المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
حريدي يمر من أمام مكتب التجنيد في القدس. (فلاش 90)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1160
  • سليم سلامة

ذهبت تقديرات عديدة في إسرائيل إلى حدّ استخدام صفة "تاريخية" في تقييم الجلسة التي عقدتها المحكمة العليا الإسرائيلية يوم الإثنين الأخير (26 شباط المنصرم) للنظر في عدد من الالتماسات المُقدَّمة إليها للطعن في قانونية المخصصات المالية التي تُغدقها الدولة (الحكومة) على المدارس الدينية اليهودية التي يتعلم فيها شُبّان من تيارات "الحريديم" في الوقت الذي لا تسري فيه أية تسوية قانونية تنظم مسألة إعفاء هؤلاء الشبان من الخدمة العسكرية في الجيش الإسرائيلي أو تأجيلها.

طالبت الالتماسات، التي قدمتها كل من "الحركة من أجل جودة الحكم"، "حركة أخوة السلاح"، "منتدى أيالون لحقوق الإنسان"، "الحركة من أجل الديمقراطية المدنية" و"أمهات في الجبهة"، بإلزام الحكومة والجيش الإسرائيلي بالبدء فوراً بتجنيد الشبان الحريديم للخدمة العسكرية، من جهة أولى، وبالوقف الفوري للأموال الباهظة التي ترصدها الحكومة لتمويل مدارسهم الدينية، من جهة ثانية. وفي ختام مداولاتها يوم الإثنين الماضي، أصدرت المحكمة العليا (بتركيبة ثلاثة قضاة برئاسة القائم بأعمال رئيس المحكمة، القاضي عوزي فوغلمان، إلى جانب القاضيين اللذين سيتوليان رئاسة هذه المحكمة في الدورتين المقبلتين: إسحق عميت ونوعام سولبيرغ) جملة من الأوامر المؤقتة التي تُلزم الدولة (الحكومة) بتفسير أسباب عدم إلغاء قرار الحكومة الاستمرار في عدم تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية بالرغم من انتهاء مدة سريان القانون الذي أجاز ذلك؛ بتفسير سبب عدم تحرك الحكومة واتخاذها إجراءات عملية لتجنيد هؤلاء الشبان وتفسير سبب عدم وقف تمويل دراسة هؤلاء الطلاب الذين يبلغ عددهم أكثر من 66 ألفاً، رغم انعدام أية مرجعية قانونية تجيز ذلك. وقد أمهلت المحكمة الحكومة حتى يوم 24 آذار الجاري موعداً أقصى لتقديم ردودها على هذه الأوامر، على أن تصدر قرارها القضائي النهائي في الموضوع، والذي من المتوقع أن يشكل منعطفاً تاريخياً حقيقياً وغير مسبوق في هذه المسألة في إسرائيل، بما قد يضع الساحة السياسية ـ الحزبية ـ الحكومية كلها على كف عفريت.

وقد وصفت "الحركة من أجل جودة الحكم" قرار المحكمة هذا بأنه "قرار دراماتيكي وفي غاية الأهمية لأنه يشكل خطوة إضافية أخرى في الطريق نحو المساواة التامة في تحمل العبء. ما كان هو ليس ما سيكون. التمييز بين إنسان وآخر وبين دم ودم لا يمكن أن يستمر. كلنا أمل في أننا سوف ندشن في نهاية هذا الشهر (آذار) عهداً جديداً نتحمل فيه العبء جميعاً، بمن في ذلك طلاب المدارس الحريدية". وأضاف رئيس هذه الحركة، المحامي إلعاد شراغا، قائلاً: "نحن ندور في الدائرة المجنونة ذاتها منذ 25 سنة. في هذا النظام الديمقراطي المشوّه الذي نعيش فيه، هنالك مواطنون يتمتعون بالحقوق فقط، من دون أية واجبات، فهم ليسوا مُلزَمين بالعمل، ولا بدفع الضرائب ولا بتحمّل قسطهم من العبء العسكري". وقال، موجهاً الانتقاد للمحكمة العليا: "25 سنة والمحكمة العليا شريكة في هذه التأجيلات اللانهائية. الجيش يصرخ متوسلاً القوى البشرية لكنّ التمييز يقطع الغصن الذي تجلس عليه هذه الدولة".  

وعقبت حركة "أخوة السلاح" على قرار المحكمة بوصفه بأنه "تاريخي" و"يمثل لحظة الحقيقة بالنسبة لقادة الدولة الذين ينبغي عليهم التوقف عن الدسائس والمكائد والألاعيب السياسية، لأن تجنيد الحريديم هو حاجة أمنية اقتصادية واجتماعية لا يجوز تأجيلها أكثر. حان وقت التجنيد والمساواة".

وقال المحامي غلعاد برنياع، الذي يمثل "الحركة من أجل الديمقراطية المدنية"، إن المحكمة العليا أصدرت "قراراً تاريخياً، واضحاً ومدوياً. وإنه رسالته واضحة تماماً وتشكل خطوة في الاتجاه الصحيح والمطلوب منذ عشرات السنين".

سيفٌ مُسلط وحركة سياسية جديدة ودراسة مقارِنة

في العام 2018، ألغت المحكمة العليا القانون الذي كان ينظم، حتى ذلك الحين، مسألة إعفاء طلاب المدارس اليهودية الحريدية من الخدمة العسكرية وعدم تجنيدهم في صفوف الجيش، وذلك بسبب "انتهاكه مبدأ المساواة وتعارضه معه". ومنذ ذلك الوقت، منحت المحكمة الحكومة الإسرائيلية والكنيست الإسرائيلي مُهلاً متجددة لسن قانون جديد ينظم هذه المسألة، انتهت كلها مع نهاية حزيران 2023. ولذلك، فابتداء من 1.7.2023 ليس ثمة في إسرائيل قانون يجيز هذا الإعفاء أو تأجيل التجنيد. إلا أن الحكومة الإسرائيلية حاولت الالتفاف على هذا الواقع بقرار حكومي اتخذته في أواخر حزيران الماضي يأمر الجيش الإسرائيلي بعدم تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريدية ويبقى ساري المفعول حتى 31 آذار 2024. لكن، في موازاة هذا القرار، واصلت الحكومة تمويل دراسة 66 ألفاً من هؤلاء الطلاب في تلك المدارس، بما يتعارض مع معايير المدفوعات والمخصصات الحكومية في هذا المجال. لهذا، كانت المستشارة القانونية للحكومة قد أعلنت إنه إذا لم يجر سن قانون في الكنيست لتنظيم مسألة الإعفاء والمدفوعات، فسيكون الجيش مضطراً إلى البدء بتجنيد هؤلاء الطلاب لتأدية الخدمة العسكرية ابتداء من مطلع نيسان القريب وستكون الحكومة مُلزَمة بوقف تحويلاتها المالية لتلك المدارس.

ومن المعروف إن موضوع الشبان الحريديم الذين يدرسون التوراة في هذه المدارس الدينية، بتمويل كامل من ميزانية الدولة، ووسط إعفائهم التام من تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية المفروضة على أية فتاة أو شاب من اليهود لدى بلوغهم سن الثامنة عشرة، هو من المواضيع الأكثر حساسية وخطورة في الحياة السياسية ـ الحزبية والاجتماعية الإسرائيلية منذ قيام الدولة حتى اليوم. فهو بمثابة قنبلة موقوتة تهدد بالانفجار في أية لحظة في كل ما يتعلق بالتركيبات الائتلافية ـ الحكومية التي تشكل الأحزاب الحريدية أحد أعمدتها الأساسية منذ قيام الدولة حتى اليوم، مُستغلة وزنها السياسي وتمثيلها البرلماني لمواصلة فرض أجنداتها وخدمة مصالحها في هذا المجال من خلال جعل تجنيد طلاب المدارس الدينية الحريديم سيفاً مسلطاً بشكل دائم فوق رقبة أي ائتلاف حكومي يجرؤ على "تغيير الوضع القائم"، ثم إسقاط الحكومة المبنية عليه، من جهة، كما بات يشكل، من جهة أخرى وفي السنوات الأخيرة تحديداً، موضع خلاف حاد جداً، بل صراع شديد، بين الأحزاب الحريدية وأحزاب "اليسار ـ الوسط" الإسرائيلية وجمهور هاتين الفئتين من الأحزاب الذي كثيراً ما يجري التعبير عنه بصورة عدائية عميقة بين الطرفين.

في سياق هذه الحرب المستمرة حول الخدمة العسكرية الإلزامية وتجنيد/ إعفاء طلاب المدارس الدينية الحريدية، وما يتصل بذلك من ميزانيات طائلة ترصدها لهم الحكومة من المال العام، ظهرت على ساحتها في الفترة الأخيرة حركة جديدة أطلقت على نفسها اسم "أمهات في الجبهة" تطالب بـ "تجنيد الحريديم في الجيش بدون أية حوارات معهم وإلغاء حق مَن يرفض تأدية الخدمة العسكرية في التصويت وفي الترشح للانتخابات". 

وأعلنت مؤسِّسة هذه الحركة، المحامية أييلت هشاحر سايدوف، أنها تعتزم خوض الانتخابات العامة المقبلة في إسرائيل "والتي ستجرى هذه السنة، بالتأكيد"، كما قالت، منوّهة إلى "سياسة الابتزاز" التي تنتهجها الأحزاب الحريدية، كما وصفتها، من خلال "دعمها للانقلاب القضائي في مقابل إعفاء شبانها من الخدمة العسكرية وإغداق ميزانيات كبيرة عليهم وعلى مدارسهم الدينية". وأوضحت: "لذلك، طالب ساسة الحريديم بسن قانون فقرة التغلب، الذي سيسمح للكنيست بإعادة تشريع القانون الذي أمرت المحكمة العليا بإلغائه ـ قانون إعفاء الطلاب الحريديم من الخدمة العسكرية ـ بأغلبية 61 عضو كنيست فقط، أو "قانون أساس تعليم التوراة" الذي سيمنح هؤلاء الطلاب مكانة وحقوقاً مساوية لمكانة وحقوق الجنود.... ومن هنا نشأت فكرة تأسيس حركتنا، أمهات في الجبهة". 

ورداً على سؤال حول مطالب هذه الحركة قالت: "نطالب بأن يكون قانون خدمة متساوية لجميع المواطنين في إسرائيل. الحريديم انفصلوا عنّا والطريق إلى إعادة وصلهم هي ليس إغداق المزيد من الميزانيات عليهم، وإنما دمجهم في المجهود القومي، وإلا فإن الطرفين سيؤولان إلى الضياع والزوال. منحناهم 75 سنة من الدلال والعيش على حساب الغير. وهذا انتهى".

على صعيد آخر، أظهرت دراسة خاصة أجراها "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" أن الإعفاء الممنوح للحريديم من الخدمة العسكرية هو "غير مسبوق في أي من الدول الديمقراطية". وقد توصلت الدراسة إلى هذه النتيجة من خلال مقارنة الأوضاع والمعطيات في عشر دول ديمقراطية تعتمد نظام الخدمة الإلزامية في الجيش. وبيّنت أيضاً أن الميل الغالب في العالم كله هو تقليص رقعة المعايير والاعتبارات التي تمنح العفو، الفردي، من تأدية الخدمة العسكرية وليس توسيعها أو تطبيقها على قطاعات أو فئات سكانية بأكملها، كما هي الحال في إسرائيل بالنسبة للطلاب الحريديم.

وبيّنت الدراسة، التي أجراها اثنان من خبراء القانون الدولي في "المعهد" هما البروفسور يوفال شاني والمحامية ميريت شرعبي، أن اثنتين من الدول الديمقراطية الليبرالية التي شملتها الدراسة، على الأقل، تُسقطان حق التصويت (الانتخاب) والترشح في الانتخابات عن كل من يتهرب من تأدية الخدمة العسكرية، كما تطالب حركة "أمهات في الجبهة". وفي بعض الدول تُفرض على المتهربين من تأدية الخدمة العسكرية في فترات الحروب عقوبات أقسى بكثير من تلك التي تُفرض على المتهربين من تأديتها في الأيام العادية.

ويقول شاني إن جميع الدول التي شملتها الدراسة تعتمد مسارات خدمة بديلة لرافضي تأدية الخدمة العسكرية لأسباب ضميرية أو دينية. وبعض تلك الدول يعتمد نوعين أساسيين من المسارات البديلة، هما: الخدمة العسكرية غير القتالية أو الخدمة المدنية، وفي بعضها الآخر يتم اعتماد الخدمة المدنية فقط. غير أن "الخدمة المدنية" البديلة للخدمة العسكرية هي، في جميع الدول، مدة أطول بكثير من مدة الخدمة العسكرية، على عكس ما هو معمول به في إسرائيل. 

المصطلحات المستخدمة:

عوزي, الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات