منذ بداية العام 2023، ارتفعت حدة الخلافات في إسرائيل حول دور المستشارة القضائية للحكومة. يدور ظاهر الخلافات حول الدور الرقابي القانوني للمستشارة القضائية الحالية، غالي بهاراف ميارا، في تقييد عمل حكومة نتنياهو اليمينية الحالية. لكن جوهر الخلاف هو صراع بين تيارين رئيسين داخل إسرائيل حول طبيعة نظام الحكم، وسطوة السلطة التنفيذية، ومبدأ سيادة القانون، في دولة تنزاح باستمرار نحو الشريعة اليهودية وقيم المحافظة.
يلعب منصب المستشار القضائي للحكومة دورًا محوريًا في نظام الحكم في إسرائيل باعتباره مراقبًا لقرارات الحكومة وممارساتها، الملزَمة بمراعاة القانون الأساسي الإسرائيلي، وقواعد اللعبة الديمقراطية، ومبادئ القانون الدولي الليبرالي، وذلك وسط سياق استعماري يشمل تهميش فلسطينيي الداخل وتوسيع الاستيطان في الأرض المحتلة.
تُحلِّل ورقة تقدير الموقف الحالية الدور المركَّب لمنصب المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، مع التركيز على طبيعته القانونية والسياسية. تستعرض الورقة الأدوار الرئيسة للمستشار، وعلاقته بالحكومة، ودوره في حماية الديمقراطية الإسرائيلية باعتبارها ديمقراطية المواطنين اليهود، والصراعات مع التيارات السياسية المختلفة، لا سيما اليمين المحافظ الذي يسعى لتقليص صلاحيات هذا المنصب الحساس. توثّق الورقة أمثلة محددة من نزاعات المستشارين القضائيين السابقين مع الحكومات المتعاقبة حول قضايا مثل الاستيطان، والإصلاحات القضائية، وقوانين أخرى مثيرة للجدل. تختتم الورقة بالآثار المستقبلية المحتملة لهذه الصراعات على "النظام الديمقراطي" في إسرائيل.
- من هو المستشار القضائي للحكومة؟
المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية هو شخصية أساسية ومؤثرة في نظام الحكم الإسرائيلي ويعتبر أعلى منصب قانوني في الدولة. لا يعتبر المستشار القضائي للحكومة جزءًا منها، وإنما هيئة إنفاذ ملازمة لعملها، وتلعب دورًا مزدوجًا:
- من جهة، يساند المستشار القضائي للحكومة عملها، ويقدم لها المشورة القانونية اللازمة ليضمن أن تصدر قرارات الحكومات (سواء يمينية أو يسارية، علمانية أو توراتية) بشكل يتوافق مع القانون الأساس الإسرائيلي والقوانين الدولية الموقِّعة عليها إسرائيل.
- من جهة ثانية، يعمل المستشار القضائي كمراقب، و"حارس للمصلحة العامة" حيث يراقب القرارات الحكومية، ويلجم سطوة السلطات التنفيذية في حال انتهكت مبادئ العدالة والشرعية أو "المعايير الديمقراطية".
يجعل هذا الدور المزدوج، الذي يجمع بين تقديم المشورة للحكومة ومراقبة التزامها بالقانون، المستشار القانوني حجر الزاوية في النظام القانوني الإسرائيلي، و"مفخرة" لدولة إسرائيل كونه تعبيرًا عن أن السلطة العليا التي يعود إليها الإسرائيليون هي سلطة القانون. لكنه أيضًا مصدر جدل داخل الساحة السياسية، حيث يمكن أن يؤدي تدخله إلى توترات بينه وبين أعضاء الحكومة، خاصة في الأوقات التي تشهد استقطابًا سياسيًا وأيديولوجيًا.
- الأدوار الرئيسة للمستشار القانوني
يجمع مكتب المستشار القانون للحكومة بين عدة أدوار قانونية وسياسية مهمة، هي: مستشار للحكومة حيث يقدّم دعمًا قانونيًا لرئيس الوزراء والوزارات، ويضمن امتثال قرارات الحكومة للقانون الأساس الإسرائيلي؛ وهو أيضا يترأس النيابة العامة؛ ويمثل الدولة أمام القضاء؛ وهو "حارس التُخوم" الذي يراقب عدالة وشرعية قرارات الحكومة ويتدخل إذا انتهكت القوانين أو المعايير الديمقراطية.
- علاقة المستشار القضائي للحكومة بالحكومة الإسرائيلية؟
يلعب المستشار القضائي دورًا مركزيًا في عمل الحكومة، كونه يدافع عن "المصلحة العامة" وسيادة القانون، حتى لو كان ذلك مخالفًالموقف الحكومة أو أجندتها السياسية. مثلا، في عام 2017 رفض المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية، أفيحاي مندلبليت، قانون "تنظيم الاستيطان" الذي أقرّته حكومة سابقة لنتنياهو عبر تشريعه في الكنيست، ويتضمن تشريع مصادرة الأراضي الفلسطينية الخاصة في الضفة الغربية. وأكد مندلبليت أن القانون ينتهك القانون الدولي، بما في ذلك اتفاقية جنيف الرابعة، ويهدد مكانة المحكمة العليا والدستور الإسرائيلي. لم يكن موقف المستشار القضائي في حينها موقفًا مبدئيًا معارضًا لفكرة الاستيطان في الأرض المحتلة، وإنما كان موقفًا قانونيًا يدعو إلى مراعاة القانون الدولي وحقوق الملكية الخاصة للفلسطينيين أثناء توسع الاستيطان! رفض مندلبليت تمثيل الحكومة أمام المحكمة العليا التي راحت تنظر في قانونية هذا التشريع الجديد، وحتى أنه دعم الطعون ضد موقف الحكومة ووقف إلى جانب المعارضين للقرار، مما ساهم لاحقًا في قيام المحكمة العليا بإبطاله. وعليه، للنائب العام تأثير كبير على نشاطالحكومة، حيث يعتبر رأيه ملزمًا قانونيًا طالما لم يصدر حكم قضائي يتعارض معه. في بعض الحالات، لا يمكن للحكومة التصرفدون موافقته، الأمر الذي يثير أحيانًا جدلًا حول حدود سلطته وطريقة عمله.
- المستشار القضائي للحكومة: حامي "الديمقراطية"؟
يخلق المستشار القضائي للحكومة آلية داخلية للمساءلة تحد من سطوة السلطة التنفيذية وتضبط نظام الحكم وفق "الروح الديمقراطية الليبرالية" التي ترى بالقانون حَكمًا نهائيًا في النزاعات، بدلًا من ترك المصير السياسي للدولة بأيدي القادة السياسيين أو الأيديولوجيين. وعليه، يمثل المستشار القضائي في إسرائيل ضمانة حيوية ضد إساءة استخدام السلطة، معبّرًا عن مفهوم "السلطة القانونية العقلانية" لماكس فيبر، حيث يتم إلزام الحوكمة بقيود سلطة القوانين. ويعكس تركيز المهام القانونية المتعددة في يد فرد واحد (أي المستشار/ة القضائيـ/ـة) الطابع الفريد للنظام السياسي والقانوني الإسرائيلي، والذي يعتبر، كنظام حكم، صاحب إرث قانوني حديث نسبيًا ولا يزال في "مرحلة التعلم".
لكن لا بد من وضع "النظام الديمقراطي الإسرائيلي" في إطاره الاستعماري الاستيطاني، الذي يستوجب فهم دور المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية باعتباره "حارس التخوم الديموقراطية" على مستويين متظافرين:
- يُرافق المستشار القضائي عمل حكومة استعمارية تسيطر على أراضٍ خارج نطاق سيادتها المعترف بها دوليًا (مثل القدس الشرقية، الضفة الغربية، قطاع غزة، هضبة الجولان، ومزارع شبعا اللبنانية). في هذا السياق، يعمل على صياغة وتبرير القرارات والسياسات الحكومية في الأراضي المحتلة بما ينسجم ظاهريًا مع الخطاب القانوني الدولي، مع السعي للحفاظ على ما يُطلق عليه "الطابع الديمقراطي" للدولة. على سبيل المثال، قام المستشار القضائي الأسبق، مئير شمغار، بدور بارز في إعادة تشكيل الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بما يتماشى مع الخطاب القانوني الدولي. استطاع شمغار من خلال وضع الإطار القانوني الذي اعتمد على قوانين الطوارئ البريطانية وسياقات القانون الدولي الإنساني، أن يمنح الاحتلال الإسرائيلي مظهرًا قانونيًا يتجنب المواجهة المباشرة مع القانون الدولي، مع الحفاظ على سيطرة إسرائيل الكاملة على الأرض المحتلة. لقد كان عمله نموذجًا لكيفية استخدام القانون ليس فقط كأداة للحكم، بل كوسيلة لإضفاء الشرعية على مشروع استعماري في أعين المجتمع الدولي، مما يعكس التوتر الدائم بين الالتزام المعلن بالديمقراطية وتطبيق السياسات الاستعمارية.
- يعمل المستشار القضائي للحكومة في إسرائيل في دولة يهودية تقوم على الفصل العنصري، حيث تُختزل الديمقراطية في كونها ديمقراطية لليهود فقط، مستثنيةً الفلسطينيين من المساواة الحقيقية. يُعامل الفلسطينيون داخل "الخط الأخضر" كمواطنين شكليين، لكن المستشار القضائي يلعب دورًا محوريًا في تحويل السياسات القمعية إلى قوانين دستورية تُعزز هذا النظام التمييزي. على سبيل المثال، دعَم أفيخاي ماندلبليت، أثناء توليه المنصب، قانون الدولة القومية اليهودية عام 2018، متجاهلًا الانتقادات الواسعة التي أشارت إلى أنه يُكرس التمييز ضد الفلسطينيين. برّر ماندلبليت القانون أمام المحكمة العليا، معتبرًا أنه يعكس رؤية الدولة اليهودية دون تناقض مع الدستور. علاوةً على ذلك، تبرز قوانين مثل "لجان القبول" التي تسمح للمجتمعات اليهودية برفض الفلسطينيين كأعضاء داخل المجالس السكنية اليهودية، الدور الواضح للمستشار في هندسة نظام قانوني يبدو شرعيًا لكنه يرسّخ الهيمنة اليهودية والإقصاء الممنهج للفلسطينيين.
- ومع ذلك، لماذا يريد اليمين المحافظ في إسرائيل تغيير دور المستشار القضائي؟
في إسرائيل، ثمة صراع داخلي بين تيارات اليمين الجديد المحافظة (والتي يتزايد نفوذها جراء هيمنتها على الحقل السياسي-الحزبي) والتيارات الليبرالية-الدولاتية (التي وإن قلّت حظوظها في الساحة السياسية-الحزبية فإنها لا تزال تتموضع في مؤسسات الدولة العميقة). وحسب د. هنيدة غانم، يمثل اليمين الجديد المحافظ مجموعة من "المستعمرين المستجدين" (الشرقيين، الحريديم، الصهيونية الدينية، التيارات الشعبوية) الذين يركزون على القومية اليهودية، والتفوق الاستيطاني، وحسم الصراع عبر سيادة شاملة بين البحر والنهر، في ظل مساعي حثيثة لزيادة سطوة السلطات التنفيذية وتقليل حضور السلطات القضائية و"حراس التخوم" الديمقراطيين في العمل السياسي، بينما يمثل التيارات الليبرالية-الدولاتية مَن يمكن تسميتهم "المستعمرون المؤسسون" (أي، النخبة الأشكنازية العلمانية السيارية التي قادت المشروع الصهيونية في عقوده التأسيسية الأولى) وهم نخب تعتبر تاريخيًا ملتزمة بالمعايير الدولاتية وسيادة القانون، والقيم الديمقراطية-الليبرالية.
وقد عبر الكاتب والصحافي اليميني إيريز تدمور (Erez Tadmor) عن الصراع في إسرائيل في كتابه "لماذا نصوت لليمين ونحصل [في النهاية على ممارسات] يسارية"؟،[1] في إشارة صريحة إلى حاجة اليمين الجديد المحافظ إلى تغيير شكل النظام الحاكم في إسرائيل. الفصل الأكثر وضوحًا لهذا الصراع ظهر في النصف الأول من العام 2023 مع بدء الائتلاف اليميني المحافظ بتنفيذ خطة "إصلاحات قضائية شاملة"، الأمر الذي دفع مئات الآلاف إلى النزول إلى الشوارع والتظاهر في مشهد بدا فيه المجتمع الإسرائيلي أمام انقسام ليس فقط "سياسي-أيديولوجي"، وإنما أيضًا أمام انقسام أعمق يتعلق بشكل نظام الحكم، ومفاهيم الممارسة "الديمقراطية"، ومبادئ الفصل بين السلطات، وقدرة مؤسسات الدولة العميقة (وهي مؤسسات تعتبر "حامية" لسيادة القانون لكنها غير منتخبة) على تقليص سطوة الحكومة (وهي السلطة التنفيذية المنتخبة من الجمهور).
في إسرائيل، يُعتبر المستشار القضائي للحكومة أحد الركائز الأساسية لحماية القيم النيوليبرالية والديمقراطية، وهو إفراز مباشر لتوجهات ورؤى التيارات الصهيونية المؤسِسة للدولة التي تتسم بطابعها العلماني والدولاتي، مع احترامها لسيادة القانون والقيم الليبرالية الغربية الحداثية. يلعب المستشار دورًا محوريًا كصمام أمان يضمن الحفاظ على توازن السلطات الثلاث في الدولة، بحيث يخضع أداء السلطة التنفيذية لضوابط تستند إلى القيم الليبرالية التي وضعها المؤسسون. يُعتبر هذا الدور بالغ الأهمية لمنع السلطة التنفيذية من فرض أجندة (حتى لو كانت مدعومة من الأغلبية) تتعارض مع المبادئ الأساسية التي قامت عليها الدولة. في سياق الصراع بين اليمين الجديد المحافظ والتيارات الليبرالية-الدولاتية، يمثل المستشار القضائي جزءًا من مؤسسات الدولة العميقة التي تسعى لضبط اندفاع الحكومة نحو سياسات تقوّض الفصل بين السلطات أو تعزز أجندة قومية وشعبوية قد تهدد الطابع الديمقراطي لهيكل النظام.
- خطة اليمين الجديد المحافظ لتقليص صلاحيات المستشار القضائي للحكومة
خطة "الإصلاح القضائي" في إسرائيل هي مشروع باشر به الائتلاف الحكومي بقيادة أحزاب اليمين الجديد والحريديم والصهيونية الدينية (حكومة إسرائيل الـ 37)، وتهدف إلى تقليص صلاحيات السلطة القضائية وزيادة هيمنة السلطة التنفيذية. تتضمن الخطة تغييرات جوهرية مثل: تقييد قدرة المحكمة العليا على إبطال القوانين، ومنح الحكومة سيطرة أكبر على تعيين القضاة.[2] نظريًا، تعكس الخطة صراعًا بين قيم الديمقراطية الليبرالية التي تقوم على الفصل بين السلطات، وبين النزعة الشعبوية التي تسعى لتعزيز سيادة الأغلبية السياسية. عمليًا، تدفع الخطة نحو تقويض التوازن المؤسسي وإضعاف أدوات المراقبة القانونية، مما يعزز نزعات التسلط داخل النظام الإسرائيلي ويزيد من هشاشة "الديمقراطية".
وشملت خطة "الإصلاح القضائي" بنودًا لتغيير دور المستشار القضائي للحكومة الإسرائيلية ومسؤولياته من خلال فصل المسؤولياتالاستشارية والنيابة والرقابة إلى هيئات/مكاتب منفصلة، وبالتالي إضعاف تركيز السلطة القانونية التي كانت تاريخيًا مركزة في منصب واحد. تهدف هذه الخطوة إلى تحديد نطاق سلطة المستشار، والحدّ من قدرته على الإشراف بشكل مستقل على الإجراءاتالحكومية والحدّ منها.
جادلت الحكومة، التي تهيمن عليها الأحزاب اليمينية والدينية، بأن صلاحيات المدعي العام الواسعة تقوض إرادة الأغلبية المنتخبة، بحيث أن دور المستشار بات مفرطًا في التدخل بدوافع سياسية لا تعبر عن رغبة الأغلبية المنتخبة، مما يحد من قدرة الحكومة علىتنفيذ السياسات التي انتخبت لأجلها، الأمر الذي يقوض مفهوم الديمقراطية الحقيقية باعتبارها "سلطة الشعب". وعليه، تدعي حكومة نتنياهو المحافظة بأن تفتيت أدوار المستشار القضائي وتوزيعها على هيئات منفصلة عدة يقع في صميم العمل الديمقراطي لأنه يعيدسلطة صنع القرار للمسؤولين المنتخبين، وليس لهيئات قانونية عابرة لتداول السلطات، مما يعكس الإرادة الشعبية. وقد اعتبر اليمين الجديد المحافظ أن الأدوار المتعددة التي تحظى بها سلطة المستشار القضائي للحكومة هي من بقايا "النخبة المؤسسة" التي أعطتالأولوية للقيم الليبرالية والغربية والعلمانية. وجادلوا بأن المستشار يمثل بشكل غير متناسب مصالح القضاء والمؤسسة الليبرالية بدلًامن الحكومة المنتخبة.
من جهة أخرى، اعتبر المعارضون أن خطة "الإصلاح القضائى" تعتبر بمثابة هجوم مباشر على الضوابط والتوازنات الديمقراطيةفي إسرائيل، وتسييس لعملية الاستشارة القانونية بحيث تكون أكثر انصياعًا لأجندة الحكومات اليمينية بدلًا من انضباطها وفق مبادئ وقيم ليبرالية غربية.
أصبح رد الفعل العام على خطة الإصلاح القضائي موضوعًا مشتعلًا في الاحتجاجات الشعبية في إسرائيل، خصوصًا في النصف الأول من العام 2023، حيث نزل مئات الآلاف من الإسرائيليين إلى الشوارع، معتبرين هذه الإصلاحات جزءًا من جهد منهجي لتفكيكاستقلال القضاء و"تخريب" دولة إسرائيل التي بناها المؤسسون وفق مبادئ سيادة القانون.
- تفاقم الخلافات بين اليمين الجديد الحاكم وسلطات المستشارة القضائية للحكومة خلال 2023-2024
تُظهر النزاعات المتصاعدة بين حكومة نتنياهو الـ 37 والمستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف-مئيرا (بدأت ولايتها بتاريخ 7 شباط 2022، في فترة حكومة بينيت-لابيد)، انقسامات عميقة في النظام الديمقراطي الإسرائيلي. تتراوح هذه النزاعات بين الإصلاحات القضائية والتعيينات المثيرة للجدل إلى القضايا الأمنية والقانونية الكبرى، مما يعكس تآكلًا تدريجيًا لاستقلال المؤسسات القانونية في مواجهة الممارسات التنفيذية الشعبوية، وفي ما يلي أبرزها:
- الإصلاحات القضائية
اقترحت حكومة نتنياهو إصلاحات واسعة تهدف إلى تقليص استقلال القضاء الإسرائيلي. كان من أبرز البنود تقليص سلطة المستشارة القضائية للحكومة، بما في ذلك حصر دورها كمستشارة غير ملزمة وتعيين مستشارين قانونيين من قِبل الوزراء مباشرة. عارضت المستشارة القضائية هذه التعديلات، مؤكدة أن الحد من استقلاليتها سيضعف الرقابة القانونية على أعمال الحكومة، مما يهدد مبدأ سيادة القانون.
- التعيينات القضائية
شهدت الحكومة نزاعات حول تعيين شخصيات في مناصب قانونية، مثل المستشارين القانونيين للوزارات ورئيس النيابة العامة.رفضت المستشارة القضائية للحكومة العديد من التعيينات بحجة تضارب المصالح أو عدم كفاءة المرشحين معتبرة أن "التعيينات يجب أن تتماشى مع معايير أخلاقية ومهنية صارمة"، وهو ما اعتبرته الحكومة محاولة لتقييد سلطتها التنفيذية. في 4 تشرين الثاني 2024، وفي اجتماع مجلس الوزراء، انتقد رئيس الوزراء نتنياهو ووزراء آخرون بشدة المستشارة القضائية للحكومة زاعمين أن نهجها كانتصادميًا ويجعل من الصعب على الحكومة العمل. طلب نتنياهو من وزير العدل ليفين اقتراح حلول، بينما دعا بن غفير إلى إقالتها.[3]
- الممارسات الشعبوية للسلطة التنفيذية في إسرائيل
في 14 تشرين الثاني 2024، دعت المستشارة القضائية رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لإعادة النظر في منصب إيتمار بن غفير كوزير الأمن القومي، مشيرة إلى أن تدخلاته المزعومة تضر باستقلالية الشرطة وتخضعها للمصالح السياسية بدلًا من الجمهور.[4]وفي 5 كانون الأول 2024، واصل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير انتقاده الشديد للمستشارة القانونية للحكومة قائلا إنها تتصرفمن دوافع سياسية، واتهمها بعرقلة مبادراته في مجالي الأمن وسياسة الاعتقال.[5] تعمل الحكومة الإسرائيلية على إجبار المستشارة القضائية للحكومة تقديم استقالتها على خلفية معارضتها للتحركات الحكومية التي تضر بمبادئ الديمقراطية والخدمة العامة.[6]
- الاستيطان في الضفة الغربية
نشبت خلافات بين الحكومة والمستشارة القضائية للحكومة حول مدى شرعية قرارات تنفيذية تتعلق بمصير الأرض المحتلة، وشرعنة بؤر مقامة على أراضي فلسطينية خاصة. انتقدت المستشارة هذه القرارات واعتبرتها تجاوزًا للصلاحيات، خاصة تلك المتعلقة بالضفة الغربية وبناء المستوطنات. أدى ذلك إلى تصعيد التوتر بين المؤسستين، مع اتهامات من الحكومة للمستشارة بعرقلة عملها.
- مشاريع القوانين المثيرة للجدل
تضمنت مشاريع القوانين المثيرة للجدل قوانين تمنح الوزراء صلاحيات أكبر على المستشارين القانونيين للوزارات. عارضت المستشارة هذه القوانين، مشيرة إلى أن تقويض استقلال المستشارين القانونيين سيخلق بيئة تفتقر للرقابة القانونية. أدى ذلك إلى تصعيد الاحتقان السياسي والقانوني في إسرائيل، مع احتجاجات قانونية وأكاديمية ضد هذه المشاريع. في مثال آخر، في آب 2024، هاجم وزير المالية بتسلئيل سموتريتش المستشارة القضائية للحكومة لقرارها وقف دعم دور الرعاية النهارية للعائلات الأرثوذكسيةالمتشددة، وادعى أن القرار يضر باندماج النساء الأرثوذكسيات المتشددات في سوق العمل، ويتناقض مع سلطة المستشارة، وطالبهابإلغائه فورًا.[7]
- رفض تمثيل الحكومة أمام المحاكم
في حالات عديدة، رفضت المستشارة تمثيل الحكومة في المحكمة العليا بسبب اعتقادها أن مواقفها تخالف القانون. في قضية متعلقة بقانون تنظيم الاستيطان، أعلنت المستشارة رفضها الدفاع عن القانون أمام المحكمة العليا لأنه "ينتهك القانون الدولي ويعرض إسرائيل للمساءلة أمام المحكمة الجنائية الدولية". في المقابل، قامت الحكومة بتوكيل محامين خارجيين، مما أثار جدلًا واسعًا حول حدود سلطة المستشارة.
- التحقيق المتعلق بهجوم 7 أكتوبر
في 4 كانون الأول 2024، دعت المستشارة القضائية للحكومة إلى إنشاء لجنة وطنية عامة ومستقلة للتحقيق في أحداث 7 أكتوبر،مشددة على أهميتها في منع الإخفاقات المستقبلية واستخلاص الدروس. الحكومة تؤجل النقاش حول هذه القضية، بينما يعارض نتنياهوتدخل المحكمة العليا ويسعى لنقل سلطة اللجنة إلى رئيس الدولة، أو تشكيل لجنة تحقيق حكومية (يمكن أن تتقاطع مخرجات اللجنة مع رغبات السلطات الحاكمة).[8]
- الآثار المحتملة للصراع المتصاعد بين الحكومة والمستشارة القضائية
الخلاف بين الحكومة اليمينية المحافظة ومكتب المستشارة القضائية للحكومة لا يزال مستمرًا ويحمل عواقب مفتوحة تعتمد على توازنات القوى، مع حضور الانقسامات الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية في خلفية المشهد، مما يكشف بوضوح التوترات الهيكلية في إسرائيل. ويمكن قراءة السيناريوهات المستقبلية على النحو التالي:
أولًا: في حال نجاح اليمين في تقليص دور المستشار القضائي
- سيتم إضعاف أسس الديمقراطية الإسرائيلية عبر تقويض الفصل بين السلطات وتحويل المستشار القضائي إلى أداة تنفيذية بيد الحكومة.وبالتالي، فقدان الرقابة القانونية المستقلة سيؤدي إلى تعزيز نزعات استبدادية شعبوية، حيث تصبح سياسات الحكومة بعيدة عن المحاسبة أو الضوابط.
- سيتم تسريع تمرير سياسات شعبوية أكثر قسوة، مثل تضييق الحريات العامة، تعزيز خطاب الكراهية ضد الفلسطينيين، وتقوية القوانين العنصرية، ما يعكس تراجعًا أخلاقيًا وقانونيًا على المستوى الداخلي والدولي.وعليه، من المحتمل تزايد التمييز ضد الفلسطينيين مواطني الداخل، مع تشريع سياسات وقوانين تعمق الفصل العنصري وتعزز سياسات الإقصاء. وستُمنح السلطات التنفيذية صلاحيات مطلقة لتطبيق قوانين تقيد الحريات المدنية وتدعم الإقصاء الممنهج.
- التسريع في شرعنة البؤر الاستيطانية المقامة على الأراضي الفلسطينية الخاصة بسهولة أكبر.
ثانيًا: في حال فشل الحكومة في تقليص دور المستشار القضائي
- سيزداد الانقسام بين السلطات التنفيذية والقضائية، مما يؤدي إلى حالة من الشلل المؤسسي وعدم القدرة على اتخاذ قرارات فعالة.وقد تتصاعد حدة النزاعات بين التيارات السياسية، مما يعرقل عمل الحكومة ويعمق أزمة الشرعية السياسية.
- ستُضعف الخلافات الثقة العامة في المؤسسات، مع اتهامات متبادلة بين الحكومة والقضاء، مما يعزز من شعور الإسرائيليين بعدم استقرار النظام السياسي والقانوني.وسيؤدي استمرار الخلافات إلى انقسام مجتمعي أكبر بين مؤيدي اليمين المحافظ والتيارات الليبرالية، مما يهدد الاستقرار الداخلي ويعيد مظاهرات الاحتجاج الى الشارع (وهي كانت توقفت بعد هجوم 7 أكتوبر واندلاع الحرب).
- استمرار الخلافات قد يؤدي إلى تعطيل التشريعات المتعلقة بالاستيطان مما قد يزيد من سخط المستوطنين على مؤسسات الدولة وتصاعد إرهابهم في الأرض المحتلة كبديل لانعدام قدرة الحكومة المُنفلتة على المضي في تهويد الأرض المحتلة.
المراجع والهوامش
[1] إيريز تدمور كاتب وصحافي يميني متطرف معروف بآرائه المحافظة، أسس حركة "إم ترتسو" ونشر كتباً تروج لخطاب مناهض للتيار اليساري والسياسات الفلسطينية. عمل كمستشار لنتنياهو وقدم انتقادات لاذعة للقضاء الإسرائيلي، متّهماً إياه بتسييس القرارات. يدافع عن الليبرالية الاقتصادية وينتقد التخطيط الاقتصادي المركزي، كما يدعو لتشديد الإجراءات ضد الفلسطينيين. أثار جدلاً بكتاباته مثل "نكبة؟ هراء"، الذي ينفي الرواية الفلسطينية حول النكبة، ويروج لأجندة قومية صهيونية. سعى لدخول الكنيست عن حزب الليكود لكنه لم ينجح.
[2] أنطوان شلحت، "المشهد السياسي الحزبي"، في تقرير مدار الاستراتيجي 2023: المشهد الإسرائيلي للعام 2022 (تحرير) هنيدة غانم (رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار)، ص: 47-66.
[3] شيريت كوهن، "نتنياهو ضد المستشارة القضائية في اجتماع الحكومة: "هي ضدنا""، في إسرائيل هيوم، بتاريخ 4 تشرين الثاني 2024. انظر/ي: https://www.israelhayom.co.il/news/politics/article/16718100
[4] انظر/ي الكتاب الرسمي الموقع من قبل المستشارة القضائية على الرابط التالي: https://z.calcalist.co.il/assets/pickerul/3644f6a8-76f5-4192-81d8-963db385ce0e.pdf
[5] القناة 7، "ستكون هناك أغلبية مطلقة من الوزراء لصالح إقالة المستشارة القضائية"، في القناة 7، بتاريخ 5 كانون الأول 2024. انظر/ي: https://www.inn.co.il/news/655298 .
[6] موشيه غورالي، "لغة الحكومة البيباوية في طريقها الى تحييد المستشارة القضائية"، في صحيفة كالكاليست، بتاريخ 4 تشرين الثاني 2024. انظر/ي: https://www.calcalist.co.il/local_news/article/bkhwzk811yx
[7] يهودا شلزينغر، "سموتريتش للمستشارة القضائية: "أنا مسؤول - وقررت مواصلة الدعم لمراكز الرعاية النهارية"، في إسرائيل هيوم، بتاريخ 18 آب 2024، انظر/ي: https://www.israelhayom.co.il/news/politics/article/16275047
[8] حان معنيت، "المستشارة القضائية: على الحكومة اتخاذ قرارات في أقرب وقت ممكن بشأن إنشاء لجنة تحقيق وطنية ليوم 7 أكتوبر"، في هآرتس، بتاريخ 4 كانون الأول 2024، انظر/ي: https://www.haaretz.co.il/news/politics/2024-12-04/ty-article/.premium/00000193-92f7-d6ba-afdb-9bff29bc0000
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, الصهيونية, الخط الأخضر, بتسلئيل, هآرتس, تهويد, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو