المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 2111

المظاهرات الواسعة والصاخبة التي نظمتها أوساط من اليهود الحريديم في مدن مختلفة في إسرائيل خلال الأسابيع الأخيرة، في أعقاب اعتقال شاب فارّ من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي، أعادت إلى واجهة النقاش العام أسئلة عديدة حول الخلفيات الحقيقية لها (لهذه المظاهرات) وما تعكسه من صراعات مريرة على موقع الريادة والقيادة بين اليهود الحريديم في داخل إسرائيل، على اختلاف أجنحتهم ومشاربهم وولاءاتهم، الدينية والأيديولوجية والسياسية.

وكانت سلسلة من المظاهرات الصاخبة والصدامية قد انطلقت على مدار أيام متتالية، بمشاركة مئات عديدة من الشبان الحريديم، في عدة مدن إسرائيلية شملت القدس، بني براك (قرب تل أبيب)، بيت شيمش (قرب القدس)، موديعين، الخضيرة، أسدود (أشدود)، مستوطنة "إلعاد" وغيرها، احتجاجا على اعتقال طالب "يشيفاه" (مدرسة دينية) من الحريديم وتحويله من الشرطة إلى سلطات الجيش الإسرائيلي التي زجت به في معتقل عسكري، وذلك على خلفية فراره وتهربه من تأدية الخدة العسكرية.

وقد خرج المتظاهرون إلى الشوارع بإيعاز مباشر من الحاخام شموئيل أويرباخ، زعيم "الجناح المقدسي" (الأورشاليمي) ـ وهو جناح المعارضة المركزي في "التيار الليطائي" (الليتوانيين) من اليهود الحريديم، وضع نصب عينيه هدف محاربة تجنيد الشبان الحريديم للجيش الإسرائيلي، من خلال محاربة قانون التجنيد الإلزامي المعدّل الذي يُلزم الشبان الحريديم بتأدية الخدمة العسكرية في الجيش. وهو تعديل قانوني سنّه الكنيست في دورة الحكومة السابقة بمبادرة من حزب "يش عتيد" (يوجد مستقبل) برئاسة يائير لبيد الذي أشغل آنذاك منصب وزير المالية.

تجنيد الحريديم ـ موضع خلاف قديم

المعروف أن اليهود الحريديم، بمختلف تياراتهم وأجنحتهم، يعارضون تجنيد الشبان من بينهم للخدمة العسكرية في الجيش. ويشكل تجنيد الحريديم قضية خلافية يدور حولها صراع مستمر بين قطاعات مختلفة في المجتمع الإسرائيلي منذ إنشاء دولة إسرائيل، إذ تم إعفاء هؤلاء من واجب الخدمة العسكرية، وذلك بموجب تفاهمات متكررة للحفاظ على ما يسمى "الوضع القائم" في هذا الموضوع. وفي إطار هذه التفاهمات، يتم إعفاء الشبان الحريديم الذين يدرسون في المدارس الدينية (الييشيفوت)، بينما يحصلون في المقابل وفي الوقت نفسه على مخصصات مالية من الدولة.

لكنّ أوساطاً مختلفة في إسرائيل، سياسية واجتماعية ودينية (من المتدينين الوطنيين الصهيونيين الممثلين، أساسا، بحزب "البيت اليهودي") تعارض هذا الإعفاء وتعتبره غير منصف وتسعى كل الوقت، ومنذ سنوات طويلة، إلى إلغائه وفرض التجنيد العسكري الإلزامي على الحريديم. وقد طُرح هذا الموضوع على جدول الأعمال العام، في الحكومة والكنيست والمعارك الانتخابية المختلفة، مرارا وتكرارا، كما وصل إلى طاولة المحكمة العليا الإسرائيلية عدة مرات.

وخلال المفاوضات لتشكيل الحكومة الإسرائيلية السابقة، قبل الحالية، اشترط حزبا "يش عتيد" و"البيت اليهودي" (برئاسة نفتالي بينيت) عدم ضم أحزاب الحريديم (وخاصة "يهدوت هتوراه" و"شاس") إلى الائتلاف الحكومي الجديد، آنذاك، لكي يكون في الإمكان تعديل قانون التجنيد الإلزامي ليشمل الحريديم، إلى جانب إلزامهم بالانخراط في سوق العمل. وهو ما تم فعلا.

ولدى تشكيل الحكومة الحالية، اعتبر رئيسها، بنيامين نتنياهو، أن الحريديم هم "شركاء طبيعيون لليمين"، فقرر ضمهم إلى حكومته، التي ألغت، عمليا، التعديل المذكور على قانون التجنيد الإلزامي، وذلك من خلال منح الشبان الحريديم إعفاء من الخدمة العسكرية لمدة سنة، وبحيث يتم تمديد هذا الإعفاء سنويا، بواسطة حضور هؤلاء الشبان إلى مراكز التجنيد العسكري والتوقيع على تصاريح الإعفاء.

لكن زعيم 'الجناح المقدسي"، الحاخام أويرباخ، أصدر في الأشهر الأخيرة تعليمات إلى تلاميذه وأتباعه برفض التجنيد للجيش والامتناع عن التوجه إلى مكاتب التجنيد للتوقيع على تصاريح الإعفاء من الخدمة، بموجب قرار الحكومة. وقوبلت هذه التعليمات بتهديد أطلقه وزير الدفاع، أفيغدور ليبرمان، بإلغاء نظام الإعفاء لتلاميذ المدارس والمعاهد الدينية التابعة لجناح الحاخام أويرباخ، إلى جانب مشروع قانون جديد قدمه عضو الكنيست عوديد فورِر (من حزب "إسرائيل بيتنا"، برئاسة ليبرمان) يقضي بحجب الميزانيات عن هذه المدارس والمعاهد الدينية طالما بقي تلاميذها يتهربون من تأدية الخدمة العسكرية.

صراع داخلي في "التيار الليطائي"

تُجمع التقارير الصحافية والتحليلية التي عالجت هذه الموجة الجديدة من مظاهرات الحريديم، والتي تخللتها صدامات عنيفة مع قوات الشرطة الإسرائيلية وانتهت، حتى الآن، باعتقال عدد كبير من المتظاهرين، على أن هذه المظاهرات ـ وما سبقها من تعليمات أصدرها الحاخام أويرباخ ـ تأتي في إطار تصعيد مقصود للصراع الداخلي بين التيارات المركزية في أوساط اليهود الحريديم في إسرائيل، وخاصة في داخل "التيار الليطائي" نفسه، أكثر من كونها نشاطا موجَّها ضد التجنيد الإلزامي للجيش، سيّما وأن التسوية التي أقرتها الحكومة لإعفاء هؤلاء من الخدمة العسكرية لا تزال سارية ويتم تطبيقها بالكامل، تقريبا.

ويرى المراقبون والمحللون المختصون بالشأن الحريدي في إسرائيل أن هذه المظاهرات، كما تعليمات الحاخام أويرباخ المذكورة، تندرج ضمن صراع "الجناح المقدسي" على موقع الريادة والقيادة بين أوساط الحريديم وتياراتهم المركزية، باعتباره (الجناح) المعارضة الأساسية والمُحارِبة للتيارات الأخرى التي يتهمها هذا الجناح بممالأة الحكومة وسياساتها ومخططاتها، وخصوصا فيما يتعلق بالنظرة إلى الجيش الإسرائيلي والموقف منه ومن مسألة التجنيد للخدمة العسكرية في صفوفه.

ويشير المراقبون، في هذا السياق، إلى حقيقة أن أعضاء الكنيست الحريديم (ووزير الصحة، يعقوب ليتسمان) من كتلة "يهدوت هتوراه" لم يحركوا ساكناً حيال ما تعرضت له مظاهرات "التيار المقدسي" الأخيرة من قمع بوليسي ولم يبذلوا أي جهد من أجل إطلاق سراح عشرات الشبان الذين تم اعتقالهم خلال هذه المظاهرات، وهو ما يعكس موقفا واضحا في معارضة هذه المظاهرات ورفض منطلقاتها وأهدافها. كما لم يُصدر هؤلاء أي رد أو تعقيب على الأمر الذي أصدره وزير الدفاع، ليبرمان، بسحب المكانة القانونية لاثنتين من المدارس الدينية (الييشيفوت) التابعة لـ "الجناح المقدسي" وحرمانهما من أية مخصصات مالية حكومية، على خلفية المظاهرات ورفض الامتثال في مراكز التجنيد العسكري للتوقيع على تصاريح الإعفاء.

وللتذكير، فإن "التيار الليطائي" هو التيار الأكبر والأقوى والمهيمِن من بين التيارات الثلاثة المركزية في أوساط الحريديم (التياران المركزيان الآخران هما: "الحريديم الحسيديم" و"الحريديم السفاراديم")، وهو مكون في غالبيته الساحقة من يهود أشكناز تعود أصولهم، في الغالب، إلى يهود ليتوانيا ("ليطا" ـ أكبر دولة من دول البلطيق الثلاث وإحدى جمهوريات" الاتحاد السوفييتي" السابق).

في العام 2001، توفي الزعيم الأكبر لهذا التيار خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، الحاخام إليعازر مناحيم شاخ، فخلفه في هذا الموقع الحاخام يوسيف إلياشيف. وبوفاة إلياشيف، في العام 2012، حصل انشقاق في هذا التيار فانقسم إلى جناحين: جناح الأغلبية، بزعامة الحاخام أهرون شطاينمان، الذي يعتبر "معتدلاً" نسبيا، ويقود حزب "ديغل هتوراه" (الذي اتحد، لاحقا، مع حزب "أغودات يسرائيل" في إطار حزب واحد هو "يهدوت هتوراه")؛ وجناح الأقلية ("الجناح المقدسي") بزعامة الحاخام شموئيل أويرباخ، الذي يعتبر "متشدداً جدا"، وخاصة في معارضته تجنيد الشبان الحريديم لتأدية الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي ومعارضة تأهيلهم المهني لدمجهم في سوق العمل، لأن ذلك يمنعهم من تكريس وقتهم وجهدهم لدراسة التوراة.

"بهائم على قدمين"!

أثارت مظاهرات "الجناح المقدسي" في الأسابيع الأخيرة نقاشاً حادا بين تيارات الحريديم عموما، وفي داخل "التيار الليطائي" خصوصا، وصل حد تبادل الشتائم والاتهامات العلنية في وسائل الإعلام المختلفة التابعة لهذا التيار، إذ نشر صحافيون ينتمون إلى معسكر "ديغل هتوراه"، ضمن "التيار المعتدل" (بزعامة الحاخام شطاينمان)، مقالات وتقارير صحافية لاذعة وحادة ضد المتظاهرين وصفوهم من خلالها بأنهم "بهائم تدب على قدمين" و"مثيرون للشغب"، بل وعبروا عن شماتة صريحة بقمع المتظاهرين واعتقال العشرات منهم.

ومع انطلاق التحركات الأولى في المظاهرات الأخيرة، ذهب معلقون ومراسلون صحافيون لشؤون الحريديم في إسرائيل يتحدثون عن "الصورة الكبيرة" التي ترسمها هذه المظاهرات وتعبر عنها واصفين اعتقال الشاب الفارّ (الذي شكل الشرارة التي أشعلت هذه الموجة من المظاهرات) بأنه "مجرد تبرير" لظاهرة عميقة تتفاعل بين أوساط الحريديم أنفسهم، وعن أن الشبان الحريديم يتظاهرون، أساساً، ضد المؤسسة القيادية بين الحريديم وضد ما تمارسه من إقصاء فعلي لحاخاميهم عن مراكز القوة وصنع القرار خلال السنوات الأخيرة.

فقد كتب يائير أتينغر في "هآرتس" (10 شباط الجاري)، مثلا، تحت عنوان "الجناح المتعصب، بقيادة الحاخام أويرباخ، يحرق النادي"، أن المظاهرات التي جرت في الأيام الأخيرة في أنحاء مختلفة من إسرائيل "تمثل، أولاً وبالأساس، تمرداً ضد زعيم الأغلبية الليتوانية، الحاخام شطاينمان، الذي يرقد على فراش الموت هذه الأيام". ووصف أتينغر هذه المظاهرات بأنها "الملاذ الأخير للجماعة المعزولة التي تحارب من أجل الشرعية والاستقلال".

في المقابل، اعتبر إيلي بيتان، الصحافي الحريدي الذي يحرر موقع "بِحَدْري حريديم" ("في غرف الحريديم")، أن تحليل أتينغر هذا "كان صحيحاً حتى ما قبل سنتين، لكنه غير صحيح البتّة اليوم". وأوضح بيتان (موقع "محادثة محلية"/ "سيحاه ميكوميت" ـ 11 شباط الجاري) أن "الجناح المقدسي" بزعامة الحاخام أويرباخ أصبح اليوم، بعد ثلاث سنوات من الانشقاق في "التيار الليطائي"، قطاعا واسعاً وقوياً يحظى، من خلال قائمة "بني توراه" ("أبناء التوراه")، بتمثيل في ثلاثة مجالس بلدية ويمثله نائب رئيس بلدية في مدينة القدس، يمتلك صحيفة يومية لا تزال صامدة رغم مقاطعة المُعلِنين التجاريين ومكاتب الدعايات الإعلانية لها، وهي مقاطعة منهجية مقصودة تتم بالتعاون والتنسيق مع "ديغل هتوراه" (الجناح المنافس في "التيار الليطائي"). وينتمي إلى "الجناح المقدسي"، كما يضيف بيتان، عشرات الحاخامين في مختلف أنحاء إسرائيل، علاوة على امتلاكه وإدارته مجموعة كبيرة من المدارس الدينية (الييشيفوت) الكبيرة والصغيرة، الكليات والمعاهد الدينية، "على الرغم من محاولات ديغل هتوراه المستمرة لضرب شرعيتها".

ويرى بيتان أن "الجناح المقدسي في بداية 2017 هو حقيقة ناجزة في المشهد الحريدي العام، لا يحتاج إلى أية مصادقة أو ختم شرعية. وبعد أن تمأسس ورسّخ قواعده، يخوض هذا الجناح صراعاً جليا على قيادة التيار الليطائي يُنتظر أن يصبح (الصراع) فعليا وعلنيا فور وفاة الحاخام شطاينمان، الذي يصارع الموت الآن في أحد المستشفيات".

ويوضح بيتان أن "الجناح المقدسي" يعتمد، في مسعاه لكسب المزيد من النقاط في هذا الصراع، "خطا أيديولوجيا متشددا، بينما يكرّس لجناح ديغل هتوراه صورة المنتفعين المساوِمين"، ليس في مسألة تجنيد الشبان الحريديم فقط، وإنما "في مسائل ومجالات أخرى عديدة، من بينها التعليم، حائط المبكى، العناق مع نتنياهو، السبت، وحتى نشر الإعلانات الدعائية عن رحلات الاستجمام في عيد الفصح العبري في صحيفة "ياتيد نئمان" (صحيفة "ديغل هتوراه")، والتي تثبت تغلغل الأجواء المهادنة في أوساط جناح الأغلبية".

ويؤكد بيتان، ختاما، أنه "ليست ثمة فوارق وخلافات أيديولوجية جوهرية وجدية حقيقية بين الجناحين المتصارعين في التيار الليطائي، إنما يختلف الحاخامون، على الأكثر، في مسائل تكتيكية فقط ـ إنه صراع على مواقع القوة والقرار، على السيطرة والموارد، بما يحدد هوية النخبة التي ستكون صاحبة الهيمنة والقرار في التيار الليطائي خلال السنوات المقبلة".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات