

يستهل شلايم وينهي بحثه باقتباس من المقال الشهير للمربي الكاتب إسحق أفشتاين- "المسألة المفقودة" ("هشيلوح" 1907)، والذي كان موضوعه الرئيسي نظرة اليهود لعرب- أرض- إسرائيل:

"بين المسائل الصعبة المرتبطة بفكرة انبعاث شعبنا في أرضه، هناك مسألة واحدة تُضاهي كل ما سِواها: مسألة نظرتنا تجاه العرب لم تُغفل بل فُقدت كلية من الصهيونية، وهي بصورتها الحقيقية ليس لها تقريباً أي ذكر في أدبيات حركتنا" (ص 25).

هذه النظرة تلازم تاريخ الصهيونية منذ "الهجرة الأولى" (1882)، حيث كانت شعاراتها المعروفة والمتناقضة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" من جهة، ومن جهة أخرى "العروس جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر"، هذه الشعارات التي تجسدت لاحقاً في عدم الاعتراف بكيان فلسطيني وطني، أو كما قالت غولدا مئير: "لا يوجد شعب فلسطيني"، وفي السعي الدائم للتحالف مع قوة عظمى، خارج الشرق الأوسط، كعلاقات حاييم وايزمان مع بريطانيا، فبمقدار ما تعمقت هذه العلاقات، بمقدار ما كان اهتمامه يقل ويضعف إزاء المصاعب المحلية التي يواجهها عرب- أرض- إسرائيل.

هناك توجه معروف أكثر لزئيف جابوتنسكي، الأب الروحي للحركة الإصلاحية، مؤداه أن الصهيونية هي نبتة أو فرع للحضارة الغربية في الشرق وأنها ستكون إلى الأبد حليفاً للكولونيالية الأوروبية ولاحقاً الأميركية ضد عرب الشرق الأوسط.

وقد كتب جابوتنسكي مقالين بهذه الروحية سنة 1923 تحت عنوان "الجدار الحديدي" وهو نفس الاسم الذي حمله كتاب آفي شلايم. جوهر المقالان مؤداهما انه لا يجوز حتى الحلم بالتوصل إلى اتفاق بيننا وبين عرب أرض إسرائيل، مع ذلك فقد أدرك جابوتنسكي أن العرب في البلاد هم "أمة حية". فهم لن يتخلوا أو يتنازلوا عن حقوقهم الأساسية، وأننا فقط إذا ما أقمنا "جداراً حديدياً"، بمعنى قوة عسكرية كبيرة وقوة عظمى راعية، حامية ومساندة، فربما يرضخ هؤلاء العرب عندئذٍ ويتنازلون عن "أرض إسرائيل". عملياً فإن "نظرية" وتفكير الزعيم الروحي لليمين الإسرائيلي ما زالا يصاحباننا حتى اليوم، ولا سيما تجاه الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. كل ما حصل أننا استبدلنا "الجدار الحديدي" بـ"جدار الفصل الإسمنتي". هذه الرؤية أضحت أيضاً رؤية تتبناها أحزاب الوسط واليسار على طول الطريق مع بعض التفسيرات المرنة نوعاً ما.

فوجهة نظر دافيد بن غوريون وحزبه "مباي" قضت أيضاً وبشكل دائم بأن "عرب أرض إسرائيل" لا يشكلون كياناً قومياً منفصلاً، وإنما هم جزء من الأمة العربية كلها (د. بن غوريون، لقاءات مع زعماء عرب. تل أبيب: 1967).

تقسيم البلاد

يُشكل "تقسيم البلاد" الموضوع المركزي على امتداد تاريخينا، لكن الباحث يستعرض بإيجاز تطور الفكرة والتوجهات السياسية المختلفة حيالها ابتداء من "لجنة بيل" (1937) التي تشكلت في أعقاب "التمرد العربي"، والتي عقب بن غوريون عليها بالقول "إن الدولة اليهودية الجزئية ليست النهاية وإنما البداية... سوف ننظم قوة دفاع متطورة، جيشًا منتخبًا، وإنني سأكون على ثقة عندئذٍ في أننا سننجح بالاستيطان في كل باقي أجزاء البلاد... سواء أكان ذلك باتفاق مع جيراننا العرب أو بطريقة أخرى ..." (ص 43). هذا الفهم لا يزال من ناحية عملية سائداً وقائماً حتى الآن، نعم للتقسيم ولكن بعد أن لاّ يبقى الكثير مما يمكن تقسيمه أو تقاسمه. (مستوطنات، مواقع استيطانية، طرق التفافية، غلاف القدس، كتل مستوطنات وغير ذلك).

وكان مشروع التقسيم (قرار 181)، الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني 1947، قد قوبل بالرفض الشديد من جانب مناحيم بيغن، تلميذ صاحب فكرة "الجدار الحديدي": "إن تقسيم الوطن أمر غير مشروع أو قانوني ولن يتم الاعتراف به أبداً، ولن يكون ملزماً لشعب إسرائيل ...". رغم أن "الوكالة اليهودية" وبعض الزعماء الصهيونيين المعتدلين قبلوا رسمياً بـ "مشروع التقسيم"، لكنهم كحال بن غوريون في ذلك الوقت، توقعوا وأملوا في توسيع حدود "الدولة اليهودية".

البروفيسور آفي شلايم، وبدافعٍ من "نزاهته الفكرية"، لا يتوانى أيضاً عن توجيه سهام النقد للعرب وزعمائهم، الذين رفضوا جملةً وتفصيلاً تقسيم البلاد وخلقوا عملياً الأرضية لصراعٍ دامٍ وشاملٍ نُسميه نحن "حرب الاستقلال" و"حرب التحرير"، ويُسميه العرب "النكبة"، ويُقسِّم "المؤرخون الجدد" هذه الحرب أو النكبة بوصفهم لها كحرب أهلية (قوات شبه نظامية) والتي استمرت حتى 14 أيار 1948، وكحرب نظامية بين جيوش اعتباراً من هذا التاريخ وحتى انتهاء الحرب في 7 شباط 1949.

يولي آفي شلايم أهمية كبيرة للاتفاقات السرِّية مع الأردن، فيرى فيها انعكاساً لصداقة بين البلاط الملكي الهاشمي والحركة الصهيونية. حيث كان لكليهما حام مشترك تمثل في بريطانيا، وعدو مشترك تمثل في الحركة الوطنية الفلسطينية وزعيمها الحاج أمين الحسيني، مثلما حلّل وأسهب شلايم في كتابه "مؤامرة على الأردن" ( أوكسفورد 1988) كجزء من النظرية الصهيونية العامة القائمة على "فرِّق تسد" (ص 50-53).

بعد ذلك ينتقل الباحث إلى تحليل مفصّل للحروب المختلفة وما تخللها من صراعات سياسية. وكما أسلفنا فهو يجد ثغرات وأخطاء كثيرة في السياسة العربية لكنه يوجه جُلّ سهامه ونقده تجاه الزعماء اليهود وقادة الجيش الإسرائيلي بالذات، الذين لم يوفروا فرصةً لتفويت السلام والتسوية والاعتراف بالكيان الفلسطيني.

فيما يتعلق بالحرب المؤسسة الأولى فقد سبقه مؤرخون عسكريون في تقويض وتحطيم أساطير ونماذج مختلفة مثل "قلة في مواجهة كثرة" ("دافيد اليهودي مقابل جولييت العربي") واجتياح سبعة جيوش عربية لدولة إسرائيل، أما الجيش الأردني الذي كان هدفه فقط السيطرة على الجزء العربي من البلاد وليس احتلالها الكامل فقد وُصِفَ بأنه "العدو الأفضل".

في اتفاقيات الهدنة شُطِبَ اسم "فلسطين" نهائياً من جميع الخرائط وتم تقسيم أرض إسرائيل الغربية بين الأردن ومصر وإسرائيل مع عدد من المناطق المنزوعة.

ويقول مؤرخون نقديون إن إصرار إسرائيل على التوجه الحربي فاق إصرار الدول العربية، فانتصار إسرائيل في الحرب وتفوقها العسكري ودعم الدول العظمى لها كُل ذلك لم يكن كافياً لثني بن غوريون عن عناده، الأمر الذي فوّت على إسرائيل فرصة تحويل اتفاقيات الهدنة إلى اتفاقيات ومعاهدات سلمية (ص 69). وبحسب قول بن غوريون: "... يجب أن لا نأسف كثيراً إزاء كون العرب يرفضون التوصل لسلام معنا".

مسألة اللاجئين و"حق العودة" تُطرحُ مِراراً على امتداد الكتاب، خاصةً بعد كل حرب والمحاولات للتوصل إلى تسويات، ابتداء من الإعلان عن استعداد إسرائيل لإعادة 100,000 لاجىء مباشرةً بعد حرب 1948، وحتى الرفض التام للموضوع في الاتفاقيات الأخيرة (أوسلو وملحقاتها).

يُكرّس الباحث صفحات كثيرة للتوتر والخلافات بين دافيد بن غوريون ذي التوجه المتشدد وغير المهادن وبين موشيه شاريت كرئيس للوزراء ووزير للخارجية أعتبر على أنه أكثر اعتدالاً ويعرف عن قرب السكان العرب، ثقافتهم وتطلعاتهم نحو دولة مستقلة. وهو ما ظهر في مواضيع "المناطق المنزوعة" التي انتهكت إسرائيل غير مرة الاتفاقيات المتعلقة بها وتحرشت بالسوريين دون مبرر، وكذلك في مسألة العمليات الانتقامية التي كثيراً ما انتهك فيها مبدأ "طهارة السلاح". وبصورة عامة بيّن الكتاب أن رئيس الوزراء (بن غوريون) ووزير الخارجية (شاريت) كانا على خلافٍ فيما بينهما إزاء عمليات الثأر ونتائجها الأخلاقية والسياسية (ص 101).

ويتناول الكتاب مواضيع مثل قضية "قناة نقل المياه القطرية" ومشاريع تحويل فروع نهر الأردن، وقضية "العمل المخزي" (فضيحة لافون)، وعملية غزة ("سهم أسود") وغيرها... بوصفها استفزازات إسرائيلية قادها دعاة توسيع حدود الدولة، مثل موشيه ديان، بنحاس لافون ويوسيف تكواع، الذين عملوا تحت قيادة وإرشاد بن غوريون.

كل هذه الأمور قادتنا إلى الحرب التالية، حرب 1956 (عملية سيناء) وهي نتاج سياسةٍ أطلق عليها موشيه ديان "عمليات عسكرية في أيام السلام".

المؤامرة الثلاثية بين إسرائيل وبريطانيا وفرنسا (العدوان الثلاثي على مصر- المترجم) كانت معروفة للجميع وقد قام مؤرخون عسكريون بكشف النقاب عن حيثياتها منذ وقت بعيد (موطي غولاني، مردخاي بار- أون)، أما المؤسسة الإسرائيلية فقد ظلت تنفي لسنوات طويلة هذه المؤامرة مكتفية بالإشارة إلى مبرراتها: عمليات الفدائيين وإغلاق مصر لمضائق تيران، أما الباحث فيطرح أهدافًا مختلفة تماماً (لحرب 1956): الإطاحة بعبد الناصر، توسيع حدود إسرائيل ("مملكة إسرائيل الثالثة") وفرض نظام سياسي جديد في الشرق الأوسط (ص188).

امتلاك دولة إسرائيل للسلاح الذّري نال أيضاً انتقادات شديدة، نظراً لأنه انطوى على مخاطر تصعيد شديد، ففي الوقت الذي ادعت فيه إسرائيل أنها لن تكون الدولة الأولى في إدخال السلاح النووي إلى الشرق الأوسط إلا أن كشف الحقيقة جاء ليشكل صفعة للجميع، ولدرجة أن ليفي أشكول سمّى إسرائيل بـ"شمشون المسكين" (ص 218- 219) وبعد عمليات حربية كثيرة، غير منطقية، وصلنا إلى الحرب الثالثة في تاريخنا "حرب الأيام الستة" في حزيران 1967.

حرب 1967

هنا أيضاً يكشف شلايم عن المخطط والدوافع وفق رواية أخرى، فموشيه ديان الذي فُرِضَ على أشكول كان يرغب بشن حرب شاملة حتى بدون التشاور مع الحكومة (ص 241). وقد شكلت هذه الحرب نقطة التحول المركزية الثانية التي أصبحنا ابتداءً منها شعباً محتلاً، قامعاً، مُدمراً، قاتلاً وجارحاً.

ويكشف الباحث هنا عن سبق معين: فقد اقترح الجنرال شلومو غورن، الذي كان الحاخام الرئيسي للجيش الإسرائيلي، نسف مبنى (قبة الصخرة) لكونه مكاناً مقدساً للمسلمين. وقد تدحرجت هذه الفكرة حيث أن الكثيرين يرغبون في إزالة الأماكن الإسلامية المقدسة (المسجد الأقصى وقبة الصخرة) واستبدالها بما يُسمى "الهيكل المقدس" (التنظيم الإرهابي اليهودي، جمعية عطيرت كوهنيم، وغيرهما...).

هضبة الجولان أُحتلت أيضاً خلافاً لرغبة موشيه ديان وبضغط لوبي من مستوطنات الشمال، وبذلك فقد أسدل الستار على فرص السلام مع سوريا. وقد اعترف ديان بأنه لم يكن هناك أي سبب يدعو لشن حرب ضد السوريين (ص 246).

انطلقت "خطة- مشروع- ألون" على الرغم من عدم حصولها على غطاء حكومي، ثم وفي أعقابها خطة "القبضات الأربع" لموشيه ديان، والتي عنت تحويل المناطق الفلسطينية (الضفة الغربية وقطاع غزة) إلى مجموعة من الكانتونات المعزولة عن بعضها، وكل ذلك بخلاف تام لقراري مجلس الأمن 242 و 338، ثم مقولة ديان الشهيرة: "شرم الشيخ بدون سلام أفضل من سلام بدون شرم الشيخ".

لقد رفضت إسرائيل بصورة منهجية كل مقترحات التسوية والوساطة، كمشاريع روجرز، يارينغ، ناحوم جولدمان، روجرز ب، ومشروع الملك حسين وغيرها... حيث صرّح موشيه ديان: "فلسطين لم تعد قائمة"، ثم تصريحه من على قمة (قلعة) متسادا: "دولة إسرائيل جديدة قوية وواسعة الحدود تمتد فيها سيطرة حكومة إسرائيل من نهر الأردن وحتى قناة السويس" (أبا إيبان – فصول حياة ب. ص482-483) وبعد ذلك بادر ديان إلى إقامة مستوطنات منطقة رفح "حزام يميت" إضافة إلى مرفأ عميق على شاطىء البحر في المنطقة ذاتها. ثم أفضى الجمود السياسي وتوجهات التوسع إلى تمهيد الأرضية لاندلاع حرب "يوم الغفران" (حرب تشرين الأول 1973)، التي تكبدت فيها إسرائيل أكثر من 10,000 قتيل ونحو 30,000 جريح.

في الفصول التالية يستعرض آفي شلايم اتفاقيات السلام مع مصر والأردن وبعدها مباشرة اندلاع "حرب لبنان" (حرب سلامة الجليل)، وخداع الحكومة من قبل أريئيل شارون بشن الحرب بذريعة حادث الاغتيال الذي تعرض له سفير إسرائيل في لندن شلومو أرغوف، وما تلا ذلك من أحداث مثل المذبحة الفظيعة التي ارتكبت في مخيمي صبرا وشاتيلا، التي ذُبح فيها أكثر من ألفي نسمة (ص397).

ثم جاءت الانتفاضة الأولى التي اندلعت أواخر العام 1987 من تحت، خلافاً للرأي السائد أنها كانت مخططة من قبل الزعامة الفلسطينية. وقد كانت النتيجة الأكثر أهمية لهذا النضال الثوري إعلان الملك حسين عن فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية، وفتح بذلك للمرة الأولى نافذة لقيام حكم ذاتي ودولة فلسطينية مستقلة. مواجهة إسرائيل العنيفة للانتفاضة ولّدت "حركة المقاومة الإسلامية- حماس، والتي قامت للمفارقة بتشجيع من إسرائيل" (ص435).

شكل "اتفاق أوسلو" 1993، انطلاقةً مهمة بما تضمنه من خطة "غزة وأريحا أولاً"، على الرغم من المعارضة الشديدة من دوائر اليمين الإسرائيلي، لكن هذا الاتفاق لم يتضمن أي ذكر للمواضيع والقضايا الأكثر أهمية: حدود الكيان الفلسطيني، حق العودة، مستقبل المستوطنات ومكانة القدس.

الفضيلة الرئيسية لاتفاق أوسلو تمثلت في الاعتراف بمبدأ تقسيم "أرض إسرائيل" (ص487) لكن الاتفاق لم يتكلل بثمار السلام. جاء اغتيال اسحق رابين عام 1995، ليأتي بشمعون بيريس لرئاسة الحكومة الذي قام بدوره بشن "عملية عناقيد الغضب" في جنوب لبنان التي أدت إلى نزوح نحو 400,000 مواطن لبناني وتحولهم إلى لاجئين في بلدهم وكذلك إلى ارتكاب المذبحة في قرية "قانا" بجنوب لبنان.

العقد الأخير اتسم بالعوم في مياه ضحلة فـإن حكومات بنيامين نتنياهو، إيهود باراك وأريئيل شارون، لم تؤد إلى إحراز انطلاقة في عملية السلام. وأفضت أحداث فتح النفق (نفق حائط المبكى) والبناء الاستيطاني المكثف في "غلاف القدس" (مستوطنة جبل أبو غنيم)، وزيارة (شارون) الاستفزازية للمسجد الأقصى، وإقامة أسوار الفصل وحملات المصادرة الواسعة للأراضي الفلسطينية، كل هذه الأمور أفضت إلى طريق مسدود.

يقول شلايم: "ما زالت إسرائيل تواجه ذات المعضلة التي ترافقنا منذ العام 1967، فهي تستطيع التعايش مع مناطق الاحتلال. تستطيع العيش بسلام لكنها لا تستطيع العيش مع الاحتلال والسلام في آنٍ واحد" (ص 573).

إن "الجدار الحديدي" أحد الكتب القلائل الذي يشمل 113 سنة صراع بين حركتين قوميتين على بقعة الأرض ذاتها. والكتاب بهذه الصفة يُقدم صورةً شمولية رحبة للتاريخ العسكري والسياسي والحزبي في أرض إسرائيل. إن أهمية الكتاب البالغة تكمن في ربط الأحداث المختلفة في روايةٍ واحدة متماسكة تتداخل وتتشابك أجزاؤها، كما تكمن أهميته القصوى في شكل خاص في التفسير النقدي للتحركات والسيرورات المختلفة.

(*) الكاتب أستاذ جامعي في كلية "بيت بيرل".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات