سعى وزير المالية الإسرائيلي موشيه كحلون في الأسابيع الأخيرة إلى فتح معركة أراد منها تقليص حجم ما يمكن تسميته إسرائيليا "اليانصيب الخيري" والمراهنات في الرياضة، التي تقع تحت إشراف الحكومة، لكون هذه المراهنات واليانصيب تنتشر بشكل خاص بين الفقراء، وتقتطع أجزاء ليست قليلة من مداخيلهم الشهرية، على حساب مصاريف الحياة الأساسية. وقد اعتمد كحلون على توصيات لجنة خاصة أقامها لهذا الغرض.
لكن لاحقا نشر محاضر الاقتصاد في الجامعة العبرية في القدس، والخبير في هذا المجال مومي دهان، بحثا واسعا أجراه في الآونة الأخيرة، ليتأكد أمامه عاملان اثنان: الأول أن الجمهور الأكثر استهلاكا لهذا اليانصيب هم الفقراء وذوو المداخيل الضعيفة، برغم ضعف احتمالات الفوز،؛ والثاني أن الحكومة جعلت من هذا قطاعا مربحا لها، بشكل يناقض الهدف الأساس منه.
وفي إسرائيل مؤسستان رسميتان لغرض "اليانصيب": الأولى هي ما تسمى إسرائيليا "مفعال هبايس"، وهي توازي مؤسسة "يانصيب خيري"، وتابعة لمركز الحكم المحلي، بمعنى اتحاد المجالس البلدية والقروية. ويعمل هذا اليانصيب بموجب قانون خاص، ولوزارة المالية صلاحيات في تحديد عمل مؤسسة اليانصيب هذه. أما المؤسسة الثانية فهي مركز المراهنات في الرياضة، بالأساس لكرة القدم الإسرائيلية، وفي مواسم أخرى أيضا العالمية، وأضيفت لها في السنوات الأخيرة أيضا مراهنات على سباق الخيل. ويعمل مركز المراهنات هذا أيضا بموجب قانون خاص به، وتحت إشراف وزارتي الرياضة والمالية.
وتصرف مؤسسة "مفعال هبايس" الميزانيات الفائضة من أشكال اليانصيب المتعددة على بناء مؤسسات ثقافية وتعليمية، ومراكز جماهيرية في مختلف البلدات. وفي هذا المجال أيضا هناك تمييز واضح ضد البلدات العربية. أما مؤسسة المراهنات في الرياضة، فإنها تصرف الفائض على الفرق الرياضية المختلفة. وتتجه حصة الأسد لفرق كرة القدم، وتليها فرق كرة السلة.
المراهنات واليانصيب بدلا من الكازينو
في سنوات الألفين على وجه الخصوص تشعبت ألعاب اليانصيب في هاتين المؤسستين، بعد أن كان "مفعال هبايس" على مر السنين يرتكز على لعبتين فقط، هما "اللوطو" وهي اللعبة العالمية، والثانية سحب أرقام يانصيب. وفي سنوات الثمانين المتأخرة ظهرت لعبة للأرباح الفورية تعتمد على قشط أوراق. ولكن ابتداء من سنوات التسعين الأخيرة، بدأت تتشعب ألعاب مفعال هبايس، وفي سنوات الألفين انضمت لها أجهزة الكترونية، أشبه بألعاب الكازينو. وهذه الأخيرة بالذات جذبت اليها جمهورا، نسبة عالية منه من المدمنين على المراهنات والقمار.
وأيضا في مؤسسة المراهنات تشعبت المراهنات، لتشمل في السنوات الأخيرة المراهنات على سباق الخيل أيضا في مباريات عالمية.
واتسع عمل قطاع المراهنات الرسمي، في خضم جدل إسرائيلي حول تشريع قانون يسمح بفتح كازينوهات للقمار. وحسب تقارير سابقة فإن من أشد المتحمسين لهذا الأمر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي يزعم أن كازينو في إسرائيل سيقلص حجم السفر إلى الخارج، ابتداء من مصر ودول مجاورة، للعب في الكازينو. إلا أن الأمر يلقى معارضة الأحزاب الدينية المتزمتة، وأيضا معهم وزير المالية كحلون، الذي سعى إلى تقليص حجم المراهنات.
فقد أقام كحلون مع توليه منصب وزير المالية قبل عام ونصف العام طاقما في وزارته، لفحص سُبُل تقليص حجم المراهنات المرخصة. ولاحقا أعلن نيته الطلب من "مفعال هبايس" وقف العمل بالأجهزة الالكترونية، ووقف المراهنات على سباق الخيل. كما سعى كحلون إلى رفع الضريبة على الأرباح الكبرى ابتداء من 50 ألف شيكل، إلى نسبة 35%، بدلا من 30% اليوم و25% حتى قبل ثلاث سنوات. كما أراد كحلون تخفيض الحد الأدنى الملزم بالضريبة الى 1300 دولار (5 آلاف شيكل).
وحسب ما ورد في نهاية الأسبوع، فإنه على الرغم من المعارضة القوية التي ظهرت في لجنة المالية البرلمانية لرفع الضريبة على الأرباح فقد تقرر رفع الضريبة الى 35%، ولكن مع إبقاء الحد الأدنى القائم الملزم بالضريبة، وهو 50 ألف شيكل.
ووفقا لخبراء تكلموا أمام اللجنة، فإن رفع الضريبة الى هذا الحد سيشجع أكثر القمار والمراهنات غير القانونية، التي تقدر الشرطة حجمها السنوي بما بين 10 مليارات الى 15 مليار شيكل (ما بين 2,6 الى 3,9 مليار دولار). ورغم الاتفاق المعلن فإن نسبة الضريبة النهائية ستتضح بعد الانتهاء من إقرار الموازنة العامة للعامين 2017 و2018.
كما طلب كحلون منع تشغيل شخصيات مشهورة من فنانين ورياضيين وغيرهم في الحملات الدعائية للتشجيع على المراهنات على أشكالها المختلفة. وجدد كحلون في السياق ذاته اعتراضه على إقامة كازينو في إسرائيل، وقال إنه طالما هو وزير للمالية فلن يكون كازينو في إسرائيل. وطيلة الوقت كان يردد كحلون مقولة أن اليانصيب، ورغم القيود المفروضة عليه، يستنزف أموال الفقراء والشرائح الضعيفة، الذين يغرقون في أحلام الفوز بالجوائز الضخمة رغم ضعف احتمالات الفوز.
وكما ذكر، فإن كحلون أعلن في الصيف الماضي معارضته لفتح كازينو، رغم سعي رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى إقامة كازينو في مدينة إيلات على وجه الخصوص في سبيل تشجيع السياحة اليها، أو على الأقل لمواجهة خروج لاعبي ومدمني الكازينو إلى الخارج، وبضمن ذلك الفندق الحدودي مع مصر في منطقة طابا.
وكان نتنياهو قد توجه قبل عام إلى وزير السياحة ياريف ليفين، وإلى وزير المواصلات يسرائيل كاتس، طالبا منهما أن يفحصا مجددا إمكانية إقامة كازينو في إيلات. كما كان نتنياهو قد أقدم على محاولة كهذه في الحكومة قبل السابقة، إلا أنه واجه عقبات كثيرة من عدة جهات، من بينها المتدينون المتزمتون "الحريديم"، وجهات اقتصادية أخرى، وحسب المصادر الإسرائيلية فإن عقبات الماضي ما تزال قائمة في وجه محاولة كهذه.
ويرفض المتدينون المتزمتون (الحريديم) فتح "كازينو" في إسرائيل. ويطالب المتدينون أن تبقى المراهنات تحت إشراف ومراقبة المؤسسة الرسمية، وحتى أن كل تغيير في أشكال السحب في المركزين القائمين بحاجة إلى موافقة مباشرة من وزير المالية.
ونضيف هنا أن الانطباع السائد هو أن مركزي المراهنات واليانصيب السابق ذكرهما، ولكن بشكل خاص "مفعال هبايس" يتحكم في نتائج لعبة "اللوطو"، وهذه شبهة قائمة على مدى عشرات السنين. وعلى سبيل المثال، يسعى "مفعال هبايس" إلى عدم وجود فائز بالجائزة الكبرى في اللوطو، على مدى أسابيع عديدة تسبق الأعياد اليهودية المركزية، بهدف جعلها جائزة تراكمية، تصل إلى عشرات الملايين، ما يزيد الاقبال أكثر على سحب اللوطو، وبالتالي تضخّ أموالا أضخم على المؤسسة.
الفقراء وأرباح الحكومة
يقول الخبير الاقتصادي مومي دهان، الذي أجرى البحث المذكور، ونشر مقاطع منه في سلسلة مقالات في صحيفة "ذي ماركر" الاقتصادية، إنه خلال البحث ذهل من مدى تضخم حجم المراهنات في إسرائيل، دون أن تفحص الأمر أي جهة رسمية. وهذا الأمر ساهم بشكل كبير في تدهور أوضاع عشرات آلاف العائلات، خاصة من العائلات الفقيرة، ومن الشرائح الوسطى المتدنية. ويقول إن "مفعال هبايس" ومركز المراهنات في الرياضة تحولا إلى آلة تدمير العائلات في إسرائيل.
وتبين من البحث أن الغالبية الساحقة من محطات سحب اليانصيب والمراهنات منتشرة في أحياء الشرائح الوسطى، وبدرجة أقل في الأحياء الفقيرة. غير أن الشرائح الفقيرة تصرف أموالا أكثر بكثير من غيرها على المراهنات واليانصيب، في انتظار الجائزة التي قد تخلصها من دائرة الفقر. لكن النتيجة تأتي عكسية لأن هذه الأموال تصرف على حساب مصاريف أساسية للعائلات الفقيرة، وحتى أنها في الكثير من الأحيان تأتي على حساب المواد الغذائية.
والحكومة لا تبالي أمام هذا الوضع، لا بل رفعت الكثير من القيود أمام هذه المراهنات، لأنها تشكل عمليا مدخولات إضافية لخزينة الدولة، وتخفف على الخزينة مصاريف أخرى. فمن ناحية تجبي الحكومة ضريبة بنسبة 30% على كل جائزة ابتداء من 50 ألف شيكل، وهذا يعادل أكثر من 13 ألف دولار، مما يضمن مداخيل بمئات ملايين الشواكل سنويا.
ولكن ليس هذا فقط، بل إن كل حكومة، حينما تعد ميزانيتها السنوية في مجالي التعليم والرياضة، تأخذ بعين الاعتبار ما صرفته مؤسسة "مفعال هبايس" على بناء مركز تعليمية وجماهيرية في مختلف البلدات، بما يقدّر بنحو مليار دولار سنويا. وأيضا ما يصرفه مركز المراهنات على الفرق الرياضية، بدلا من أن تكون هذه أموال إضافية تزيد من تطوير البنى التحتية.
وحسب تقديرات العام الماضي 2015، فإن حجم المراهنات واليانصيب بلغ 10 مليارات شيكل، وهو ما يعادل 2,6 مليار دولار. في حين أن 4,8 مليارات شيكل منها تعود كجوائز من الدنيا إلى الأعلى، بينما أكثر من 1,2 مليار شيكل تصرف على الجهاز الإداري وعمولات البائعين، ويبقى أقل من 4 مليارات شيكل للصرف على مؤسسات.
وهذا يعني حسب نتائج البحث، أن هذا المشروع "الخيري" جاء على أكتاف الفقراء، وأمواله توزع على المجتمع ككل، عدا الجوانب الهدّامة الكثيرة في هذا القطاع، وبشكل خاص التدمير الاقتصادي للشرائح الفقيرة والضعيفة والوسطى الدنيا. ويقول البحث إنه إذا كانت نسبة 1% من جمهور البالغين متورطة بإدمان وشبه إدمان على السحب والمشاركة في المراهنات، فهذا يعني عشرات آلاف العائلات المتورطة.
ويقول الباحث إن نسبة 1% هي نسبة محافظة جدا، ففي كندا جرى قبل عامين بحث أظهر أن نسبة نصف بالمئة وحتى 7,6% من جمهور البالغين متورط بهذا المستوى أو ذاك بالمراهنات وسحب اليانصيب. لذا ذهب الباحث الإسرائيلي إلى نسبة متدنية لتقدير أعداد العائلات التي تتأثر سلبا بقدر كبير من المشاركة في المراهنات واليانصيب.
ويوصي الخبير الاقتصادي دهان وزارة المالية بأن تتمسك بالإجراءات التي عرضها في الأشهر الأخيرة، وأولها منع استمرار العمل بالأجهزة الالكترونية في سحوبات "مفعال هبايس"، كونها تشجع على الإدمان. وأيضا منع المراهنات على سباق الخيل، من باب تقليص مجال المراهنات وفرض قيود أكثر عليه.
كذلك يوصي دهان بفرض قيود على شكل التسويق وعلى مضامين الدعايات، فمثلا لاحظ دهان أن دعاية "مفعال هبايس" على سحب اليانصيب التقليدي، وهي الدعاية الشهيرة: "انتظر مكالمة من أريئيلا"، موجهة أساسا للشرائح الفقيرة والضعيفة. وأريئيلا هذه هي موظفة "مفعال هبايس"، التي تجري اتصالا هاتفيا بصاحب الجائزة الكبرى، وبمن يفوز بسيارة أسبوعيا. ورأى أن في مضامين الدعايات ما هو موجه للشرائح ذات المداخيل المحدودة، لإغرائها برفع مستوى معيشتها.
كما يوصي دهان أيضا بما طرحه من قبل وزير المالية كحلون، وهو منع تشغيل المشاهير من فنانين ورياضيين بارزين في دعايات اليانصيب ومركز المراهنات، بهدف تقليص حجم الإغراء والضغط على الجمهور للمشاركة في السحوبات والمراهنات.