تقدير موقف

تقرأ وتحلل قضايا مستجدة وتستشرف آثارها وتداعياتها سواء على المشهد الإسرائيلي او على القضية الفلسطينية.
  • تقدير موقف
  • 2344
  • المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار

في العام 2019 أعلنت إدارة ترامب أنها لا تعتبر الاستيطاان غير شرعي، وأن الضفة الغربية والقدس متاحة لكلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. يُعرف هذا الإعلان بـ "إعلان بومبيو" (على اسم وزير خارجية إدارة ترامب). في شباط 2024، ألغت إدارة بايدن "إعلان بومبيو" وعادت لتعلن بأن المستوطنات هي غير شرعية. ومنذ صعود اليمين الإسرائيلي لأول مرة إلى الحكم عام 1997، شكّل هذان الحدثان (أي إعلان بومبيو في 2019 وإلغاءه في 2024) محطتين بارزتين ضمن خوض الولايات المتحدة النادر في "شرعية" أو "قانونية" الاستيطان. ما دون ذلك، تجنّبت الولايات المتحدة النقاش القانوني ورأت في الاستيطان مجرد "عقبة أمام السلام". ورقة تقدير الموقف الحالية تستعرض تفاعلات مسألة الاستيطان داخل الإدارات الأميركية منذ ولاية الرئيس كارتر (1977-1981) وحتى ولاية الرئيس بايدن (2021-اليوم).

  تشمل الورقة خمسة محاور: المحور الأول يتناول موقفين متناقضين لكل من كارتر الديمقراطي ثم ريغن الجمهوري، أصبحا بمثابة مرجعيات للإدارات الأميركية اللاحقة حول قانونية الاستيطان. المحور الثاني يستعرض سياسة الولايات المتحدة الخارجية في ما يتعلق بقضية الاستيطان سواءً على صعيد الموقف الرسمي، أو التدخل الفعلي، أو حماية إسرائيل من الإدانة في مجلس الأمن. المحور الثالث يلخص "إعلان بومبيو" للعام 2019. المحور الرابع يقدم قراءة في الظروف التي واكبت إلغاء إدارة بايدن لـ "إعلان بومبيو" في 24 شباط 2024. المحور الخامس والأخير يقدم قراءة تحليلية في مدلول هذا الإلغاء، وما إذا كان يعكس تحولات في السياسة الخارجية الأميركية.

أولاً: "قانونية" المستوطنات الإسرائيلية من وجهة نظر الولايات المتحدة

بدأت مسألة الاستيطان الإسرائيلي تشغل حيزاً في سياسات الولايات المتحدة وتصريحاتها في نهاية عقد السبعينيات (1976-1979). في هذه الفترة بدأت المستوطنات الإسرائيلية تتطور بشكل متسارع، خصوصاً بعد صعود اليمين الإسرائيلي للحكم أول مرة عام 1977 (حكومة مناحيم بيغن).[1] ولفهم الموقف الأميركي من الاستيطان، عادة ما يتم الرجوع إلى الأعوام 1979-1981، حيث برز موقفان متناقضان لكلٍ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهي مواقف لا يزال الحزبان يستحضرانها حتى اليوم. بيد أن هذه المواقف كانت تعتبر على الدوام بمثابة آراء استشارية أو توجهات عامة وليست جزءاً من السياسة الخارجية الرسمية.

الحزب الديموقراطي: في العام 1978، وضع هربرت هانسيل (Herbert J. Hansell)، وهو المستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية في فترة إدارة جيمي كارتر (1977-1981)، مذكرة قال فيها إن المستوطنات "لا تتفق مع القانون الدولي"، وتتعارض مع المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة. وركز هانسيل على المستوطنات اليهودية المدنية (لتميُّزها عن مصادرة الأراضي لغايات عسكرية أو أمنية). يستند هذا الرأي القانوني إلى أن التواجد الإسرائيلي في الأرض المحتلة هو "احتلال عسكري" مؤقت (belligerent occupation)، مما يعني، ضمنياً على الأقل، أن ممارساته تخضع للقانون الدولي الذي يمنع نقل سكان من الدولة المحتلة إلى الأراضي التي تم احتلالها مؤقتاً.  كما أن هذا الرأي يمكن أن يُفهم على أنه يتبنى قرار 242.

الحزب الجمهوري: لكن قرار 242، تم تفسيره من قبل رئيس الإدارة الأميركية التالي، أي رونالد ريغن (1981-1989)، بشكل مختلف. بعد ثلاثة أعوام من رأي هانسيل، أعلن ريغن في العام 1981 بأنه "لا يعتقد أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية هي أمر غير قانوني". حسب ريغن، فإن قرار الأمم المتحدة 242 يطلب من إسرائيل الانسحاب من "أراضٍ" تم احتلالها عام 1967 (وهذا هو النص الإنجليزي للقرار)، وليس من "الأراضي المحتلة" (بمعنى كل الأراضي)، الأمر الذي يجعل من الأرض المحتلة (أي الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة وهضبة الجولان) حيزاً متاحاً لكل الأطراف إلى حين الوصول إلى تسوية. بالإضافة إلى كون إدارة ريغن مناصرة لإسرائيل، فقد جاء موقفها في سياق الحرب الباردة، واعتبارها إسرائيل "حصناً" ضد التطرف والنفوذ السوفييتي في الشرق الأوسط. ساهم موقف ريغن، بشكل غير مباشر، من تعزيز قبضة إسرائيل على الضفة الغربية وقطاع غزة، وخلال ولايته ارتفع عدد المستوطنين في الضفة الغربية وحدها بنحو 450٪ ليصل إلى 73 ألفاً في العام 1989.
1

 

ثانياً: قضية الاستيطان في سياسة الولايات المتحدة الخارجية

بغض النظر عن المواقف الاستشارية حيال شرعية/عدم شرعية الاستيطان، فإن سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية المتعلقة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني بشكل عام، وبقضية الاستيطان بشكل خاص، لا تستند إلى مبادئ الشرعية الدولية (أي حقوق الفلسطينيين وواجبات القوة المحتلة حسب القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية)، بل إنها تستند إلى مفهوم "العملية السلمية"، وكون التفاوض هو الأداة الوحيدة للوصول إلى تسوية. وعليه، تتلخص ممارسات الخارجية الأميركية في ما يخص الاستيطان في ثلاثة مستويات:

1) مستوى الموقف الرسمي: منذ تبنيها عمليةَ السلام، اعتادت الولايات المتحدة الاعتراض على الاستيطان الإسرائيلي ووصفه بـ "عقبة أمام السلام". ينطلق الاعتراض من أن توسع الاستيطان قد يفرض حقائق على الأرض من شأنها أن تعرقل العلمية السلمية أو تجعلها أكثر تعقيداً. حتى أن كارتر الذي يعتبر موقفه الاعتراضي مرجعاً للديمقراطيين، صرح في العام 1980 بأنه على الرغم من معارضة الولايات المتحدة للاستيطان فإنها "لا تعتبر تفكيكه أمراً عملياً أو مناسباً، بل إن مصير المستوطنات يجب أن يتحدد فقط عبر المفاوضات".

وعلى الرغم من أن موقفها كان على الدوام معارضاً للاستيطان باعتباره عقبة أمام السلام، فإن هناك مرحلتين اثنتين أعلنت خلالهما الولايات المتحدة أنها لا تعترض على الاستيطان وأنها لا تراه غير شرعي. إضافة إلى موقف ريغن في بداية الثمانينيات، كانت الفترة الثانية والأهم في النصف الثاني من ولاية ترامب، عندما أعلن وزير خارجيته بومبيو في 2019 بأن الاستيطان لا يعتبر بحد ذاته غير شرعي. في 24 شباط 2024، عادت إدارة بايدن إلى الموقف الأول.

2) مستوى التدخل الفعلي: بشكل عام لم تستخدم الولايات المتحدة نفوذها، لمنع الاستيطان الإسرائيلي حتى خلال السنوات التي كانت تعتبره فيها عقبة أمام السلام. تستثنى من ذلك حالتان اثنتان حاولت فيهما تفعيل قوة ضغط حقيقة لمنع توسع الاستيطان، حدث ذلك فترةً وجيزة جداً قبل أن توقف ضغوطاتها (انظر/ي اللون الأحمر في الشكل 2). المرة الأولى كانت في العام 1990-1991، عندما عرقل جورج بوش الأب مدة أشهر قليلة طلباً إسرائيلياً للحصول على ضمانات قروض تساعد في استيعاب المهاجرين الروس الجدد والمطالبة بضمانات ألا يتم إسكانهم في مستوطنات الضفة الغربية والقدس. كان ذلك ضمن التحرك الأميركي بعد حرب الخليج الأولى والتحضير لانعقاد مؤتمر مدريد وإطلاق مفاوضات سلام. المرة الثانية كانت في العام 2009-2010، عندما مارست إدارة أوباما ضغوطا دبلوماسية تحضيراً لجولة مفاوضات بين بنيامين نتنياهو والرئيس محمود عباس، حيث أجبرت إسرائيل على التوقف التام عن التوسع الاستيطاني مدة 10 شهور لم تلتزم بها إسرائيل.

2

3) مستوى المحافل الدولية: بشكل عام، شكل نفوذ الولايات المتحدة في مؤسسات الأمم المتحدة مصدر حصانة لإسرائيل من الإدانة، أو فرض العقوبات، أو القرارات الأممية المُلزمة. وقد ساهم هذا الدور، خصوصاً استخدامات حق النقض الفيتو، في توفير مناخ ملائم لتوسع الاستيطان حال دون قدرة المجتمع الدولي على تشكيل موقف أممي ملزم، أو على الأقل رادع للتوسع الاستيطاني.

3

منذ إقامة الأمم المتحدة عام 1945، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض 90 مرة كان آخرها في 20 شباط 2024 ضد مشروع قرار في مجلس الأمن يطالب بوقف الحرب على قطاع غزة. من بين الاستخدامات، كان هناك 45 فيتو (أي 50٪) لحماية إسرائيل من الانتقادات الدولية أو من صدور قرارات تدينها وتأثر عليها. ومن بين استخدامات الفيتو لحماية إسرائيل، كان هناك 33 استخداما من أصل 45 تتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة أو المستوطنات.

وفي مشاريع قرارات مجلس أمن أخرى، امتنعت الولايات المتحدة عن التصويت لصالح القرارات دون أن تستخدم حق النقض الفيتو. وعادة ما يفسر الامتناع على أنه موافقة ضمنية، قد تحمل رسائل سياسية: 

4

من الجدول أعلاه، نرى أن مندوب الولايات المتحدة صادق مرة واحدة فقط على قرار لمجلس الأمن يدين المستوطنات ويدعو إلى تفكيكها. جاء هذا التصويت في ظل إدارة كارتر (الذي صرح مستشار وزارة خارجيته هانسيل بأن المستوطنات تعتبر غير قانونية). ومع ذلك، تراجعت الولايات المتحدة عن هذا التصويت،[1] بل إن كارتر وجد أنه لا بد من عقد مؤتمر صحافي والتوضيح بأنه "مع أن الولايات المتحدة تعارض إنشاء مستوطنات مدنية لليهود في الأرض المحتلة، فإنها لا تدعو إلى تفكيكها. بل إن تفكيك المستوطنات يعتبر أمراً غير مناسب وغير عملي... وأن مصير المستوطنات يتحدد فقط من خلال المفاوضات".

 

ثالثاً: ما هو إعلان بومبيو 2019؟

في نهاية ولاية إدارة أوباما (2009-2017)، صرح وزير الخارجية جون كيري بأنه ملتزم باستخلاصات رئيس الإدارة الأميركية السابق، كارتر، باعتبارها مرجعية في إشارتها للمستوطنات الإسرائيلية بأنها لا تتفق مع القانون الدولي. ومع دخول ترامب إلى البيت الأبيض، قال وزير الخارجية الجديد، بومبيو، بأن الولايات المتحدة سوف تقلب رأساً على عقب سياسة أوباما (المستندة إلى نهج كارتر 1978)، وسوف تتبنى موقفاً مختلفا كلياً حول شرعية المستوطنات الإسرائيلية، يستند إلى رؤية ريغن 1981.

وقد بات هذا الإعلان (18 تشرين الثاني 2019) يعرف باسم "إعلان بومبيو". وحسب بومبيو، فإن الإدارة الأميركية في ولاية ترامب ترى (النقاط أدناه اقتباس حرفي من إعلان بومبيو):

  1. أن النشاط الاستيطاني غير المقيد يمكن أن يكون عقبة أمام السلام، لكن [إدارة ترامب تدرك] بحكمة أن الخوض في المواقف القانونية لا يعزز السلام... [و] بعد دراسة متأنية لجميع جوانب النقاش القانوني، تتفق هذه الإدارة مع الرئيس ريغن. إن إنشاء مستوطنات مدنية إسرائيلية في الضفة الغربية لا يتعارض في حدّ ذاته مع القانون الدولي.
  2. القانون الدولي لن يؤول إلى نتيجة ما، ولا يخلق أي عقبة قانونية أمام التوصل إلى حلّ عن طريق التفاوض.... الحقيقة المرة هي أنه لن يكون هناك أبداً حل قضائي أو قانوني للصراع [بمعنى أن البت في مصير الأرض المحتلة لا يعتبر نقاشاً قانونياً وإنما نقاش تفاوضي بغض النظر عن قانونيته] ... الحجج حول من هو على صواب ومن هو على خطأ كمسألة تتعلق بالقانون الدولي لن تجلب السلام. وهذه مشكلة سياسية معقدة لا يمكن حلها إلا بالمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
  3. لا تزال الولايات المتحدة ملتزمة التزاماً عميقاً بالمساعدة في تسهيل السلام... وتشجع الولايات المتحدة الإسرائيليين والفلسطينيين على حل وضع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية في أي مفاوضات بشأن الوضع النهائي. وعلاوة على ذلك، نشجع كلا الجانبين على إيجاد حل يعزز أمن الفلسطينيين والإسرائيليين ورفاهيتهم [في الضفة الغربية] على حد سواء".

وهنا لا بد من الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية تتعلق بإعلان بومبيو. يستند رأي إدارة ترامب بشأن "شرعية" المستوطنات الإسرائيلية المدنية إلى "احترام وتقدير" أميركي لمكانة المحكمة العليا الإسرائيلية على اعتبار أن إسرائيل هي دولة ديمقراطية تحترم حرية الإنسان وكرامته في قوانينها الأساس. ولا بد من التذكير بأن المحكمة العليا الإسرائيلية جمدت في العام 2017 العمل بتشريع كنيست تمت المصادقة عليه في السنة نفسها يرمى إلى تسوية أوضاع البؤر الاستيطانية وشرعنتها. وحسب قرار المحكمة، فإن هذه التسوية تتعارض مع قانون أساس حرية الإنسان وكرامته كونها تعتدي على الأملاك الفردية للفلسطينيين الذين يملكون أراضي خاصة تمت إقامة هذه البؤر على بعضها. وحسب بومبيو:

  1. يتيح النظام القانوني الإسرائيلي فرصة للطعن في النشاط الاستيطاني وتقييم الاعتبارات الإنسانية المرتبطة به. وقد أكدت المحاكم الإسرائيلية قانونية بعض الأنشطة الاستيطانية [وصادقت عليها وشرعنتها] وخلصت [المحاكم الإسرائيلية] إلى أن أنشطة [استيطانية] أخرى لا يمكن دعمها قانونياً [وبالتالي رفضت تسويتها].
  2. نحن ندرك أن الاستنتاجات القانونية المتعلقة [بالبؤر الاستيطانية المقامة على أراض فلسطينية خاصة]، يجب أن تعتمد على تقييم وقائع وظروف محددة على أرض الواقع، كما فعلت المحاكم الإسرائيلية التي رفضت تسويتها. لذلك، فإن حكومة الولايات المتحدة لا تعرب عن أي رأي بشأن الوضع القانوني لأي تسوية فردية [طالما أن إسرائيل لديها نظام قانوني محترم].

للمفارقة، استند "إعلان بومبيو" الذي تبنته الإدارة الأميركية الجمهورية المحافظة (ولاية ترامب)، إلى احترام ضمني للنظام القضائي الإسرائيلي الذي حاول نتنياهو هدمه بعد تشكيله الائتلاف اليميني الديني المتطرف في كانون الأول 2022. وللتذكير، تقع في صلب أجندة نتنياهو الذي يترأس هذا الائتلاف قضية "الإصلاحات القضائية" التي تنطوي على تجريد المحكمة الإسرائيلية العليا من العديد من صلاحياتها، وتقليص قدرتها على الاستناد إلى قانون أساس "حرية الإنسان وكرامته"- وهو أمر قد يعني أن إعلان بومبيو سيغدو فارغ المضمون. وللتوضيح، عندما أعلن بومبيو بأن المستوطنات المدنية بحد ذاتها لا تعتبر غير قانونية، فإنه كان يعود إلى دور المحكمة الإسرائيلية "المحترم" و"الذي لا جدال فقهيا حياله"، والذي يتيح المصادقة على الاستيطان المدني لليهود من خلال سياق قانوني شفاف، يسمح بتقديم اعتراضات قانونية من الفلسطينيين، ولا ينتهك حقوق الملكيات الفردية، وفي الوقت نفسه يتيح للإسرائيليين بناء مستوطنات شريطة عدم انتهاكها حقوق الفلسطينيين في الملكية الخاصة (بمعنى أنها تقام على أراضي دولة يسيطر عليها الجيش الإسرائيلي).

 

رابعاً: إلغاء إعلان بومبيو 2024

في 24 شباط 2024، ألغت إدارة بايدن "إعلان بومبيو" رداً على مصادقة إسرائيل على بناء 3344 وحدة استيطانية في الضفة الغربية المحتلة. وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بأن الولايات المتحدة "تشعر بخيبة أمل من الإعلان الإسرائيلي"، وأضاف: "لقد كانت سياسة الولايات المتحدة طويلة الأمد في ظل الإدارات الجمهورية والديمقراطية على حد سواء أن المستوطنات الجديدة تؤدي إلى نتائج عكسية للتوصل إلى سلام دائم...  كما أنها لا تتفق مع القانون الدولي. تحافظ إدارتنا على معارضة قوية للتوسع الاستيطاني. وفي تقديرنا، هذا يضعف فقط – ولا يعزز – أمن إسرائيل".

ولا بد من التشديد على ثلاث نقاط في إعلان بلينكن الجديد:

  1. هذه هي المرة الرابعة في تاريخ الولايات المتحدة التي يخرج فيها مسؤول أميركي رفيع بإعلان صريح بأن المستوطنات هي غير شرعية أو غير قانونية. ويمكن اقتباس ثلاثة سفراء أميركيين لدى الأمم المتحدة (وهو منصب رفيع من المفترض أن يعبر عن موقف وزارة الخارجية) صرحوا بأن المستوطنات "غير قانونية"، هم: جورج بوش الأب (لاحقاً، أصبح رئيساً) في 25 أيلول 1971، وويليام سكرانتون في 25 أيار 1976، بالإضافة إلى سامانثا باور في 23 كانون الأول 2016. ومع ذلك، لا يجب اعتبار الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأميركية، ووزارة خارجيتها، منسجم فعلاً مع هذا الموقف الاستشاري.

مع ذلك، أشار موقف الولايات المتحدة على الدوام إلى أن المستوطنات "عقبة أمام السلام" وكان البيت الأبيض ينأى بنفسه عن الخوض في شرعيتها حسب القانون الدولي، وقد قام بإطلاق هذا التصريح في ظل توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

  1. يمكن القول إن هذه التصريحات تأتي أيضا لاعتبارات انتخابية. فقد اتهم السناتور الأميركي توم كوتون بايدن بالعمل فقط على تلبية احتياجات الناخبين المؤيدين للفلسطينيين في ولاية ميشيغان المتأرجحة كجزء من حملة إعادة انتخابه.
  2. ومع ذلك، لا يمكن إهمال العلاقة المتوترة بين الولايات المتحدة وإسرائيل في الأسابيع السابقة. صحيح أن الولايات المتحدة دعمت إسرائيل عسكرياً ومالياً ودبلوماسياً في حربها على قطاع غزة، لكن يبدو أن حكومة نتنياهو لا تعير هذه الرعاية الأميركية احتراماً، ويبدو أن نتنياهو ماض في أجندته الحربية بدون أن يهتم بمطالبات الولايات المتحدة، أو حتى التبعات التي قد تلحق بصورة الولايات المتحدة في حال لم توقف الجرائم الإسرائيلية أو على الأقل تقلل من وحشية الحرب وانعكاساتها على المدنيين. وقد شهدت الأسابيع الماضية عدة تصريحات أميركية يمكن أن توضف بأنها "قرصة أذن" لإسرائيل التي تستمر بحربها بدون أن تحترم رأي الولايات المتحدة. مثلاً، فرضت إدارة بايدن عقوبات اقتصادية على أربعة مستوطنين متطرفين. ثم قام بايدن بتوبيخ نتنياهو مرات عدة، أو حتى بشتمه، في مؤتمرات صحافية. كما أن الولايات المتحدة أعلنت بأنها قد تعترف بدولة فلسطينية كجزء من ترتيباتها التي تأملها لليوم التالي للحرب.

لا بد من التنويه إلى أن إعلان إسرائيل بناء 3344 وحدة سكنية جديدة في المستوطنات سيتوزع على النحو الآتي: 2,350 وحدة سكنية إضافية لمعاليه أدوميم، 694 وحدة لمستوطنة إفرات، 300 وحدة لمستوطنة كيدار. 

لا بد من الإشارة إلى أن بومبيو الذي يعبر موقفه عن ترامب (مرشح الحزب الجمهوري المحتمل في الانتخابات الأميركية القادمة) عاد وكتب قبل أيام: "يهودا والسامرة هما جزءان شرعيان من الوطن اليهودي، وللإسرائيليين الحق في العيش هناك".

 

خامساً: هل نحن إزاء تحول في موقف الولايات المتحدة؟

في 28 شباط 2024، نشر معهد الأمن القومي الإسرائيلي تقريراً يرصد العلاقة الأميركية-الإسرائيلية منذ بداية الحرب على قطاع غزة. التقرير يرى أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل في حربها وتساعدها عسكرياً واستراتيجياً، لكنها تنتقد سلوكها وتحاول الحد من عنف الحرب. وتشترك الإدارة الأميركية مع إسرائيل في هدف "القضاء على حماس" وخلق واقع أمني جديد في غزة، لكنها وضعت حدوداً لإسرائيل، مثل ضرورة تقليل الضرر الذي يلحق بالمدنيين، ومنع التصعيد في الساحات الأخرى، وحظر طرد الفلسطينيين من قطاع غزة. وتركز الإدارة الأميركية منذ الشهر الثاني للحرب على الترويج لصفقة لإعادة الأسرى الإسرائيليين، تشتمل هدنة مطولة، مما سيمكنها من المضي قدماً في خطوات إنهاء الحرب وتشكيل نظام إقليمي جديد، يتضمن التطبيع مع المملكة العربية السعودية.

5

ومع ذلك، تشهد الولايات المتحدة موجة احتجاجات مؤيدة لفلسطين بشكل غير مسبوق، حيث تم تنظيم أكثر من 1600 مظاهرة مناصرة للفلسطينيين مقابل 280 مظاهرة مؤيدة لإسرائيل.  حظيت الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين بمستوى كبير من المشاركة والنشاط، بما في ذلك مسيرة وطنية في واشنطن جمعت عشرات آلاف المشاركين. وقد أثرت الاحتجاجات على أجواء الانتخابات المقبلة، حيث أعرب بعض الأميركيين العرب والمسلمين عن عدم رضاهم عن موقف الرئيس جو بايدن تجاه الصراع بين إسرائيل وحماس. وشملت الاحتجاجات أيضًا مؤسسات أكاديمية وجامعات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، حيث خرجت مسيرات ومظاهرات مؤيدة لفلسطين في الحرم الجامعي لجامعات كثيرة. تشير استطلاعات الرأي الأخير إلى تحولات في مواقف الأميركيين من الحرب على قطاع غزة، ومن استمرار الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، ومن إستراتيجية بايدين في التعامل مع الحرب، وبخصوص المواقف العامة من دولة إسرائيل. أدناه، ثلاثة استطلاعات رأي مختلفة أجريت خلال العام 2024:

6

في الختام، يمثل المشهد المتطور للرأي العام في الولايات المتحدة والنشاط السياسي المتعلق بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني داخلها، لحظة مهمة في نضال الفلسطينيين الذي طال أمده من أجل حقوقهم وسيادتهم وتقرير مصيرهم. يعكس التحول الملحوظ نحو التعاطف مع الفلسطينيين وتأييدهم، والموقف النقدي ضد بعض السياسات الأميركية في ظل إدارة بايدن، لا سيما موضوع المستوطنات، والخطوة غير المسبوقة لفرض عقوبات مالية على مستوطنين، وعياً متزايداً وتعبئة حول قضايا العدالة وحقوق الإنسان والقانون الدولي. هذا التغيير ليس رمزياً فحسب، بل يمتلك القدرة على إعادة تشكيل ملامح السياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط والتأثير على الخطاب الدولي الأوسع حول الصراع، وهي إستراتيجيات تنتظر من يبني عليها ويستثمرها.

وبالنسبة لصناع القرار الفلسطينيين، توفر هذه التطورات فرصة فريدة للتعامل مع المشهد الأميركي، والسياسة الأميركية الداخلية من منظور مختلف. ومن الأهمية بمكان أن تنخرط الجهات الفلسطينية الفاعلة مع الزخم في الولايات المتحدة وأن تبني عليه، وتستفيد من زيادة وضوح القضية الفلسطينية ودعمها للضغط من أجل تحولات تنحاز للعدالة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني. يستلزم ذلك إستراتيجية متعددة الأوجه تشمل تعميق التحالفات مع الجماعات التقدمية والمؤيدة للفلسطينيين داخل الولايات المتحدة، وتعزيز التواصل الدبلوماسي مع المشرعين والمسؤولين الأميركيين، وتسخير قوة المنصات الرقمية لإيصال مضامين الرواية الفلسطينية.

في جوهرها، تمثل الديناميات المتغيرة في الولايات المتحدة تحديات وفرصاً للمناصرة والدبلوماسية الفلسطينية. ومن خلال الانخراط الاستراتيجي في هذه التحولات، يمكن للمؤسسات والفعاليات الفلسطينية تسخير مستويات جديدة من الدعم لتعزيز مسعى تحقيق التحرر وإقامة الدولة. تتطلب هذه اللحظة نهجاً استباقياً ومبتكراً وموحداً لضمان عدم فقدان الزخم، بل تسخيره لإحداث تحسينات ملموسة في حياة الفلسطينيين وإعطاء دفعة نشطة من أجل حلّ الدولتين.

 

 

 

[1] عملياً، بدأ الاستيطان المدني الأول في الضفة الغربية والجولان السوري منذ الأشهر الأولى من الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. المستوطنة الأولى أقيمت في الجولان السوري بعد شهر من الاحتلال. في الضفة الغربية، أول مستوطنة أقيمت في غوش عتصيون جنوبي بيت لحم في 27 أيلول 1967. أما في قطاع غزة، أقيمت مستوطنة كفار داروم في العام 1970. كلتا المستوطنتين المدنيتين أقيمتا على ما تسميه إسرائيل أنقاض مستوطنات إسرائيلية قديمة تم تدميرها قبل النكبة، ثم وقعت خارج حدود دولة إسرائيل عند ترسيم خط الهدنة بعد النكبة. على الرغم من هذه الذرائع، فإن الحكومة الإسرائيلية كانت تصف الاستيطان المدني على أنه يأتي لدواعٍ أمنية.

 

[1] لا يمكن التراجع عن التصويت في مجلس الأمن، بل إنه يبقى مسجلاً على أن الولايات المتحدة صادقت عليه. المقصود بالتراجع هو أن الإدارة الأميركية اعترفت بأن التصويت جاء عن طريق الخطأ.

المصطلحات المستخدمة:

مؤتمر مدريد, بنيامين نتنياهو