سبق لهذه القصة أن رُوِيت ، ولكن يجدر بنا التذكير بها مرة اخرى، مع بداية التنافس على رئاسة الحكومة بين ارييل شارون وعميرام متسناع: ففي ايلول 1982 وبعد مجزرة صبرا وشاتيلا، اشترك العميد متسناع في اجتماع لكبار الضباط الذين انتقد بعضهم بشكل شديد الطريقة التي أدار بها وزير الدفاع الحرب في لبنان. وكانت الاقوال التي أطلقت هناك وتضمنت اتهامات حول أبعاد الحرب، ومدى سيطرة الحكومة على التطورات، وحول مصداقية المعلومات المقدمة للجمهور. وعند انتهاء الاجتماع، دخل متسناع الى سيارته، وجلس الى جانبه العميد يعقوب إيفن، الذي كان ناطقا بلسان الجيش. وفي الاذاعة نشر تقرير عن مداولات لجنة الخارجية والأمن في الكنيست حول مجزرة مخيمي اللاجئين في لبنان. وجرى الاقتباس عن شارون قوله ان أمورا من هذا القبيل وقعت من قبل: إذ سبق وقام مسيحيون لبنانيون بمجزرة ضد الفلسطينيين بحضور الجيش الاسرائيلي، ولم يرفع أحد عقيرته بالصراخ. وكان شارون يقصد المجزرة التي نفذها رجال الكتائب المسيحية بالفلسطينيين في عهد حكومة رابين (في تموز 1976) في تل الزعتر، وهو مخيم للاجئين في منطقة بيروت.وقد هزت أقوال شارون متسناع. إذ لم يكن بوسعه تحمل حجة شارون الساعي الى الاختباء حول قضية تل الزعتر، من أجل التخلص من الضائقة التي وقع فيها بسبب مجزرة صبرا وشاتيلا. كما أنه رأى في ذلك إفشاء لسر، إذ ان حقيقة حدوث المواجهة في تل الزعتر بحضور ممثل للجيش الاسرائيلي لم تكن معروفة كثيرا حتى ذلك الوقت. وأبلغ متسناع إيفن انه يائس من الوضع وينوي الخروج من الجيش. وحاول إيفن ثنيه عن عزمه، دون نجاح. وصاغ متسناع رسالة لرئيس الأركان رفائيل إيتان، أبلغه فيها عدم استعداده للبقاء في منصبه (وكان حينها رئيس أركان فرقة بقيادة يانوش بن غال) طالما بقي شارون وزيرا للدفاع.
كان أحد أكبر أخطاء إسرائيل في سياق صياغة إعلان المبادئ في أوسلو عام 1993 عدم التطرق إلى "عرب إسرائيل" – المواطنين الفلسطينيين العرب في دولة إسرائيل. لقد افترض المفاوضون الإسرائيليون أنه بقبول الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات الشرط الإسرائيلي بأن منظمة التحرير الفلسطينية تستطيع تمثيل كل الفلسطينيين في كل مكان ما عدا أولئك الذين يعيشون داخل إسرائيل (والذين تمثلهم بوصفهم مواطنين إسرائيليين حكومة إسرائيل، وهي الطرف الثاني الموقع على اتفاق أوسلو)، فإن عملية السلام المقبلة لن تؤثر على وضع الفلسطينيين داخل إسرائيل. وعلى هذا فإن بمقدور الحكومات الإسرائيلية الاستمرار في تجاهل، ليس فقط الحاجات المادية والمدنية لعرب إسرائيل، بل مشاعرهم القومية أيضا.وفي النتيجة انفجر هذا الخطأ في وجوهنا على نحو صارخ أثناء الاشتباكات العنيفة في تشرين الأول/أكتوبر 2000 عندما انضم الجمهور العربي الإسرائيلي إلى ركب الانتفاضة فترة ضئيلة، وقتل اثنا عشر من أفراده على يد الشرطة الإسرائيلية. أدركت الغالبية اليهودية الإسرائيلية فجأة وعلى نحو مؤلم أن ظهور احتمال قيام دولة فلسطينية في الجوار، يضاف إليه اشتداد ساعد الحركة الإسلامية، كل ذلك على خلفية عقود من العيش كمواطنين من الدرجة الثانية، قد أدى إلى جعل التوجهات السياسية للعرب في إسرائيل تميل إلى التطرف. وقد غدا على إسرائيل أن توفر حلا قوميا للفلسطينيين ليس في الضفة الغربية وغزة فحسب بل في الجليل والمثلث أيضا.
“ميثاق طبريا”: الهروب إلى الامام - ترجمة نواف عثامنة
تقديم: انطون شلحت
تعترف الوزيرة الاسرائيلية السابقة يولي تمير، في مقالتها التي تتضمنها هذه الكراسة، بأن “ميثاق طبريا” الذي كانت من ابرز المبادرين الى التخطيط له واعتماده، لا يطمح لأن يكون بديلا عن الحوار المدني الشامل لمواطني الدولة (اسرائيل). وفور ذلك تضيف، على محمل التوضيح غير القابل للتأويل: اذا لم يتم وضع وثيقة مدنية، وبمشاركة جميع مواطني اسرائيل، تعرِّف الحقوق المتساوية لابناء جميع الشعوب الكائنة في اسرائيل، وتعرّف واجبات الدولة تجاه مواطنيها وتحدد معايير لتوزيع عادل للموارد، فلن تصبح اسرائيل مجتمعا ديمقراطيا جديرا بهذه الصفة.
عندما تتبع العمليات الانتحارية الفلسطينية ضد المدنيين عمليات اسرائيلية عسكرية ضد الفلسطينيين، من السهل على بقية العالم ان يكتفي بالتفرج ووصف ما يجري بأنه "دورة عنف". ولكن هذا التحليل المبسط يتجاهل التاريخ. ازمة الحكومة الاسرائيلية التي أدت الى تقديم موعد الانتخابات، قد تؤدي لتعقيد العلاقات الفلسطينية ـ الاسرائيلية، ولكنها لن تغير الحقائق الاساسية للصراع.وحتى نفهم الازمة الحالية علينا مراجعة اتفاقية اوسلو. كانت الامال انذاك تعبق الاجواء، فقد تبادلت اسرائيل والمنظمة الاعتراف ببعضهما، والتزمت اسرائيل بالانسحاب من معظم اراضي الضفة الغربية وقطاع غزة، بينما تنازل الفلسطينيون عن اللجوء للعنف. والاهم ان عرفات عاد من تونس واسس حكماً ذاتياً كان سيؤدي مع نهاية التسعينات الى حكم ثمانين في المائة من السكان الفلسطينيين. لقد بدا الحال وكأن حلاً توافقياً اصبح قيد الممكن. لكن ما تبع هو فشل مفاوضات كامب ديفيد 2000 في حل معضلة الفشل التفاوضي الاسبق، ثم فشلت مفاوضات طابا. كان ايهود باراك، بدعم من الرئيس كلينتون، قد طرح على الفلسطينيين عدة عروض ظن المراقبون انه يصعب رفضها. الواقع ان ما جرى في كامب ديفيد وطابا صار علامة مميزة في تاريخ الشرق الاوسط الحديث، كما اصبحت لاحقاً احداث 11 سبتمبر علامة في التاريخ الاميركي.
الصفحة 861 من 863