المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1961
  • دانيئيل بار طال

تبدو كما لو أنّها أحجية: لماذا يعيش مواطنو دولة تمتلك هذه القوّة العسكريّة- وتنسب لها مصادر أجنبيّة حيازة سلاحٍ نووي- كلّ هذا القلق تجاه أمنهم؟ شعور انعدام الأمن هو جزء لا يتجزّأ من تجربة العيش في إسرائيل، بالنسبة للمواطنين اليهود خاصةً. بناء على ذلك يجب توصيف هذا الشعور من أجل فهمه، وفهم استخدامه المخادع كما ينتهزه السياسيّون وتنتهزه القيادة، وتأثيره منقطع النظير على المجتمع وعلى الصراع الإسرائيليّ- الفلسطينيّ.

 

انعدام الأمن ظاهرة نفسيّة، وهي تختلف عن الشعور بالخوف على الرغم من العلاقة الوطيدة بينهما. انعدام الأمن هو ردّ ذهنيّ بطبعه، أما الخوف فهو شعور سلبيّ يظهر في حالات التهديد والخطر. غالباً، يظهر الخوف بشكلٍ تلقائيّ، دون سيطرة. التهديدات أو المخاطر التي تخلق الخوف تظهر من خلال تجارب الحاضر، مثلاً، عندما نرى حافلةً باص مدمّرة نتيجة عمليّة. وأحياناً بسبب تجارب الماضي – الخوف من صافرة الإنذار، مثلاً، قد يرافقنا بسبب صافرات أنذرت قبل سقوط الصواريخ سابقاً. ويُمكن للخوف كذلك أن ينتقل من خلال التعلّم، من مصادر مختلفة، مثل الأهالي، المعلّمين أو القيادات.

في الـ"DNA"

كيف يتطوّر انعدام الأمن؟ عندما يميّز الإنسان خطراً في حالةٍ معيّنة، يفحص قدرته على الاحتماء أمام هذا الخطر. إذا ما قدّر بأنه سيستصعب الاحتماء، سيشعر بانعدام الأمن – إنه مُعتقد نفسيّ، يُرافقه الخوف أحياناً. هذه المعتقدات، التي تتعلّق بالأمن وانعدام الأمن، تتحرّك على قوسٍ واسعٍ. وبسبب وجود اختلافات ثقافيّة وشخصيّة بين الناس المختلفين، يمكن أيضاً تغيير هذه المعتقدات من خلال الإقناع.

إن المعتقدات التي تتعلّق بالأمن وانعدام الأمن لا تميّز الأفراد فقط، إنما المجموعات أيضاً، كما المجتمعات والأمم. في مجتمعات تعاني تهديداً دائماً، يُمكن للمعتقدات المتعلّقة بالأمن أن تتحوّل إلى معتقدات شائعة، أن تصبح مركزاً لجدل مستمرٍ في الرأي العام، وأن تكون عاملاً حاسماً يفرض فعلاً اجتماعياً. في حالات الصراعات غير القابلة للسيطرة – العنيفة، المستمرّة، والتي تبدو مستحيلة الحل، مثل الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ – تتحوّل هذه المعتقدات إلى جزء من إيثوس (روح) الصراع.

في المجتمع اليهوديّ في إسرائيل، تساهم معتقدات الأمن بخلق شعورٍ بالخصوصيّة والتماثل بين أبناء المجتمع وشعورهم بالاختلاف عن الأمم الأخرى. إلى جانب معتقدات أخرى تشكّل إيثوس الصراع (مثل الاستحقاق، أو نزع الشرعيّة عن الفلسطينيين، أو تعظيم اليهود)، فإن معتقدات الأمن في إسرائيل هي المنظار الذي من خلاله يشاهد أبناء المجتمع عالمهم، ويجمعون المعلومات الجديدة.

معتقدات الأمن الاجتماعيّة لا تُخزّن في الخلفيّة المعرفيّة لأبناء المجتمع، وإنما تظهر في عدة منتوجات ثقافيّة – مثلاً، في الكتب والأفلام؛ في وسائل إعلام المجتمع، الصحافة، التلفزيون، الإذاعة؛ وتُمثّل في المؤسسات الاجتماعيّة وفي جهاز التعليم.

هل تذكرون القنبلة؟

نسعى جميعاً، في نهاية المطاف، إلى الرفاهيّة الشخصيّة: الناس، بطبيعتهم، يجب أن يشعروا بأمن شخصيّ وقوميّ. لذلك، فإن لحالة انعدام الأمن إسقاطات نفسيّة واسعة: إنه يدفع باتجاه خلق حالة أمن؛ يميل إلى الالتزام بالأوضاع المألوفة والامتناع عن المجازفات والأوضاع المشكوك بها؛ يميل إلى خلق الجمود الفكريّ الذي يضيّق الانفتاح على الأفكار الجديدة؛ يزيد الحساسيّة تجاه المخاطر الممكنة – ويصل ذلك أحياناً إلى مبالغةٍ في تمييز الخطر حتّى في حالات غير مهدّدة. علاوة على ذلك: عندما لا يكون الدفاع ناجعاً ولا الامتناع، فإن انعدام الأمن يمكنه أن يؤدّي إلى عدوانيّة تجاه ما يُستوعَب كمصدرٍ للتهديد.

إنعدام الأمن يشجّع الامتثاليّة والهرولة خلف قيادات من نموذج "سيّد الأمن" (وهو لقب رئيس الحكومة الإسرائيلية الحالي بنيامين نتنياهو- المحرّر). إنما، وبعكس ما يحاول السياسيّون تسويقه، فإن انعدام الأمن ليس مصطلحاً محايداً: إن الإحساس بانعدام الأمن (أو الإحساس بالأمن) لا يتعلّق بعدد القنابل النوويّة المنسوبة لإسرائيل، ولا بعدد طائرات الـF35 التي تمتلكها. بل هو في الواقع يتعلّق بالمفهوم الذاتيّ عند كلّ شخصٍ وآخر: كل واحدٍ منّا يبني الإحساس بالأمن أو انعدام الأمن على أساس شخصيّ وعلى أساس المعطيات المتوفّرة لديه.

أعضاء نفس المجموعة، أو الأمّة، يختلفون إلى حدٍّ بعيدٍ في معتقداتهم تجاه الأمن. لذلك نجد أنه حتّى الكثير من الضبّاط المرموقين في الجيش ممّن عاشوا مسارات حياة متشابهة يمتلكون رؤى مختلفة تجاه الوضع الأمنيّ في إسرائيل. اصغوا، مثلاً، للجنرالات (المتقاعدين) عميرام ليفين، عمرام متسناع، عاموس يدلين، غيورا آيلاند، يفتاح رون- طال ويعكوف عميدرور: تقييماتهم تختلف عن بعضها البعض كلياً. لا أحد منهم يمتلك قياساً موضوعياً لحساب الأمن، إنما يستطيعون الحديث عن رؤيتهم الذاتيّة.

إن الفروق المميّزة في مفهوم الأمن، أو إنعدام الأمن، تنبع من الفرق في قدرات الاستيعاب ومعالجة المعلومات ومعرفة كل إنسان وآخر. يوم 6 تشرين الأوّل 1973، عندما تقدّمت الدبّابات المصريّة والسوريّة إلى سيناء وهضبة الجولان، لم تكن فروقات في التقييمات بين الجمهور اليهوديّ في إسرائيل تجاه الخطر المتربّص، وكان إجماع على الشعور بانعدام الأمن.

إلا أننا قلّما نواجه حالات قطعيّة بهذا الشكل من حيث وضوح الخطر. في معظم الأوقات نواجه حالات ضبابيّة. ولذلك فإن السرديّة التي يعرضها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو على مدى سنوات - بأن خطراً وجودياً يحدق بإسرائيل من الطرف الإيرانيّ- لم تُقنع الجميع. وهناك جهات كثيرة في الجيش والأكاديميا قدّموا تقييمات أخرى، إنما وبعكس نتنياهو لم يلقوا ذات الاهتمام الإعلاميّ. ومعتقدات رئيس الحكومة حازت على انتشار واسع وأقنعت أغلبيّة الجمهور اليهوديّ.

أمّة بالبزّة العسكريّة

في الإيثوس الإسرائيليّ ثمة مساحة واسعة للمعتقدات الاجتماعيّة المتعلّقة بانعدام الأمن. ويتشاركها الكثيرون، كل واحدٍ وأسبابه. يؤمن اليهود الإسرائيليّون غالباً بأن لا أمن في إسرائيل يسمح بممارسة حياة طبيعيّة، وما من أمن يضمن السلامة على مستوى الفرد ومستوى الوجود الجمعيّ الآمن. وظهر انعدام الأمن منذ بداية المشروع الصهيونيّ في فلسطين مع بدايات القرن التاسع عشر. والتعامل العنيف والمُهَدِّد من قبل السلطات خلال سنوات الحكم العثمانيّ- ومن قبل المجتمع العربيّ في البلاد في فترة الانتداب البريطانيّ- زاد في مساهمته لهذه المعتقدات. وتعزّزت هذه المعتقدات لاحقاً، في زمن الحرب مع الدول العربيّة، وعلى ضوء نضال الشعب الفلسطيني.

ولكن ما الذي نخشاه وأي حلول تضمن لنا الأمن؟ إن الصراع العنيف المستمر حوّل المجتمع الإسرائيليّ إلى "أمّة في البزّة العسكريّة"، تعيش في نوع من الحرب النائمة. والأمن، الذي يرمز إلى وجود دولة إسرائيل كملجأ لليهود من جميع أصقاع الأرض وهدف وجودها، تحوّل إلى مصطلح مركزيّ في الثروة اللغويّة العبريّة. على مدى الأعوام، برّر مصطلح الأمن قرارات كثيرة للحكومات مرةً تلو الأخرى، حتّى حين لم يكن لهذه القرارات أي تأثير مباشر وفوريّ على الأمن القوميّ؛ تحوّل مفهوم الأمن إلى عقليّة العمليّات التي تُبادر إليها الحكومة أو لعمليّات ردّ على المستويات العسكريّة، السياسيّة والاجتماعيّة، وحتى على المستوى التربويّ والثقافيّ؛ تُستعمل هذه العقليّة لتبرير ممارسات غير ديمقراطيّة، غير أخلاقيّة، وحتّى غير قانونيّة مارستها إسرائيل، واستُخدمت لتجنيد الكثير من الموارد البشريّة والماديّة، أكثر بكثير من المتعارف عليه في مجتمعات لا تعاني من مشاكل أمنٍ مزمنة.

حُدد الأمن كهدفٍ هو الأهم في المفاوضات التي أجرتها إسرائيل مع جاراتها، وذلك لأنه الاعتبار الشرعيّ الوحيد الذي يتقبّله المجتمع الدوليّ وأغلبيّة اليهود في إسرائيل. اليوم أيضاً، بعد عقود من إقامة الدولة، لا يزال الأمن هدفاً على رأس الأجندة الجماهيريّة. وقد أدّى ولا يزال يؤدّي وظيفة مهمّة في تحديد شروط التسوية السلميّة مع دول الجوار. وله، لذلك، وظيفة حاسمة في السياسة الإسرائيليّة.

بحسب الموقف الإسرائيليّ، فإن كلّ تسوية إقليميّة يجب أن تكون مشروطة بضمانات موثوقة لأمن الدولة ومواطنيها. فمن الواضح إذن لماذا يعبّر المواطنون العاديّون عن قلقهم العميق تجاه المشاكل الأمنيّة؛ من الواضح سبب تقدير وثقة القيادات الأمنيّة؛ ومن الواضح سبب تنافس القادة، وأكثرهم يأتون من خلفيّة منظّمات أمنيّة، على ما قدّموه لأمن الدولة.

الأحزاب السياسيّة في إسرائيل تستخدم مصطلح "الأمن" بوتيرة عالية وترى فيه هدفاً مهماً وموضوعاً مهماً للإقناع. الإعلام في إسرائيل يقيّم الوضع الأمنيّ يومياً، يقترح حلولاً وتُقدّم مقارنات تاريخيّة. تحوّل الانشغال المركزيّ والمكثّف بالأمن، كما ادّعى باحثون سابقاً، إلى قيمة ورمز متفوّق، بل حتّى إلى ديانةً تسيطر معتقداتها على الإيثوس الإسرائيليّ.

جذور المُعتقد

في شكلها الأكثر أساسيّةً، تستند المعتقدات الاجتماعيّة المتعلّقة بأمن إسرائيل على التجارب والمعلومات التي تُنقل عبر قنوات ومنظّمات مختلفة، فيما يتعلّق بالصراع مع الفلسطينيين وباقي الجهات التي تعمل في المحيط. كل أبناء المجتمع ينكشفون على الذاكرة الجماعيّة للشعب اليهوديّ في مؤسسات التربية، المجتمع والثقافة. يتعرّفون على الإيديولوجيّات والمواقف السياسيّة المختلفة التي يشكّل الأمن مصطلحاً أساسياً فيها، إنما تلتصق به معانٍ وتأويلات مختلفة. بالإضافةً إلى الواقع العنيف الذي نعيشه، فإن انعدام أمننا ينبع من عدّة مصادر مركزيّة:

1. أوامر عُليا
بسبب الضبابيّة السائدة في حالات كثيرة، وبسبب انعدام مناليّة المعلومات بالنسبة لمعظم الجمهور، فإن اليهود في إسرائيل يعتمدون على المعلومات التي تزوّدها المصادر الخارجيّة بينما هي تصمم معتقداتهم الأمنيّة. يتلقّى الجمهور معلوماته من القيادات، من الإعلام الجماهيريّ، ومن خلال المنتوجات الثقافية المختلفة. هذه الأدوات تفسّر للجمهور نوع التهديد ومستواه وتعرّف الخطوات التي يجب اتّخاذها. كثيراً ما يتعامل الجمهور اليهوديّ مع هذه المعلومات باعتبارها حقيقة – خاصةً حين ترد بشكلٍ منهجيّ، وذات أهمية وتتعلّق بالحياة الاجتماعيّة مثل المعلومات المتعلّقة بخطورة حماس وحزب الله. في هذه الحالات، يُمكن للمعلومات أن تتحوّل إلى معتقدات اجتماعيّة.

للمصادر الخارجيّة تأثير هائل في مجال المعلومات الأمنيّة، لذلك فإن المصادر لا تكتفي بوصف الأحداث والظروف إنما تفسّر معانيها. من بين هذه المصادر، للقيادة دور حاسم، وخاصةً للقيادة السياسيّة والعسكريّة. في الغالب، تتوفّر لديهم معلومات كثيرة من أجل تقييم الوضع- لكنّهم مثلنا أيضاً، يستنتجون الاستنتاجات بشكلٍ ذاتيّ. ورغم أن المعلومات التي لديهم متشابهة، إلا أن قيادات مختلفة تقدّم تقييمات مختلفة.
بكلمات أخرى، تؤطّر القيادات المعلومات بشكلٍ يوجّه لفهمٍ معيّن. للقيادات مصلحة في التوجيه باتجاه مواقف سياسيّة معيّنة، يؤدّي فيها الأمن في غالب الأحيان دوراً هاماً. في أحيان كثيرة يعرضون المعلومات بما يتلاءم مع رؤيتهم، لكي يُقنعوا الجمهور بقبول مواقفهم. انعدام الأمن، والخوف خاصةً، يعطّل التفكير العقلانيّ، ويسهل اقتياد الخائفين كالقطيع. هذا هو السبب الذي يجعل القيادات تستخدم التهديدات مرّات كثيرة، من أجل أن تقود أبناء شعبها بانضباط وامتثال.

2. الماضي حاضر دائماً
تتأثر معتقدات الأمن إلى حدّ بعيد من تجارب الماضي التي خاضتها الأمّة. تُخزّن في ذاكرة جماعيّة – الرواية التي تتطوّر بين أبناء المجتمع من أجل حكاية تاريخهم. إلا أن هدف الذاكرة الجماعيّة ليس توفير وصف تاريخي موضوعيّ للماضي، وإنما حكاية الماضي بشكلٍ وظيفيّ يخدم وجود المجتمع اليوم، خاصةً على ضوء الصراع مع المجتمع الخصم. تتأسس هذه الرواية إلى حدٍ ما على الأحداث الفعليّة، لكنّها اختياريّة أيضاً، محرّفة ومنحازة بشكل يلبّي احتياجات المجتمع في الحاضر.

تحت تأثيرها يمكن للمجتمع أن يتجاهل معلومات معيّنة (مثلاً: الغبن الذي ترتكبه بحق المجموعة الخصم)؛ وبمساعدتها يمكن أن يوجّه اهتمام المجتمع إلى معلومات أخرى (مثلاً: استهداف إرهاب العدو للمدنيين). كذلك فإن الذاكرات الجماعيّة من صدمة الماضي التي تتعلّق بحربٍ وبإبادة عرقيّة يمكنها أن تؤدّي إلى حساسيّة زائدة بين أبناء هذا المجتمع، بشكلٍ يؤدي إلى التفتيش عن معلومات تشير إلى تهديد أو خطرٍ ممكنٍ. على ضوء الذاكرة الجماعيّة لليهود، لا بد للإسرائيليين، كما يبدو، من الاعتقاد بوجود خطر حقيقي، فعلي، فوريّ ووجودي على الأمن الجماعي لإسرائيل كدولة، ولهم كأفراد، مواطني هذه الدولة.

إن تاريخاً طويلاً من الملاحقة، الإكراه على تغيير الدين، الطرد، المذابح والإبادة العرقيّة، ولّد لدى اليهود شعوراً بالتهديد المستمر والدائم على وجودهم، وفهماً بأنهم لا يستطيعون توقّع أي مساعدةٍ من أي جهةٍ في أوقات الأزمة. ذاكرة 2000 عام من الشتات زرعت داخل الكثير من اليهود شعوراً بأن الخطر الوجودي لم يزل، إنما يظهر بشكلٍ جديد. المحرقة، التي وصلت فيها معاناة الشعب اليهودي أشدّها، عززت هذه المشاعر بشكلٍ خاص وأثرت بشكلٍ عميق على الوعي اليهوديّ. وبالفعل، الكثير من اليهود الإسرائيليين يرون التهديدات الحديثة من جهة جارات إسرائيل كاستمرار مباشر لمعاداة الساميّة. إنهم ينظرون إلى الصراع الحاليّ من زاوية نظر الماضي، ويعزز ذلك مشاعر انعدام أمنهم.

3. كل شيءٍ سياسيّ
قد يكون للإيديولوجيا السياسيّة تأثير مشابه، أو لمواقف أبناء المجتمع السياسيّة. عندما تحتلّ المواقف السياسيّة مكاناً مركزياً في خلفيّة الفرد- وخاصةً حين تخلق نظاماً إيديولوجياً واضحاً وشاملاً- يكون لها تأثير خاص على طريقة رؤية أبناء المجتمع للعالم. وتؤثر على أنواع المعلومات التي تحظى باهتمام وتؤثر على أسلوب صياغتها وتنظيمها في العقل. مثلاً، بالنسبة للإسرائيليين المؤمنين بـ"أرض إسرائيل الكاملة" هناك مشاعر انعدام أمن مختلفة- وكذلك حلول مختلفة لضمان الأمن- في مقابل إسرائيليين يؤمنون بأن البلاد التي نعيش فيها هي وطن القوميتين. كذلك، وبقراءةٍ للبرامج السياسيّة للأحزاب على طول السنوات، نجد أن أحزاب اليمين تبرز المخاطر أكثر بكثير من أحزاب اليسار.
4. اختبر ذلك بنفسك
هناك تجارب كثيرة خاضها اليهود الإسرائيليون تؤثّر بشكلٍ مباشر على معتقدات الأمن. لجزء من هذه التجارب علاقة مباشرة بأمن إسرائيل، وجزء آخر يحدث في سياقات أخرى، لا علاقة لها بالصراع.

إن النوع الأول من التجربة هو نتيجة الصراع العربيّ الإسرائيليّ. وهو يتضمّن، مثلاً، الخدمة العسكريّة والمشاركة في الحرب، الإصابة بعمليّة معادية أو فقدان قريب أو صديق نتيجتها. ولهذه التجارب إسقاطات مباشرة على المعتقدات المتعلّقة بالوضع الأمنيّ في إسرائيل. يستنتج اليهوديّ في إسرائيل استنتاجاته في إثر الانكشاف المستمر لهذه التجارب (الخدمة العسكريّة أو المشاركة في الحرب)، إنما يستنتجها من تجربة لمرّة واحدة أيضاً. مع هذا، لا يمكن التنبؤ بمنهجيّة تأثير هذه التجربة: يمكن لأناس مختلفين أن يستنتجوا استنتاجات مختلفة على أساس ذات التجارب. تتعلّق الاستنتاجات بالمعرفة التي اكتسبناها سابقاً، بالمعلومات التي تلقّيناها خلال التجربة وبمدى انفتاج الإنسان للمعلومات البديلة.
الواقع تغيّر

يعتقد اليهود الإسرائيليّون بأن العالم ليس آمناً بالنسبة لهم؛ وهذه مشاعر صادقة وحقيقيّة. إنما من المهم أن نفهم أن انعدام الأمن ليس صفةً وراثيّة، إنما ظاهرة ترتبط بفهم الواقع. إنها نتيجة تعلّم وبناء اجتماعيّ يعيشه أبناء المجتمع اليهودي الإسرائيلي. التاريخ كلّه، كما يذكرونه، يشدد وينقل لهم انعدام الأمن. هذه هي الرسالة المركزيّة في ذاكرة الشتات الجمعيّة، هذا الدرس المركزيّ من المحرقة وهذه نتيجة تجربتنا ضمن الصراع العربيّ الإسرائيليّ.

البيئة الاجتماعيّة تبني معتقدات انعدام الأمن، تنمّيها وتعززها في كل الأجهزة والمؤسسات الاجتماعيّة. ليس من السهل تغيير هذا المفهوم الذي تجذّر عميقاً في الخلفيّة الذهنيّة لليهود في إسرائيل وفي أعماق نفوسهم، إنما هو لا يُجذّر بقوى عليا، بل إنه عُلِّم وتمّت صيانته على طول السنين، ويبدو أن البيئة المعادية ساهمت في ذلك.

وبالرغم من ذلك، فإنّ علم النفس يعلّمنا بأن هذه العواطف يمكن توجيهها كما يمكن توجيه الأحاسيس والأفكار. إن المطلوب هو عمل معرفيّ من أجل طرح أسئلة مهمّة تتعلّق بالمصالح التي توجّه القيادات في كل ما يتعلق بخلق أجواء من انعدام الأمن والخوف؛ وطرح أسئلة حول تأثير تجارب الماضي السحيق تلك التي لم تعد ذات صلة بالواقع اليوم؛ وحول الواقع الجديد كلياً الذي يعيشه الشعب اليهوديّ في هذا الزمان. يجب أن نفهم، بالأساس، أن الحياة في ظل انعدام الأمن والخوف الدائم، دون فهم للظروف التي يعيشها الشعب اليهوديّ في إسرائيل، تقودنا نحو رؤية ضيّقة تقيّد امكانيّات مواجهتنا لتحديات الحاضر والمستقبل. وهي تحدّيات تتطلّب مجازفةً محسوبة.
_________________________
(*) دانيئيل بار طال- بروفسور في علم النفس السياسيّ. ترجمة خاصة.

 

المصطلحات المستخدمة:

دورا, رئيس الحكومة, بنيامين نتنياهو

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات