المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • المكتبة
  • 2072

أن تأتي دراسة من داخل إسرائيل تبحث في طبيعة وإشكاليات الهوية والديمقراطية الإسرائيلية، فذلك أمر جد مفيد. ولكن أن تأتي تلك الدراسة من لدن باحث وسياسي ومتمرس وناشط عربي، هو عضو في الكنيست الإسرائيلي ومنخرط في أوليات العملية السياسية الإسرائيلية من موقع المعارض، فهذا يضفي على الدراسة طعماً واقعياً خاصاً، مضافاً إليها خلاصات الخبرة الذاتية في التماس الدائم مع الموضوع قيد البحث. إذن باحثنا لا يقدم مقاربة أكاديمية باردة بعيدة عن الملامسة العملياتية، ولا يقدم بياناً سياسياً تحريضياً من موقعه كـ"ناشط سياسي"، ولا يقدم تأريخاً يأخذ مسافة عن الحدث ولا يرى في تحولاته الكبرى بطشه اليومي بالآخر، هوية وحياة ومستقبلا. في الواقع يمثل كتاب عزمي بشارة مزيجاً من ذلك كله، ففيه من الأكاديمية، والسياسة، والتأريخ ما يجعله كتاباً متميزاً يستحق مكاناً لائقاً في المكتبة العربية المعنية بالشأن الإسرائيلي.

 هم الكتاب الجديد لعزمي بشارة الذي يحمل عنوان "من يهودية الدولة حتى شارون" (دار الشروق- مصر) هو البحث في السؤال الكبير حول "ديمقراطية إسرائيل" وتناقضاتها، وإشكالاتها، وطبيعتها، وكيف تطورت، والإعاقات البنيوية التي لازمتها وقولبتها في تشكيل خاص متميز ربما لا نظير له في أية بقعة من العالم. ذاك أنها ديمقراطية وليست ديمقراطية في آن واحد، فيها أهم معالم العملية الديمقراطية (انتخابات دورية، أحزاب، تداول على السلطة)، وفيها أيضاً أهم ما ينقض أي صيرورة ديمقراطية (عدم المساواة بين المواطنين، التفريق بينهم بحسب الدين، الاختلاط المعيق للدين والدولة، وهكذا). عزمي بشارة يدخلنا في "دوامة الدين في الدولة" الإسرائيلية، ودوامات الهوية، وإشكاليات العلمانية وصداماتها مع البنية التأسيسية للهوية الإسرائيلية. ما هي إسرائيل وكيف يتم تعريفها، ديمقراطياً وهوياتياً؟ يقول بشارة "ليست إسرائيل دولة دكتاتورية، ولا هي دولة يحكمها العسكر، ولا دولة حزب واحد، وإنما دولة تتوفر فيها انتخابات برلمانية عامة ونسبية، إذ يُمثل كل حزب في برلمانها بعدد من المقاعد تماثل نسبته من الأصوات، وهي أكثر طرق التمثيل البرلماني تمثيلاً لنسب الأحزاب من الأصوات، ولتوازنات القوى الحزبية". إضافة إلى ذلك، "يقوم في إسرائيل نظام فصل السلطات ويتطور باستمرار، ترافقه آليات توازن ورقابة فيما بينها، ويعتبر القضاء مستقلاً، وما زال يطور هذه الاستقلالية. وتعتبر المحكمة العليا نفسها مؤهلة لحماية قيم الديمقراطية المعبر عنها في القوانين الأساسية، وتعتبرها بمثابة دستور يؤهل المحكمة أن تفسرها"َ. وفي مجال الحريات الإعلامية "تسود في إسرائيل حرية صحافة وتعبير عن الرأي، ومنظومة حقوق مواطن متطورة تشمل نظام تأمينات اجتماعية. وتتوسع حرية التعبير عن الرأي باستمرار في إطار إزدياد بلورة المجتمع المدني لحقوقه باستقلال عن الدولة.. ولكن حرية التعبير تواجه مسألة تجند وتجيش المجتمع الإسرائيلي وصحافته في القضايا الوطنية والأمنية". وهكذا ورغم التوصيف البارد الذي سيجعل كثيرين من القراء العرب يتململون لأن هذه التعريفات ممضة، ولا تتناسب مع ذهنية تجريم إسرائيل، فإن بعضاً من الصبر سيكون مفيداً. فإزاء الصورة التي يوحي شكلها العام بنظام ديمقراطي حقيقي في بعض جوانبه، هناك جوانب تكاد تنهار فيها الصورة بشكل مطبق. أول ذلك الجوانب هو "عسكرتاريا" المجتمع إذ يلعب الجيش والمؤسسة العسكرية دوراً محورياً في المحافظة على هوية وطنية جامعة، أي أن المضمون المدني للشكل الديمقراطي مشروخ بالتعريف. ولأن مسألة الأمن تتعدى كونها قضية مركزية لتصل إلى أيديولوجيا إستراتيجية، فإن كل ما يمكن أن يحوم حول هذا الأمن يُضرب بيد من حديد، وبهذا ينهار جانب آخر من جوانب البناء الديمقراطي وهو المساءلة. وهنا يُشير بشارة إلى أن إسرائيل تتردى إلى موقع أقل علامة بين الدول الديمقراطية في المعيار الخاص بالمساءلة، إلى جانب المكسيك. مقابل ذلك فإنها تتقدم في معيار التمثيلية، أي مدى انعكاس نسب الأصوات في نسب التمثيل في البرلمان، لتحقق موقعًا متقدمًا قريباً من السويد وبريطانيا.

والتناقض الكبير التي تعيشه الديمقراطية الإسرائيلية يتجاوز ما يأمل في حله العلمانيون في إسرائيل، وهو الفصل بين الدين والدولة على صعيد الأحوال الشخصية. فالأزمة أعمق من ذلك بكثير، ومرتبطة بقضية المواطنة نفسها. المواطن اليهودي هو المواطن كامل الأهلية، أما غير اليهودي فهو مواطن من الدرجة الثانية. وفي ظل هكذا واقع لا يتبقى من البناء الديمقراطي إلا الصورة الخارجية وحسب. يأخذ هذا التناقض بُعداً آخر عند التأمل في تعريف دولة إسرائيل لنفسها بأنها "دولة اليهود في العالم". فهنا هي تنفي عن نفسها أن تكون دولة شرائح ومجموعات كبيرة غير يهودية تعيش فيها، وتصل نسبتها إلى خمس أو ربع السكان. وفي نفس الوقت فإنها تعلن عن نفسها دولة لمواطنين (يهود) لا يعيشون فيها، بل في دول أخرى، وتعتبر نفسها الدولة الطبيعية المعبرة عن أولئك الأفراد! بل هي تمد الجسور بينها وبين الجاليات اليهودية وتعمل المؤسسات الرسمية الإسرائيلية على "تعميق الشعور بالهوية" مع تلك الجاليات، تقليداً لدول تقيم جسوراً مع جالياتها في الخارج. لكن إسرائيل، وكما يشير بشارة، تتجاهل حقيقة أن يهود العالم ليسوا إسرائيليين، وليسوا جاليات إسرائيلية غادرت إسرائيل، ومن المفهوم المحافظة على علائقهم مع وطنهم الأم. العلاقة هنا مفتعلة ومعكوسة.

 

هاجس الهوية اليهودية

 على أن الغريب هو أن هاجس يهودية الدولة لا يني يتزايد قوة وتوتراً عوض أن يخف بالتوازي مع تكرس الدولة وقوتها. فتوترات المشروع الصهيوني الأول و"الرواد الأوائل"، الذين لم يترددوا في إطاحة شعارات التحرر القومي وبناء الدولة الديمقراطية على مذبح التمسك بالهوية اليهودية للدولة، تجد صداها اليوم عند شارون والليكود وقطاعات واسعة من المؤسسة السياسية والعسكرية وحتى الأكاديمية الإسرائيلية. فالهدف هو تكريس وترسيخ "يهودية دولة إسرائيل"، أي أنها دولة لليهود وليس لمواطنيها بما يكرس في الواقع تعريفها العنصري، بل إن التوكيد المتوتر على هذا التعريف طال سن القوانين في الكنيست لدرجة أن قانوناً جديداً يمنع أي حزب سياسي من حق المشاركة في الانتخابات، ما لم يقر بأن إسرائيل هي دولة لليهود. وتفاقم التوتر الهوياتي هذا، ليصل إلى مجموعة جورج بوش الحاكمة، بما دفعه في يونيو (حزيران) 2003 للإعلان بأن "أميركا ملتزمة بقوة بأمن إسرائيل كدولة يهودية مفعمة بالحيوية"! غير أن ذلك، على علاته، يقود إلى تناقض بنيوي آخر وهو سؤال من هو اليهودي؟ هل هو المتحدر من أم وعائلة يهودية من دون أن يكون ممارساً للدين أو متديناً، هل من الممكن أن يكون علمانياً ويهودياً رافضاً للخلط بين الدين والسياسة؟ وما هو موقع اليهود غير المؤمنين في الدولة والمجتمع؟ اليسار الصهيوني حاول تاريخياً تقديم إجابة عن هذا التساؤل بالدعوة إلى هوية يهودية علمانية قومية، وغير دينية دلالة تؤكدها الخدمة العسكرية. لكن ذلك لم يحل المشكلة وما يزال السؤال قائماً إلى اليوم.

 

ديمقراطية أم أبارتهايد كولونيالي؟

يقول بشارة إن إسرائيل استطاعت أن تفلت بعنصريتها ضد الفلسطينيين، سواء أكانوا داخل الخط الأخضر أم في حدود 1967 لأنها دولة احتلال، ولأن كل ما قد يُرى من ممارساتها العنصرية يُرد إلى حقيقة أن الوضع القائم هو وضع احتلالي، وبالتالي فهو ليس وضعاً طبيعياً ومن المتوقع أن تنشأ فيه ممارسات مرفوضة. بينما لو كان وضع إسرائيل مختلفاً، مثلا، وعلى سبيل الفرض الجدلي لو لم تحتل أراضي 1967، لكانت قد ظهرت على طبيعتها العنصرية إزاء كل ما هو ومن هو غير يهودي. ولهذا فقد خبأت إسرائيل ممارساتها العنصرية خلف تعريفها كدولة محتلة، ومن هنا فإن بشارة ينحت لها وصف نموذج "أبارتهايد كولونيالي".

لكن ما هي التمظهرات القانونية والحقوقية والممارساتية للأبارتهايد الإسرائيلي المكشوف؟ منذ عهد بن غوريون وحتى عهد شارون هناك وضوح في النظرة إلى العرب الفلسطينيين، والحقوق التي يجب أن تكون لهم. وبكلمات بن غوريون نفسه: "يوجد للمواطنين العرب حقوق في البلاد، وليس على البلاد"، وهذا يعني، كما يوضح بشارة، أن الحقوق القومية على الدولة هي حقوق يهودية، وأن صاحب السيادة يمنح الحقوق في البلاد لمن ليس صاحب سيادة. وهذا يعني أن مفهوم المساواة غير ممكن، لأن مفهوم الحقوق معطوب أصلاً. وينتشر الأبارتهايد القانوني ليصل المحكمة الإسرائيلية العليا التي يتطرق رئيسها الأكثر شهرة، بوصف بشارة، أهارون باراك إلى مصطلح يهودية وديمقراطية في القانون ليقول: "علينا أن نذكر أن المكانة المعيارية التي منحت لقيم الدولة كيهودية وديمقراطية هي مكانة معيارية دستورية فوق قانونية. وسوف يُلغى أي تشريع عادي يمس دستورياً بحق من حقوق الإنسان حتى لو كان هدفه مقبولاً، وحتى لو لم يتجاوز المدى المطلوب، إذا لم يتلاءم مع قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات