المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

"تقف إسرائيل أمام مفترق قرارات من شأنها أن تقرر في مجرد وجودها بعد بضعة عقود من الزمن... ثمة أزمة كبيرة ومُزلزِلة متوقعة" ـ هذه "النبوءة" هي خلاصة وثيقة علمية رصينة أعدها معهد "شورش للدراسات الاقتصادية والاجتماعية" بناء على طلب خاص من "المجلس الاقتصادي القومي"، وهو مؤسسة حكومية تعمل تحت إشراف مباشر من ديوان رئيس الحكومة.

في الوثيقة، التي نشر مضمونها نهاية الأسبوع الأخير والتي أعدها البروفسور دان بن دافيد، رئيس "معهد شورش"، والبروفسور إيال كمحي، الباحث في المعهد، تحذير صارخ من أن "إسرائيل لم تتجاوز بعد، حتى الآن، نقطة اللاعودة، لكن العنوان بيّن على الحائط ـ أزمة كبيرة ومزلزلة متوقعة، أمنية و/ أو اقتصادية، ستكون بمثابة بداية لسيرورة لن تكون منها رجعة عنها ولن يكون رادّ لها"! والمعنى المقصود هو تعمق الفجوة بين ما يستطيع المواطن الإسرائيلي العامل تحقيقه والحصول عليه وبين ما كان بإمكانه تحقيقه لو كان يعيش في إحدى دول مجموعة الـ G7 (مجموعة الدول الصناعية الكبرى). وتضيف الوثيقة أن المعالجة العميقة والناجعة لمسألة الإنتاجية المتدنية، الفقر وانعدام المساواة ينبغي أن تتمحور، بالضرورة، في قضيتين مركزيتين هما مشكلتا الأساس: البنى التحتية في مجالي التعليم والمواصلات.

المستقبل الاقتصادي والقدرات الدفاعية

تعرض الوثيقة، بصورة تفصيلية، المشكلات الاقتصادية التي جرى إهمالها وعدم حلها على مر السنوات الماضية، كما تطرح التحديات التي ستواجه دولة إسرائيل خلال العقود القريبة القادمة في المجال الاقتصادي ـ الاجتماعي، والتي تشكل "قضايا وجودية حقيقية ستقرر مستقبل دولة إسرائيل الاقتصادي، الذي تعتمد عليه قدراتها في مجال الدفاع عن نفسها"!

وتصف الوثيقة مسار التراجع المتواصل في مستويات الإنتاجية العامة في إسرائيل بالمقارنة مع مستوياتها في الولايات المتحدة منذ سبعينات القرن الماضي حتى اليوم وتؤكد أن "رفع مستوى الحياة ستوجب، بالضرورة، رفع مستوى الإنتاجية العامة، بما يعكس تحسين أداء العاملين وجودتهم وتطوير رأس المال إضافة إلى تحسين وتطوير طرق الإنتاج... هذا هو العامل المركزي في تحديد مستوى الحياة في الدولة وتحديد وتيرة نموها".

صحيح أن الإنتاجية العامة في إسرائيل قد ازدادت، منذ الخمسينات وحتى السبعينات، بوتائر فاقت وتيرة الازدياد في الانتاجية العامة الأميركية وأن إسرائيل قد نجحت في تقليص الفارق بينها وبين الولايات المتحدة، حتى الحد الأدنى تماما، غير أن الأولويات القومية في إسرائيل قد شهدت تغييرات جوهرية ابتداء من أواخر السبعينات، مما نقلها من مسار سدّ الفجوات مع الولايات المتحدة إلى مسار التراجع المستمر، كما تشير الوثيقة مضيفة أن إنتاجية العمل في إسرائيل قد شهدت، هي الأخرى أيضا، تراجعا واضحا ومتواصلا بالمقارنة مع الأداء الاقتصادي في الدول الرائدة ضمن مجموعة الدول الصناعية الكبرى، ابتداء من أواسط السبعينات وحتى اليوم، مما أسفر في النتيجة الحالية عن تعمّق الفجوة بين الجانبين بما يزيد عن ثلاثة أضعاف.

معنى هذا، كما يقرأه الباحثان معدّا الوثيقة، أنه كلما مرت السنوات تعمّقت وازدادت الفجوة أكثر فأكثر بين ما يمكن للعامل في إسرائيل تحقيقه والحصول عليه وبين ما كان بإمكانه تحقيقه والحصول عليه لو أنه كان يعيش في واحدة من تلك الدول التي تزداد المسافات ما بينها وبين إسرائيل باستمرار، ذلك أن "لإنتاجية العمل تأثيراً كبيراً على أجور العمل في الدولة، إذ لا يمكن دفع أجرة عمل مرتفعة لقاء ساعة العمل الواحدة إذا كانت إنتاجية العمل في ساعة العمل متدنية"!

خطر هجرة ذوي المهارات والكفاءات الرفيعة

تحذر وثيقة "معهد شورش" من أنه إذا ما استمر تراجع الإنتاجية العامة في إسرائيل، مقارنة باقتصاديات الدول المتطورة، بما يزيد ويعمق الفوارق بينهما خلال العقود القادمة، فستكون إحدى النتائج الحتمية ازدياد وتائر هجرة الأشخاص ذوي المهارات والكفاءات الرفيعة من الدولة وبحيث تبلغ هذه الوتائر "درجة لا يمكن العودة عنها".

وفي السياق، تعود الوثيقة إلى عرض المعطيات التي ترسم وتبرز صورة انعدام المساواة وتفشي الفقر في إسرائيل، وهي معطيات تؤكد حقيقة مقلقة أساسية: معدلات الفقر وانعدام المساواة في إسرائيل هي بين الأعلى في العالم قاطبة! وبالمقارنة مع دول مجموعة الدول الصناعية الكبرى، مثلا، فإن "معامل جيني" (الذي يمثل درجة عدم المساواة في المداخيل المُتاحة، القابلة للصرف) يضع دولة إسرائيل في المرتبة الثانية، بعد الولايات المتحدة.

أما الأخطر من ذلك، فهي صورة الفقر بين أصحاب المداخيل المعتمد، أساساً، على المخصصات المختلفة التي تدفعها الدولة للفئات المحتاجة (رسوم البطالة، ضمان الدخل، مخصصات الأولاد، مخصصات العجزة والشيخوخة وغيرها)، إذ أن معدلات الفقر بين هذه الفئات في إسرائيل أعلى منها في جميع الدول المتطورة الأخرة وتساوي ضعفيّ المتوسط العام في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).

وتلفت الوثيقة إلى أن معالجة انعدام المساواة والفقر "ليست معالجة جذرية، وإنما هي معالجة للأعراض فقط"! وبالمقابل، فإن المعالجة المعمقة لتدني الإنتاجية، للفقر ولانعدام المساواة، تستوجب التركيز على مشكلات الأساس، وهي: البنى التحتية البشرية العليلة، وخصوصا في مجال التعليم، والبنى التحتية المادية غير الكافية، وخاصة في مجال المواصلات. "كلما توفرت الشروط والأدوات اللازمة للعيش والتقدم في اقتصاد حديث لعدد أكبر من الناس، تحسن مستواهم الشخصي وانخفض مستوى الفقر وكان المحرك الاقتصادي أكثر كفاءة وقدرة على استغلال ما لديه من موارد، وهو ما سوف ينعكس في تحسين وتعزيز القدرة القومية على استيعاب، تطبيق وتطوير المعرفة، الأمر الذي سيرفع مستوى الإنتاجية، مما سيرفع مستوى المعيشة ووتائر النمو الاقتصادي ـ الاجتماعي".

تعليم عالم ثالث... عرب وحريديم وجيش!

إحدى البؤر المركزية في هذه المعالجة المعمقة التي يقترحها باحثا "معهد شورش" في وثيقتهما هذه هو مجال التعليم، حيث الحاجة ملحة إلى رفع المستوى وتقليص الفجوات بصورة كبيرة. فهما يؤكدان أنه قبل الحديث عن مستقبل دولة إسرائيل الاقتصادي، يجب الانتباه إلى حقيقة مقلقة هي أن "نحو نصف الأولاد في إسرائيل يتلقون اليوم تعليماً بمستوى مماثل لما هو قائم في دول العالم الثالث، وهؤلاء هم الأولاد الذين ينتمون إلى الفئات الاجتماعية التي يزداد تعدادها بالوتائر الأعلى في إسرائيل"! والمقصود، هنا، بالطبع، قطاعان اثنان من السكان: المواطنون العرب والمتدينون الحريديم.

في هذا السياق، تحذر الوثيقة من أن "الأولاد الذين يتلقون تعليما مماثلا لما هو قائم في دول العالم الثالث سيكونون قادرين في المستقبل على صيانة وإدارة اقتصاد عالم ثالث فقط، لكن اقتصاد عالم ثالث لن يكون قادرا على دعم جيش عالم أول كالذي تحتاج إليه إسرائيل لضمان وجودها وبقائها في المنطقة الأكثر خطراً على وجه البسيطة"!

في مجال التعليم، تذكّر الوثيقة بأنه على الرغم من أن معدل سنوات التعليم للفرد في إسرائيل هو أعلى من دول أخرى، نسبيا، إلا أن مستوى التعليم في إسرائيل "متدن جداً"! وهذا هو "العامل المركزي المؤثر على الأجور والمداخيل، على المستوى الفردي، كما على الناتج الإجمالي ومعدلات النمو الاقتصادي، على المستوى القومي". وتشير الوثيقة، أيضا، إلى أن جودة السنة التعليمية في إسرائيل أدنى من جودة السنة التعليمية في أي من الدول المتطورة الأخرى، باستثناء سلوفاكيا، وأن تحصيلات الطلاب الإسرائيليين العلمية في مواضيع التعليم الأساسية، بما فيها العلوم والرياضيات والقراءة، كما تظهر في الاختبارات الدولية، هي من بين الأدنى على الإطلاق في مجموعة الدول المتطورة. ولهذا ثمة "حاجة ماسة إلى عملية إصلاح بنيوية في جهاز التعليم الإسرائيلي. وبالأخذ في الاعتبار الإسقاطات طويلة المدى على مستقبل الدولة، من الصعب جدا التقليل من أهمية الحاجة لمثل هذه الخطوة"!

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات