يتمحور قسط كبير من النقاش العام، في إسرائيل تحديدا، حول الصراع الإسرائيلي ـ العربي عامة، والإسرائيلي ـ الفلسطيني أساسا، في مسألة العدالة التاريخية وما يشتق منها ويتراكم عليها من أسئلة، كثيرة، مثل: مَن المذنب؟ مَن البادئ؟ لمن هذه الأرض وهذه البلاد ومن هو الطرف الذي يمتلك الحق فيها وعليها؟ ما هي دوافع الأطراف المختلفة، مراميها وغاياتها؟ كيف السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة، سياسيا؟ وغيرها الكثير من هذه الأسئلة. لكن، قليلا جدا ما تُطرح للنقاش العام أسئلة تتعلق بالعبء الاقتصادي الذي ترتب على هذا الصراع خلال العقود الماضية منذ بدئه وبالأثمان الاقتصادية والاجتماعية الباهظة التي دفعتها شعوب المنطقة ودولها، وخاصة دولة إسرائيل وشعبها والشعب الفلسطيني، جراء هذا الصراع والتي تواصل دفعها، يوميا، جراء استمراره.
ومؤخرا، نشر مقال بحثيّ يعالج هذه المسألة ـ الأثمان الاقتصادية ـ أعده كل من البروفسور يوسي زاعيرا (أستاذ الاقتصاد في الجامعة العبرية في القدس)، صائب بامية (المستشار الاقتصادي للاتحاد العام للصناعات الفلسطينية والنائب السابق لوزير الاقتصاد الفلسطيني) وطال وولفسون (الباحث في برنامج الاقتصاد والمجتمع في "معهد فان لير" في القدس والمستشار الكبير السابق لعالم الاقتصاد الرئيسي في وزارة المالية الإسرائيلية)، تحت عنوان "التكلفة الاقتصادية للصراع على إسرائيل: العبء والمخاطر المحتملة".
وقد وضع الباحثون الثلاثة مقالتهم هذه في إطار "مجموعة Aix"، وهي "مجموعة عمل" إسرائيلية ـ فلسطينية أسسها البروفسور غيلبرت بن حيون، أستاذ الاقتصاد في جامعة بول سوزان الفرنسية. وتحمل المجموعة اسم "أكس أون بروفانس"، المدينة الفرنسية التي تأسست فيها المجموعة في العام 2002، برعاية الجامعة الفرنسية المذكورة وبالتنسيق مع "مركز بيريس للسلام" في إسرائيل ومركز "داتا" (DATA) للأبحاث والدراسات في السلطة الفلسطينية. وتهتم المجموعة بتأليف، وضع ونشر "أوراق موقف" تطرح فيها سيناريوهات اقتصادية وتقدم توصيات اقتصادية ترمي إلى تحقيق نتائج اقتصادية أفضل لكلا الشعبين.
الصراع بمنظور تاريخي ـ ثلاث مراحل اقتصادية
يقوم المقال الحالي على طرح ادعاءين مركزيين: الأول، أن التكلفة الاقتصادية التي يتكبدها الاقتصاد والمجتمع الإسرائيلي جراء الصراع الإسرائيلي ـ العربي تعادل ضعفيّ ما تورده وتعترف به المعطيات الرسمية الإسرائيلية. وفي هذا الادعاء، يقتفي الباحثون الثلاثة أثر إيتان برغلاس، عالم الاقتصاد الإسرائيلي الذي تحمل كلية الاقتصاد في جامعة تل أبيب اسمه والذي أشغل في حينه منصب المسؤول عن الميزانيات في وزارة المالية الإسرائيلية. فقد بيّن برغلاس في مقالة له بعنوان "أعباء الأمن والاقتصاد الإسرائيلي" (1983) أن المعطيات الرسمية الإسرائيلية لا تورد في حساباتها مجمل العبء الاقتصادي الواقع على الاقتصاد الإسرائيلي جراء النزاع الإسرائيلي ـ العربي ولا تعكسه بصورة صحيحة.
أما الادعاء الثاني، فهو أن الاقتصاد الإسرائيلي أصبح أكثر حساسية وعرضة للتأثر والتضرر من جراء الأنشطة الاقتصادية المختلفة، وذلك في أعقاب التحول الذي طرأ على وجهات الصراع وسماته منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي. ويقول المؤلفون إنه من أجل فهم خلفية هذا الادعاء، ينبغي النظر إلى الصراع بمنظور تاريخي.
من الناحية الاقتصادية، يمكن تقسيم الصراع الإسرائيلي ـ العربي إلى ثلاث مراحل رئيسية: في المرحلة الأولى، قبل قيام دولة إسرائيل، دار الصراع على الساحة المحلية بصورة أساسية ـ بين "الييشوف" اليهودي والسكان العرب في فلسطين / "أرض إسرائيل". وكان هذا، في أساسه، صراعا مريرا بين مجموعتين منظمتين ذكّرت أنماط عملهما ونشاطاتهما بأنماط عمل المليشيات. وفي المرحلة الثانية، بعد إعلان استقلال إسرائيل وإنشاء الدولة، نشب نزاع مسلح بين الجيوش العربية من جهة والجيش الإسرائيلي من جهة أخرى، حيث تصاعدت حدة هذه المواجهة واتسعت من تلك النقطة فصاعدا حتى وصلت إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة بين جيوش تقليدية منظمة. وكانت هذه المواجهة، بما تطلبته وشملته من تشكيل وبناء قوات عسكرية نظامية، على اختلاف أذرعها (البرية، الجوية وغيرها)، تدريبها، تسليحها وتفعيلها، منوطة بتكاليف اقتصادية هائلة ترتبا على المصروفات الأمنية، ازدادت باستمرار مع تكرر المواجهات المسلحة بين تلك الجيوش. أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت مع التوقيع على اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر في العام 1979. ومنذ ذلك اليوم، أصبحت مميزات الصراع، تدريجيا، أكثر شبها بمميزاته في المرحلة الأولى المذكورة آنفا: فالصراع لم يعد، بعد تلك اللحظة، صراعا إسرائيليا ـ عربيا شاملا بل أصبح صراعا إسرائيليا ـ فلسطينيا بوجه أساس، وهو ما ترتب عليه تناقص كبير ومستمر في حجم وتنوع الموارد الاقتصادية المرصودة له.
ويظهر من المعطيات التي أوردها الباحثون في جداول خاصة أن المصروفات الأمنية شكلت، خلال السنوات العشرين الأولى بعد قيام دولة إسرائيل، أكثر بقليل من 5% من مجمل الناتج القومي المحلي سنوياً، باستثناء قفزة محددة في أعقاب "حرب سيناء". وابتداء من العام 1967 (حرب حزيران) بوجه عام، ومن العام 1973 (حرب أكتوبر) بوجه خاص، عادت المصروفات الأمنية لترتفع بصورة مذهلة حتى وصلت إلى نحو 30% من مجمل الناتج القومي سنويا (يشير الباحثون هنا، للمقارنة، إلى أن مصروفات الحكومة الإسرائيلية في العام 2015 بلغت نحو 40% من إجمالي الناتج القومي). وفي نهاية السبعينات، بعيد توقيع اتفاقية السلام مع مصر، عادت هذه المصروفات الأمنية إلى الانخفاض بصورة مستمرة إلى أن بلغت نحو 6% من إجمالي الناتج القومي في الفترة الحالية.
لكن المصروفات الأمنية المرتفعة قبل التوقيع على اتفاقية السلام مع مصر لم تكن على حساب المصروفات المدنية / الخدماتية فحسب، بل أدت إلى زعزعة الاستقرار في السوق المالية أيضا. فالعجز البنيوي الذي نشأ جراء المصروفات الأمنية الطائلة، تم تمويله وتغطيته، ولو جزئيا، بواسطة طباعة المزيد من الأوراق النقدية. وهو ما كان من بين العوامل التي أدت إلى ارتفاع كبير في المصروفات العامة الإسرائيلية ـ ارتفاع العجز / الدين أدى إلى زيادة الصرف الحكومي على الفوائد، طباعة الأوراق النقدية أدت إلى تسريع وتائر التضخم المالي الذي أدى بدوره إلى زيادة المدفوعات الحكومية لدعم الأفراد والمصالح. ونتيجة لهذا، نشأت دينامية أدت إلى ارتفاع المصروفات الحكومية العامة من نحو 35% من إجمالي الناتج القومي في بداية الستينات إلى ما يزيد عن 70% منه في نهاية السبعينات. ولم يكن من الممكن، في تلك الفترة والظروف، خفض حجم المصروفات الأمنية، ثم حجم المصروفات العامة تاليا، إلا بواسطة اتفاقية السلام مع مصر في العام 1979، كما أثبت ميخائيل سترافشينسكي ويوسف زاعيرا في مقالهما "تقليص الحجم النسبي للحكومة في إسرائيل" (2002). وبكلمات أخرى، يمكن الافتراض بأنه لولا اتفاقية السلام مع مصر، لما كان بالإمكان إخراج خطة الاستقرار الاقتصادي إلى حيز التنفيذ في العام 1985.
الانتفاضة الفلسطينية الأولى والتحول الجوهري
لكن هذا الوضع، كما وٌصف أعلاه، شهد تحولا جوهريا منذ نهاية الثمانينات، وخصوصا مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، إذ أصبح الاقتصاد الإسرائيلي أكثر حساسية وعرضة للتضرر من جراء الأنشطة التجارية المختلفة. أولاً، نظرا لأن المصروفات الأمنية المرتفعة أدت، على مر السنوات، إلى رفع مستوى الطلب الإجمالي (هو إجمالي الطلب لجميع السلع والخدمات في لحظة زمنية محددة)، بما في ذلك جراء خلق فرص وأماكن عمل جديدة ورفع مستوى الاستهلاك، مما أدى بالتالي إلى ضبط الأنشطة التجارية وتقليص وتائرها وأحجامها، كما حصل في أعقاب حرب حزيران 1967، مثلا. ونظراً لأن الكلفة المباشرة للصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني شهدت انخفاضا منذ نهاية الثمانينات، فقد تبدد تأثير الضبط المذكور وتلاشى. وعلاوة على هذا، فقد تغير أيضا طابع المواجهة والصراع. فالصراع بين الدول، ما قبل التوقيع على اتفاقية السلام مع مصر، تميز بمواجهات محدودة الزمن، ذات نتائج واضحة، جرت في غالبيتها بعيدا عن التجمعات والمراكز السكانية في إسرائيل. أما منذ نهاية الثمانينات، فقد انتقل جزء كبير من هذه المواجهات إلى قلب المدن والتجمعات السكانية الإسرائيلية، مع استمرارها لفترات زمنية أطول بكثير نسبيا وتميزت بنتائج غير واضحة تماما يكتنفها الكثير من الغموض. وقد أدى هذا كله إلى تقليص حجم الاستثمارات والاستهلاك في الاقتصاد الإسرائيلي، ما ترتب عليه حالات متواصلة من الركود الاقتصادي.
وبالفعل، تبيّن قراءة متمعنة للمعطيات بشأن الأنشطة التجارية في إسرائيل أنه حتى العام 1980، غرق الاقتصاد الإسرائيلي في حالة الركود الاقتصادي مرّتين اثنتين، بينما في السنوات ما بعد العام 1980 تعرض الاقتصاد الإسرائيلي إلى حالة الركود الاقتصادي أربع مرات. ويلفت الباحثون، هنا، إلى أن مميزات الصراع وحجم المصروفات الأمنية لم تكن الأسباب الوحيدة التي أدت إلى حالات الركود هذه، لكن تأثيرها قائم على نحو جلي، بالطبع.
وعلى هذا، فإن رؤية الصراع بمنظور تاريخي تبيّن، بوضوح، أن للوضع السياسي ـ الأمني في إسرائيل انعكاسات وآثاراً كبيرة وعميقة على مستوى الاستقرار الاقتصادي فيها.
تعريف المصروفات الأمنية والمركّب الخفيّ
لكن، ثمة للمصروفات والأعباء التي يرتبها الوضع الأمني على الاقتصاد الإسرائيلي مركّب آخر يصفه الباحثون بأنه "خفيّ عن الأنظار". ويسجلون أن إيتان برغلاس كان أول من أشار إلى هذا المركب حين وضع (في العام 1986) تعريفا للكلفة الأمنية بأنها "مجموع الموارد والمصادر المرصودة للأمن، بما يجعلها غير متاحة للجمهور الإسرائيلي ولا تخدم احتياجاته الأخرى". وتنبع أهمية هذا التعريف من كون الاستهلاك الأمني، الذي تم اعتماده أساسا ومنطلقا في البحث وفي النقاش العام حتى الآن، يفتقر إلى مركّبات جوهرية هامة. فعلى سبيل المثال، المصروفات المباشرة من ميزانية الأمن على صناديق التقاعد (أكثر من 7 مليارات شيكل في العام 2014) وعلى التعويضات والتأهيل (5 مليارات شيكل في العام 2014) لا تؤخذ في الحسبان ضمن "الكلفة الأمنية" العامة، بل يجري احتسابها بوصفها "مصروفات رفاه وفق المعمول به دوليا". ولهذا، فإن هذه المصروفات وما ماثلها لا يتم شملها ضمن الحسابات الوطنية العامة.
ويؤكد الباحثون أن ميزانية الأمن تشكل الأساس في حسابات الكلفة الأمنية والعبء الذي يتكبده الاقتصاد الإسرائيلي من جرائها. ونظرا لأن المصروفات الفعلية لوزارة الدفاع الإسرائيلية أكبر بكثير، دائما، من المبلغ المرصود لها في الميزانية العامة للدولة مع بداية كل سنة جديدة (بفارق يبلغ عشرة مليارات شيكل يعادل 1% من الناتج القومي)، فقد اختاروا فحص الميزانية التي يتم تنفيذها/ استغلالها، وليس الميزانية المرصودة في قانون الميزانية في بداية السنة. ويعود هذا الفارق إلى أسباب عدة، أبرزها وعود غير رسمية يقطعها السياسيون للأجهزة الأمنية، تحويل ميزانيات إلى أجهزة الاستخبارات وأنشطتها "المستجدة" وأحداث غير مخططة وغير متوقعة، مثل الحروب أو "العمليات العسكرية الواسعة"!
وإضافة إلى ميزانية الأمن، عالج الباحثون ثلاثة مركّبات أخرى في التكلفة العامة هي: الأول ـ مركّبات لا يجري تداولها في السوق التجارية الحرة، ولذا فهي عديمة الثمن لكنها ذات قيمة اقتصادية بالغة (مثل الخدمة العسكرية الإلزامية واستخدام الأراضي); الثاني ـ التكلفة المدنية للأمن، وهي التي يُلقى عبء تمويلها على المواطنين وعلى الميزانية العامة للدولة (مثل الإلزام ببناء ملاجئ وغرف محصنة في البيوت السكنية والإلزام باستخدام خدمات الحراسة); الثالث ـ بنود في الميزانية العامة للدولة مخصصة للاحتياجات والأغراض الأمنية، لكنها لا تؤخذ في الحسبان ضمن المصروفات الأمنية (مثل صندوق توجيه الجنود المسرحين، لجنة الطاقة الذرية ومصروفات مدنية لحالات الطوارئ). فهذه المركبات الثلاثة معا تشكل، سوية مع ميزانية الأمن، مقياساً حقيقيا وواقعيا للتكلفة الأمنية الشاملة الملقاة على كاهل الاقتصاد الإسرائيلي.
وعند الأخذ في الحسبان هذه العوامل والمركبات مجتمعة، تبين للباحثين أن التكلفة الأمنية الشاملة للاقتصاد الإسرائيلي في العام 2011 بلغت ما يعادل 7ر12% من إجمالي الناتج القومي، مقابل 2ر6% وفق المعطيات الرسمية!
وفي الخلاصة، يؤكد الباحثون أن للصراع الإسرائيلي ـ العربي إسقاطات وانعكاسات هائلة على الاقتصاد الإسرائيلي وعلى الاستقرار الاقتصادي وعلى مجموع المصادر والموارد المرصودة للأغراض والاحتياجات الأمنية.
ومن هنا، يرى الباحثون أن على المجتمع الإسرائيلي أن يسأل نفسه ثلاثة أسئلة مركزية: الأول ـ هل هذا هو الحجم الأنسب للتكلفة الأمنية قياسا بالنتيجة التي يحصل عليها (مستوى الأمن والأمان بشكل عام) أم بالإمكان تحقيق النتيجة ذاتها بتكلفة أقل؟. الثاني ـ هل ثمة طرق سياسية ودبلوماسية من شأنها خفض مستوى التهديدات والأخطار المحدقة بإسرائيل، بما يتيح تقليص وخفض التكلفة الأمنية؟. الثالث ـ هل تستحق الأهداف التي من أجلها يتم تفعيل القوة الأمنية والعسكرية، بما فيها تطوير المشروع الاستيطاني، مثل هذه التكلفة حقا وهل تبررها؟ .... ثم يختمون بالتأكيد: "وعلينا أن نتذكر أن الثمن الاقتصادي هو ثانوي قياسا بالثمن المدفوع بحيوات إسرائيليين كثيرين"!