المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • ثقافة وفن
  • 23475

عندما تناهى إلى مسامعي أن محمود درويش سيأتي إلى حيفا ليقرأ من قصائده، دخلت فورا في سباق محموم من المحاولات للحصول على تذاكر. وكم فوجئت من كوني، أنا التي أصادف في الغالب صعوبة في التحدث هاتفيا حتى مع أصدقائي المقربين، قد أفلحت في الاتصال مرارا وتكرارا مع أشخاص لا أعرفهم البتّة من أجل الحصول على هذه التذاكر... وقد حصلت عليها. كان بودي أن اعرف حقيقة ما يشعر به محمود درويش عند قدومه ليقرأ من أشعاره في حيفا، المدينة التي بدأ فيها ينظم الشعر، والتي لم يستطع العودة إليها طوال هذه السنوات (انطباعات كاتبة إسرائيلية عن أمسية الشاعر في حيفا)

 

 

مربك جدا أن يكون المرء محتلا. ولعل المربك أكثر أن يكون محتلة. في الماضي حين بدأت تتشكل لديّ بذور الوعي بكوني محتلة، شئت ذلك أم أبيت، كنت ما زلت واثقة بأن كل مشاعري أصيلة تماما. مشاعر الغضب إزاء جرائم الاحتلال، مشاعر التعاطف تجاه الواقعين تحت الاحتلال، ومشاعر حبي أيضا لمحمود درويش.

 

اليوم وقد أمسى وعي المحتلة لديّ ناضجا ومكتملا، ومصوغًا بتصميم "ما بعد حداثيّ"، لم أعد واثقة من أي شيء. ما زلت فاقدة للطريق الذي يعينني في التمييز بين ما إذا كانت هذه المشاعر نابعة من إحساس بالذنب وضمير يوشك على الانفجار غضبا، وأنها تأتي في الحقيقة للتعبير عن اعتذار ومحاولة للتكفير عن ذنب، أم أنها مشاعر حقيقية، أصيلة. لكن ما هي في الواقع المشاعر الحقيقية؟ هذا أيضا لا أملك جوابا عليه.

 

كل هذه الأسئلة جالت في خاطري بينما كنت جالسة في القاعة المتواضعة للغاية في الأوديتوريوم البلدي في حيفا، بين مئات الفلسطينيين مواطني إسرائيل، دون أن أفقه تقريبا أية كلمة مما سيقال.

 

قلت لنفسي، بعد ذلك: أن أكون في أمسية شعرية دون قدرة على فهم ما يقال، فهذا في حدّ ذاته تجربة تستحق الكتابة عنها.

 

عندما تناهى إلى مسامعي أن محمود درويش سيأتي إلى حيفا ليقرأ من قصائده، دخلت فورا في سباق محموم من المحاولات للحصول على تذاكر. وكم فوجئت من كوني، أنا التي أصادف في الغالب صعوبة في التحدث هاتفيا حتى مع أصدقائي المقربين، قد أفلحت في الاتصال مرارا وتكرارا مع أشخاص لا أعرفهم البتّة من أجل الحصول على هذه التذاكر... وقد حصلت عليها.

 

عندما قلت للشاعرة سهام داوود، منظمة الأمسية، بأنني أريد أربع تذاكر، سألتني: "ولكن هل تفهمون العربية أصلا؟!" قلت لها: ليس بالضبط، لكن يبدو لي أن هذا ليس مهما، وهذا ما شعرت به حقا، فالمهم هو رؤية محمود درويش في حيفا، أن نكون جزءا من هذا الحدث المثير للمشاعر، ما رسخ في ذهني كحدث تاريخي مهم للغاية له معان ودلالات قومية وثقافية عميقة .

 

أحببت محمود درويش للمرة الأولى عندما شاهدت فيلم سيمون بيتون "الأرض تورث كاللغة". وظل حبي له ينمو ويكبر كلما قرأت المزيد من أشعاره وقصائده، ولكن أيضا كلما راح وعي المحتلة لديّ ينمو ويتطوّر أكثر فأكثر.

 

وصلت إلى حيفا بالقطار. في أثناء السفر وجدت صعوبة في ضبط أنفاسي من شدّة الانفعال واللهفة. وحينما جلست في القاعة ولاحظت أنه لا يوجد، ما عدانا، يهود آخرون، وأن التذاكر طبعت بالعربية فقط، أدركت فجأة بأنني سأجلس هناك حقا دون أن أفقه أية كلمة، وكان الإحساس الأقوى الذي راح يموج في داخلي هو الإحساس بالخزي والخجل...

 

أحسست أنني وقحة، لم أفهم كيف يمكنني، أنا اليهودية التي لن تفهم على أية حال أية كلمة، أن أجرؤ على احتلال مقعد كان يمكن أن يجلس عليه فلسطيني في وسعه أن يفهم كل شيء، أن ينفعل أكثر مني، فضلا عن أنّ وجود محمود درويش في حيفا مجدّدا وبعد كل هذه السنوات، ينطوي بالنسبة له على مغزى أعمق بكثير مما أستطيع إدراكه في أي وقت. شعرت أنني هناك بسبب نزوة صبيانية ورومانسية ليست لها أية أهمية... وشعرت بالخجل.

 

بعد بضع دقائق سألنا الرجل الذي جلس بجوارنا إذا ما كنا نستطيع تدبر أمرنا مع اللغة... وعندما أومأنا له نفيًا، عرض استعداده لأن يترجم لنا الأمور المهمة وقال مبتسما "جميل قدومكم"، هنا ودفعة واحدة تبدّل شعوري ليغدو شعورا يمتزج فيه الاعتزاز مع التواضع. "هذه أنا"- قلت لنفسي "اليهودية المستعدة للجلوس في أمسية كاملة دون أن أفقه كلمة، فقط حتى أقوم بهذه البادرة، بالتعبير عن مشاعر الاحترام والانفعال لديّ تجاه الحدث".

 

كان من السهل عليّ الإحساس بالاعتزاز الكامن في التواضع أكثر من الشعور بالخزي الكامن في الوقاحة، ولكنني سألت نفسي مجدّدا عن كنه هذه المشاعر التي تنتابني. ما هي الحقيقة... لكنني لم أدرك إلى ذلك جوابا.

 

انفعل الرجل الجالس بجانبنا. كان في وسعي أن ألاحظ الصعوبة التي يلاقيها في الجلوس والانتظار بهدوء، فقد كانت حركته الدائبة وتعابير وجهه تشي باللهفة.

 

أنا أيضا شعرت ذلك.

 

كان بودي أن اعرف حقيقة ما يشعر به محمود درويش عند قدومه ليقرأ من أشعاره في حيفا، المدينة التي بدأ فيها ينظم الشعر، والتي لم يستطع العودة إليها طوال هذه السنوات. أدركت أنني، حتى إذا راح درويش يروي للجمهور عن مشاعره، سأظل على حالي لا أفقه ما يقول. وقد كانت في ذلك أيضا أفضلية بسيطة. فبهذه الطريقة استطعت أن أتخيّل انفعاله من مشهد الكرمل المنحدر ليعانق البحر، من مشهد خليج حيفا في الليل، من تلمس باب شقته التي بارحها قبل أكثر من 30 سنة.

 

حينما اعتلى درويش المنصة وقفنا جميعنا. وقف الجميع. أنا أيضا وقفت وصفقت مع سائر الحضور. محمود درويش لا يظهر مشاعره، إنه يحافظ على انضباطه، وهو محصّن للغاية.

 

لقد وجدت نفسي، في مقابله، مختنقة بالدموع، وندّ عني بكاء، نشيج مسموع كنت أوثر أن يبقى في داخلي. بعد ذلك ألقى خطابًا لم أفهم كلماته. وبدا الرجل الجالس بجوارنا متأثرًا إلى درجة حالت دون أن يترجمه لنا.

 

وعندما بدأ محمود درويش يلقي قصائده لم أصرف نظري عنه. صفقت عندما صفق الجميع، رغم أني لم أعرف لماذا أصفق، لكنني جلبت معي جميع كتبه المترجمة إلى اللغة العبرية، وعندما أمسكتها بيدي وقلبت صفحاتها مرات عديدة، كان في وسعي أن أنشد في قلبي كلمات القصائد المعروفة.

 

نظرت إليه وحاولت مرة أخرى أن أتفحص مشاعري، والمكان الذي تأتي منه. فكرت بيني وبين نفسي بأني أحبّ محمود درويش بسبب الكيفية التي ينزع فيها نظارته ويجفف عرقه بالمنديل. بسبب الكيفية التي يضع فيها رجلاً على رجل عندما يجلس. بسبب أصابعه الطويلة التي توضب الأوراق التي كتبت عليها قصائده. بسبب شعره المصفف. بسبب الكيفية المألوفة التي يمدّ فيها كأس الماء إلى فمه ويشرب. بسبب الكيفية التي يحرّك فيها رأسه بخفّة على إيقاع الموسيقى. بسبب العوامل التي تجعل المرأة تحب رجلاً. وبالتأكيد ليس بسببها.

 

إنما بسبب كونه رمزًا قوميًا لشعب أتعاطف مع كفاحه. بسبب كونه لاجئًا، مهاجرًا، مقتلعًا، ويعبر عن معاناة المقتلعين كافة. بسبب كوني منتمية إلى الشعب الذي اقتلعه.

 

وربما بسبب أنّه عندما قرأ محمود درويش كلماته عن مخاوف الحصان من الطائرات (رغم أني لا أعرف ما إذا كان قد قرأها أصلاً) شعرت بأنّ قلبي يتمزّق تحت حوافر الحصان المذعور وأنفاسي محبوسة، وعندها عرفت أن درويش هو شاعر كبير، رائع. ولهذا السبب أحبه. وأيضًا بسبب أنني عندما لا أفهم أية كلمة من الكلمات التي يقرأها فإن ذاكرة قصائده التي أعرف قسمًا منها عن ظهر قلب تمسّ شغاف روحي.

 

ودّدت التوجّه إلى الشاعرة سهام داوود والقول لها "لا يهم أنني لم أفهم أية كلمة. يمكن الجلوس في أمسية أدبية دون أن تفهم شيئًا. وبالإمكان فعل ذلك عندما تكون هذه الكلمات محفورة فيك مع كل ما تحمله إليك، من حبّ المرأة للرجل، من المنفى والاقتلاع، من خوف الحصان من الطائرات، ومن الحساسية والجرأة اللتين تحولان شاعرًا رائعًا إلى هذه الصيرورة".

 

وعندما نهضت هذا الصباح، وكنت ما زلت مفعمة بكل المشاعر التي فاضت بالأمس، قلت لنفسي "ها هي اليهودية، التي لم تفهم كلمة واحدة، تكتب... تحتل حيزا. وكم من السهل عليّ أن أحتل حيزا".

 

 

_______________________

 

* كاتبة إسرائيلية. ترجمة خاصة بـ"المشهد" (المصدر: موقع "واينت" على شبكة الانترنت).

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات