تقارير خاصة

تقارير عن قضايا راهنة ومستجدة في إسرائيل.
  • تقارير خاصة
  • 1589

استأنفت كتلتا المتدينين المتزمتين اليهود (الحريديم) في الكنيست الإسرائيلي معركتهما المتعلقة بما يسمى "قدسية السبت". وخلال أسبوعين أعلن نواب "الحريديم" معركة ضد أعمال بنى تحتية للمواصلات العامة، كانت ستجري في أيام السبت

، فخسروا الأولى، ولكنهم نجحوا في الثانية، بدعم من رئيس الحكومة

بنيامين نتنياهو، الذي وجد في هذه المعركة فرصة جديدة، لمحاصرة "غريمه" الجديد في حزب "الليكود" وزير المواصلات يسرائيل كاتس.

وإلى جانب الدوافع الدينية، فإن في خلفية معركة "الحريديم" الجديدة دوافع سياسية، منها في الأساس تنبيه الائتلاف الحكومي إلى حقيقة وزنهم ونفوذهم السياسي.

خلفية أحداث الأيام الأخيرة

قبل أكثر من أسبوعين، صادقت وزارة المواصلات، وبالأساس الوزير يسرائيل كاتس، على القيام بأعمال بنى تحتية في أوتوستراد "أيالون"، الذي يشق منطقة تل أبيب الكبرى من شمالها إلى جنوبها، على أن تتم الأعمال منذ دخول السبت (عند غروب شمس يوم الجمعة)، وحتى انتهاء مساء السبت.

وقد اعترضت على الأعمال كتلتا "يهدوت هتوراة" لليهود الأشكناز، "وشاس" لليهود الشرقيين بزعامة الوزير آرييه درعي. إلا أن اعتراضهما لم ينجح، لكون الأعمال كانت تقتضي إغلاق مسارات من الأوتوستراد، وأن عملا كهذا في أيام الأسبوع كان سيخلق انفجارا في حركة المواصلات في أكثر منطقة إسرائيلية مكتظة بما لا يقاس مع أي منطقة أخرى.

وبعد أسبوعين، قررت شبكة القطارات القيام بعدة إصلاحات بنى تحتية في سكة الحديد، وبضمنها الخط الموصل بين مدينتي حيفا وتل أبيب، وفي هذه المرّة أيضا كانت الأعمال ستتم يوم السبت الأخير (3 أيلول الحالي)، فجاء اعتراض كتلتي الحريديم أشد من سابقه، مدعوما بتقييم من أحد الخبراء بأن هذه الأعمال من الممكن أن تتم في غير يوم السبت. ولم يقنعهما موقف شبكة القطارات بأن العمل في الأيام العادية، وخاصة يوم الأحد، سينعكس سلبا على حركة 250 ألف مسافر في القطار في يوم واحد.

وحسب ما نشر في وسائل الإعلام، فإن قادة الحريديم في الكنيست والحكومة طالبوا رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بالتدخل، وحتى بإقالة وزير المواصلات يسرائيل كاتس الذي صادق على تنفيذ المشاريع أيام السبت. وقد تدخل نتنياهو وأصدر أمرا بوقف الأعمال يوم السبت. لكن في السياق ذاته استغل نتنياهو الحدث ليكيل الاتهامات للوزير كاتس، الذي كما يبدو حصل في الآونة الأخيرة على لقب "غريم نتنياهو" في حزب الليكود، بعد أن أقرت سكرتارية الحزب برئاسة كاتس ذاته، قبل نحو شهر، استعادة صلاحيات تنظيمية في الحزب، من نتنياهو الذي أخذها لنفسه قبل فترة، ومن بينها تعيينات حساسة في الجهاز الإداري في الحزب. وفي اليوم التالي اضطر كاتس إلى تجميد القرار بعد تهديد نتنياهو له بإقالته من الحكومة.

واتهم نتنياهو الوزير كاتس، في بيان صادر عن مكتبه مساء الجمعة الأخير (2 أيلول)، بالعمل على إحداث قلاقل في الحكومة، من خلال إغضاب كتلتي الحريديم. وهذا يُعد توبيخا لوزير أمام الرأي العام.

وفي نظرة إلى الوراء يتأكد أن لا أساس لاتهام نتنياهو للوزير كاتس، إذ يقال عن الأخير إنه طامح لخلافة نتنياهو، دون توضيح ما إذا كان يقصد منافسة نتنياهو في الانتخابات المقبلة، أم أن المنافسة ستكون بعد أن يقرر نتنياهو التنحي، أو إنهاء ولايته لأسباب أخرى. فمن يطمح لرئاسة الحكومة عليه أن يضمن علاقات جيدة مع كتلتي الحريديم، الضامن الأكبر لاستقرار حكومات اليمين، ولهذا فإنه لن يُقدم على إجراءات من شأنها أن تثير غضب هذا الجمهور وممثليهم في الحلبة السياسية.

كذلك فإن كاتس يُعدّ من أشد المعارضين لكسر "الوضع القائم" بشأن ما يسمى "قدسية السبت"، ويؤيد استمرار حظر المواصلات العامة، إلا باستثناءات متفق عليها. وكاتس ذاته كان قال في شهر نيسان 2015، بعد أقل من شهر من الانتخابات البرلمانية، في تصريح عابر على شبكة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، إنه يرفض سن قانون للسماح بعمل المواصلات العامة أيام السبت والأعياد العبرية. وقال كاتس في حينه "إن من يريد حركة مواصلات أيام السبت، عليه أن يتوجه إلى إسحاق هيرتسوغ"، رئيس حزب العمل. وأضاف أن هذا مطلب اليساريين، ولا مكان له.

وتبين من تقارير صدرت في أعقاب ذلك التصريح، أن كاتس الذي يتولى منصب وزير المواصلات منذ سبع سنوات، كان رفض المصادقة على استثناءات لتسيير حافلات عامة إلى مواقع حساسة، من بينها على سبيل المثال تسيير حافلات في اتجاه المستشفيات لزيارة مرضى.

وانهال رواد الصفحة على كاتس غاضبين مستنكرين، ومن بينهم مصوتون لحزب الليكود قالوا إنهم صوتوا لحزب الليكود وهم ليسوا يساريين ويطالبون بتحرير حركة المواصلات في أيام السبت، لأن المتضرر من هذا القانون هم الفقراء، الذين لا يملكون سيارات خاصة تنقلهم إلى أماكن أخرى يقضون فيها العطلة الأسبوعية.

الخلفيات السياسية

إن مواقف الحريديم على وجه الخصوص، وبدرجة أقل مواقف المتدينين من التيار الصهيوني الأقل تشددا دينيا، من مسألة قدسية السبت وشروط الحلال اليهودي وقوانين الأحوال الشخصية، بما فيها الزواج، معروفة على مدى السنوات. ولكن استنفارهم في الأيام الأخيرة، بعد سنوات طويلة لم يثيروا فيها مثل هذه القضية، جاء أيضا لإثبات وجودهم في الحلبة السياسية، كجسم مقرر في ثبات الحكومات المتعاقبة.

ومنذ دخول الحريديم إلى الحكومة الحالية، بعد تحييدهم عن الحكومة التي سبقت برئاسة نتنياهو أيضا، لوحظ أن صوتهم أقل أمام الكتل الأخرى، التي تضغط وتظهر في مواجهة الإعلام كندِّ في الحكومة، قادرة على مواجهة رئيس الحكومة، خاصة وأن استطلاعات الرأي التي تصدر تباعا في الأسابيع الأخيرة، تشير إلى أن "شاس" التي خسرت في الانتخابات الأخيرة حوالي 40% من قوتها البرلمانية، بفقدانها 4 مقاعد من أصل 11 مقعدا كانوا لها في انتخابات 2013، ستبقى عند قوتها في أحسن الأحوال، بينما كتلة "يهدوت هتوراة" تتراوح بين الحفاظ على قوتها- 6 مقاعد- أو إضافة مقعد لها.

ونشير هنا إلى أن "شاس" خسرت قسما من قوتها بسبب الانشقاق الذي وقع فيها، إضافة إلى أن جزءا من أصواتها من اليهود الشرقيين اتجه إلى حزب "كولانو (كلنا)" بزعامة الشرقي وزير المالية موشيه كحلون.

كذلك فإن تحرك كتلتي الحريديم قد يكون فيه خطوة استباقية وتحذيرية لأي محاولة في الحكومة والائتلاف الحاكم لتغيير "الوضع القائم" في كل ما يتعلق بقوانين الإكراه الديني، برغم أن احتمال حدوث مثل هذا الأمر في ظل الائتلاف القائم أقرب إلى الصفر. لكن من جهة أخرى، فقد أدرج على جدول أعمال الكنيست بمبادرة عشرات النواب ما لا يقل عن 100 مشروع قانون كلها تتعلق بالجانب الديني، مثل قوانين تدعو إلى تحرير حركة المواصلات والحركة التجارية أيام السبت، تقابلها قوانين تدعو للتشدد في ما هو قائم وهكذا.

كذلك من أبرز مشاريع القوانين التي تقلق الحريديم، تلك التي تطالب بوقف احتكار إصدار شهادات الحلال. وهذه المسألة ليست فقط دينية بل أيضا اقتصادية مالية لجمهور الحريديم بالذات.

وحظر المواصلات العامة أيام السبت مفروض كقرارات للشركات شبه الرسمية التي تشغل خطوط المواصلات العامة، إذ لا يوجد قانون رسمي يحظر المواصلات العامة أيام السبت، ولكن هناك اتفاق غير مكتوب بين الحكومة والتيارات الدينية وخاصة المتزمتة منها، منذ العام 1948، بعدم تسيير المواصلات العامة.

وعادة تبقى الشوارع والطرقات مفتوحة في جميع المدن والبلدات اليهودية، باستثناء شوارع قليلة جدا في المدن الكبرى، إما أنها تمر بحي كله من المتدينين المتزمتين، أو يقع في الحي الكنيس الأكبر في تلك البلدة. ويمكن مشاهدة حظر كلي لحركة السير من حافلات وسيارات خاصة في مستوطنات يسكنها المتزمتون فقط، مثل موديعين عيليت وبيتار عيليت وإلعاد، وبعض الأحياء في القدس.

ويدافع العلمانيون عن موقفهم في مسألة المواصلات العامة بقولهم إنه لا توجد دولة في العالم لا تعمل فيها المواصلات العامة في حوالي 20% من أيام السنة، بمعنى أيام السبت والأعياد، وأن هذه الأنظمة هي ضربة موجهة إلى الشرائح الفقيرة. وتتوقف حركة المواصلات العامة في المدن وبين المدن، قبل ما بين ساعتين إلى ثلاث ساعات من غروب شمس يوم الجمعة، وبعد أكثر من ساعة ونصف الساعة من غروب شمس يوم السبت.

وتعد قضية السبت اليهودي والقوانين المتعلقة بها واحدة من القضايا الخلافية الحارقة بين جمهوري العلمانيين والمتدينين في إسرائيل، ومنذ عشرات السنين لم يتوقف الجدل حول المسموح والممنوع دينيا في أيام السبت.

انتقادات لنتنياهو

نشرت منذ نشوب القضية سلسلة مقالات من صنّاع الرأي الإسرائيليين، الذين في غالبيتهم الساحقة ينتقدون تصرف ونهج نتنياهو.

وكتب المحلل السياسي في صحيفة "يديعوت أحرنوت" ناحوم بارنياع، في مقال له يوم الأحد (4 أيلول): إن القضية ليست الحريديم، فلو أن نتنياهو خبط على الطاولة لكانوا سيتراجعون.. القصة الحقيقية تجري في داخل حزب الليكود، وبدأت حينما حاول يسرائيل كاتس تقليص حجم سيطرة نتنياهو على الجهاز الحزبي. وهذا ما وصفه نتنياهو بـ "انقلاب داخلي"... ثم اختار نتنياهو أن يوجه لكاتس ضربة مهينة كي لا ينساها.

وختم بارنياع مقاله كاتبا: "إن الشخص الذي يعرض نفسه على أنه أحد كبار القادة الذين عرفهم العالم يظهر في نهاية المطاف سياسيا مضروبا، يسيطر عليه هاجس الخوف والقلق، يحسد ويتشاجر مع زملائه، ويفشل في مواجهة قضية من هذا النوع".

وتحذر زميلته في الصحيفة ذاتها سيما كدمون من أن نجاح الحريديم في وقف أعمال البنى التحتية في يوم السبت بقوة نتنياهو، سيجر قطاعات حيوية أخرى مثل شبكتي الكهرباء والمياه، وسيتم منع القيام بإصلاحات ضرورية في أيام السبت، حتى لو تعطل التيار لجمهور واسع. وتقول: "يجري الحديث عن فوضى عارمة، وهي تجري حينما قرر نتنياهو إضعاف شخص الوزير كاتس".

المرحلة المقبلة

على الصعيد الحزبي، من الواضح أن المعركة التي شنها نتنياهو على شخص كاتس لن تقف عند هذا الحد. وقد لا يكف نتنياهو عن التحرك ضد كاتس، إلا إذا اتخذ الأخير مسار سابقيه، ممن واجهوا محاصرة نتنياهو لهم بأدوات شتى؛ ومن بينهم من كان وزيرا في حكومتي نتنياهو السابقتين غدعون ساعر، الذي سطع نجمه كثيرا في تلك السنوات، إلى أن شعر بأن نتنياهو يحاصره على المستوى الشخصي، بل وحتى لاحق زوجته في عملها، وهي مقدمة البرامج السياسية الشهيرة في قناة التلفزة الأولى غيئولا إيفن.

وتبعه في هذه الحكومة الوزير سيلفان شالوم، الذي ظهرت ضده "فجأة" شبهات تحرش جنسي، وبعد أن قرر اعتزال السياسة بأشهر قليلة، قررت الشرطة إغلاق الملف بسبب ضُعف الأدلة.

وأخيرا كان هذا المسار من نصيب وزير الدفاع السابق، الجنرال احتياط موشيه يعلون، الذي قرر نتنياهو إقصاءه من منصبه، لينقله إلى أفيغدور ليبرمان، عديم أي تجربة عسكرية وأمنية. وفي حين أن شالوم نافس نتنياهو أكثر من مرة على رئاسة الليكود، فإن ساعر ويعلون ظهرا بقوة في بورصة الأسماء المرشحة لخلافة نتنياهو في زعامة الحزب.

أما على صعيد قوة الحريديم السياسية فقد أيقن اليمين المتشدد، من حزب الليكود وتحالف أحزاب المستوطنين، وأيضا "يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا)" بزعامة أفيغدور ليبرمان، أنه لا ثبات لحكوماته إلا باحتواء كتلتي الحريديم، خاصة بعد تجربة حكومة نتنياهو الثالثة (2013- 2015). وهذا يعرفه ويستثمره الحريديم في هذه الحكومة؛ فقد نجحوا في إلغاء جميع القوانين والإجراءات التي غيّرت "الوضع القائم" الذي عايشوه منذ العام 1948، بدءا من إعفاء شبانهم من الخدمة العسكرية الإلزامية، وصولا إلى الميزانيات الضخمة التي تتلقاها مؤسساتهم الدينية والتعليمية، بما فيها مخصصات اجتماعية، لمن يمضون معظم أيامهم وحتى حياتهم في معاهد دراسة التوراة.

ولذا فإن الحريديم، مستفيدين أيضا من زيادة التشدد الديني لدى مجموعات متزايدة في التيار الديني الصهيوني، يريدون الحفاظ على جميع قوانين الإكراه الديني، وترسيخها في كافة جوانب الحياة، وهذا ما يقلق جمهور العلمانيين الإسرائيليين، ومعهم قادة الاقتصاد الخاص والعام، لما في ذلك من انعكاسات تعد بنظرهم خطيرة على مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي والوجه العلماني لكيانهم.

إن المشهد الحاصل في الأيام الأخيرة في الساحة الإسرائيلية هو نموذج مصغّر لأزمات أشد عمقا قد تشهدها إسرائيل على مستوى الصراع الديني- العلماني وتحاول المؤسسة الإسرائيلية إخفاءها، إلا أنها نتيجة طابعها الحاد تنفجر من حين إلى آخر، حتى الوصول إلى انفجار أضخم مستقبلي مفترض.