نقدم، فيما يلي، ترجمة كاملة للمقدمة التي وضعها شلومو سفيرسكي لمؤلفه الجديد الذي صدر في السابع من تموز الجاري، تحت العنوان المثبت أعلاه:
طبقا للمعايير المقبولة دوليا وبالمقارنة مع المجتمع البشري في العالم أجمع، نعيش نحن، سكان إسرائيل، في وضع جيد جدا. فإسرائيل مصنّفة في عداد الدول المسماة "متطورة"؛ إنها تنتج منتجات بمستويات تكنولوجية رفيعة جدا، من الأكثر تطورا في العالم؛ غالبية الإسرائيليين يتمتعون بمستوى معيشيّ "غربيّ"، حتى إن لم يكن من الأعلى في العالم؛ وتدير دولة إسرائيل منظومات من الأكثر شمولية في مجالات الصحة، التعليم، الرفاه والضمان الاجتماعي، حتى وإن لم تكن من الأكثر سخاء في دول الغرب. وبنظرة مقارِنة، يمكن الحديث عن حلم صهيوني قد تحقق.
في الوقت عينه، وبالمقارنة بيننا وبين أنفسنا، نحن، مواطني إسرائيل، نعرف أن الحلم الإسرائيلي، بالنسبة لغالبية الإسرائيليين، صعب التحقق: إلى جانب المديرين العامين الذين يتمتعون براتب شهري يبلغ مئات آلاف الشيكلات، ثمة بيننا مئات آلاف العاملات والعمال الذين يتلقون رواتب متدنية جدا تضعهم تحت "خط الفقر". وبينما يصبح عشرات، وربما مئات، الشبان الإسرائيليين أغنياء بين ليلة وضحاها، بفضل شركات ناشئة في شتى التخصصات والمجالات، يبقى نحو نصف الشباب الإسرائيليين دون شهادة "بجروت" (شهادة إنهاء الثانوية العامة). وعلى مسافة غير بعيدة عن تل أبيب البراقة المتلألئة والكوسموبوليتية، بل في جنوب تل أبيب ذاتها، تبدأ بلاد أخرى، مختلفة، من المريح لنا تسميتها بـ "الأطراف".
إذا كان الوضع سيئا إلى هذا الحدّ، فكيف هو جيّد إلى هذه الدرجة إذن؟ وإذا كان الوضع جيدا إلى هذا الحد، فكيف هو سيء إلى هذه الدرجة إذن؟
الإجابة على هذا السؤال موجودة في مضمون "المعايير المقبولة" هذه. الفقرة الأولى أعلاه ترتكز، كلها، على حقل المصطلحات الذي تكرّس وتجذّر في الخطاب العام في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية. وهي مصطلحات ترتبط، أساساً، باسميّ اثنين من علماء الاقتصاد: جون مينارد كينز، عالم الاقتصاد البريطاني الذي وضع تعريف مسؤولية الدولة بكونها المنظِّمة (المتحكّمة / الضابطة) الأعلى للنشاط الاقتصادي؛ وسايمون كوزنتس، عالم الاقتصاد الأميركي الذي وضع للدولة الأدوات الإحصائية التي تمكّنها من تنفيذ مهمات التنظيم (التحكّم / الضبط) والرصد (المراقبة). إنها اللغة التي تتيح لنا قول أشياء من قبيل "بالاستناد إلى أن الناتج المحلي الخام لدينا هو كذا وكذا، ووتيرة النمو عندنا هي كذا وكذا، والدين القومي هو كذا وكذا"، فإن وضعنا النسبي غير سيء.
اللغة التي وضعها كينز وكوزنتس كانت مُعدّة للاستخدام في إدارة الاقتصادات الوطنية، غير أنها تحولت، مع مرور الوقت، وأصبحت شيئا آخر إضافيا: لغة لوصف وتقييم الحالة الإنسانية في كل مكان ومكان. وقد غدت اليوم لغة الأحلام في السياسات التطبيقية. فمن الجدير بالذكر، مثلا، أن النقاش العام في مسائل تتعلق بالقضايا الاجتماعية كان قد انطلق بكل قوة وزخم مع ظهور حركة التنوير الأوروبية في القرن الـ 18. ثم اتسع لاحقا مع الثورة الفرنسية، مع الحركات القومية والثورية الأوروبية ومع انتشار حركات التحرر من الكولونيالية الأوروبية في أنحاء مختلفة من العالم، خلال القرن العشرين. وفي منتصف القرن الـ 20، بدأت لغة الأحلام التنويرية والثورية تتراجع وتتقلص، ومعها الأحلام نفسها أيضا. وبدلا من رؤية الـ "حرية، مساواة وأخوة"، أخذت تظهر وتتصدر "أهداف" يحددها الساسة وموظفو وزارات المالية: النمو السنوي بنسبة 10% يُعتبر إنجازا نادرا، النمو بنسبة 5% هو إنجاز ممتاز، النمو بنسبة 2% هو سبب مثير للقلق والنمو السلبي هو أزمة عميقة. هذه المعطيات تُستخدم، اليوم، ليس فقط للحكم على ما هو موجود وقائم فعليا، وإنما لترسيم حدود الممكن أيضا: النمو الثابت (المتواصل) بنسبة 10% يُعتبر هدفاً غير دائم؛ التوقع بتحقق نمو بنسبة 5% يُعتبر متفائلا جدا، أكثر مما ينبغي؛ التوقع بتحقق نمو سلبي يُعتبر حالة تستوجب توحيد كل القوى السياسية لغرض تنفيذ "إصلاحات بنيوية" عميقة وحادة. وهكذا، تحول النمو من شرط لتحسين الوضع الإنساني إلى التحسن نفسه!
وفوق هذا، تفرض لغة كينز وكوزنتس تماثلا وتجانساً مصطنعَين على مستويات معيشية إنسانية مختلفة تمام الاختلاف عن بعضها بعضا: نمو مرتفع قد يطرأ في ظل نظام ليبرالي، كما حصل في إنجلترا في عصر الثورة الصناعية، وفي ظل نظام عبوديّ كالذي كان في الولايات المتحدة عشية الحرب الأهلية وفي ظل نظام يقوده حزب تسلّطي كما هو الحال في الصين في أيامنا هذه. قد يحدث النمو في ظل نظام اشتراكي ـ ديمقراطي كما هو الحال في الدول الاسكندنافية، حيث تُعتَمَد سياسة رفاه سخية جدا وعامة، وكذلك في ظل نظام اجتماعي ـ اقتصادي نيو ليبرالي، كما هو في الولايات المتحدة، حيث كل إنسان فرد متروك، إلى حد كبير، لمصيره الفردي هو. وقد يحدث النمو، أيضا، في دولة غنية بالمحاجر، حتى وإن كانت غالبية سكانها من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة، وكذلك في دولة تفتقر إلى الموارد الطبيعية لكنها غنية بالمتعلمين والمثقفين. وقد يحدث النمو، أيضا، في دولة لا تتعدى نسبة الفقر فيها الـ 5%، كما في الدانمارك، أو في دولة تزيد فيها نسبة الفقر عن 5ر18%، كما في إسرائيل.
وتفرض لغة كينز وكوزنتس تماثلا وتجانسا مصطنعين، أيضا، على منظومات اقتصادية مختلفة تماما عن بعضها بعضا. فقد يكون النمو نتاجا لاستغلال متزايد للموارد الطبيعية دون أن يكون هذا الاستخدام مصحوبا بتحسين ورفع مستوى كل السكان التعليمي والثقافي أو قدراتهم ومواردهم الفردية. وقد يكون النمو نتاجا لتوفير اعتمادات مالية رخيصة ووفيرة للصناعات، دون أن يكون هذا مصحوبا بالضرورة بدفع وتحسين قطاعات اقتصادية أخرى. وقد يطرأ النمو في وضع يسيطر فيه عدد قليل من المجموعات التجارية على الجزء الأكبر من الاعتمادات المالية والجزء الأكبر من الأرباح، وهو ما يحول دون توزيع أكثر مساواة لثمار هذا النمو.
النمو الاقتصادي، إذن، يمثل ضرورة وجودية في حالة الزيادة السكانية، لكنه لا يكفي، في حد ذاته، لضمان إحداث تغيير حقيقي في ظروف حياة بني البشر: ليس في مقدوره موازنة توزيعة العمل الطبقية، أو إلغاء فجوات القوة والموارد بين النساء والرجال، أو الحؤول دون إقصاء مجموعات كبيرة من بني البشر ـ في كل دولة ودولة ـ بسبب العرق، الدين أو القومية، أو وقف تضبيط الشابات والشبان وتصنيفهم وتوجيههم ـ للتعليم الأكاديمي أو للتعليم المهني.
والنمو، حتى حين تكون انعكاساته إيجابية، لا يمكن أن يشكل رؤية مستقبلية جماعية. يتعين علينا الخروج من الصندوق الاصطلاحي الذي وضعه كينز وكوزنيتس. فهذا الصندوق، الذي خدم أعمالا خيّرة عديدة طوال أجيال، أصبح يسدّ اليوم مجال الرؤية.
إن النمو، في حد ذاته، لا يستطيع إحداث تغييرات اجتماعية جوهرية. فهذه التغييرات، خلافا لـ "الإصلاحات البنيوية" التي يقترحها علماء الاقتصاد صبح مساء وكل غايتها الدفع نحو تحقيق النمو، ليست مشروطة بالنمو بالضرورة: تغيير السياسة التي توجِّه أبناء الشبيبة من طوائف وقوميات مختلفة إلى مسارات تعليمية مختلفة ليس مرهونا بالنمو، كما أن دمقرطة السيطرة على رأس المال ليست مرهونة بالنمو.
غير أن لغة كينز وكوزنيتس لا تزال تنجح في التمويه وإخفاء هذه كلها عن أعيننا. ذلك، أولا، لأن هذه اللغة مشتركة لجميع المعسكرات السياسية ـ الحزبية: فهي ليست لغة التكنوقراطيين و"قباطنة الاقتصاد" وحدهم فقط، بل هي لغة المعسكر الاشتراكي ـ الديمقراطي أيضا.
الفرق بين الاشتراكيين ـ الديمقراطيين وبين اليمين الليبرالي أو النيو ليبرالي يتجسد، أساسا، في الطرق المعتمدة لبلوغ الهدف المشترك، الذي هو ـ كما ذكرنا ـ نمو اقتصادي يُنتج فرصا جديدة للعمل. المعسكر الثاني يدعو إلى تسريع وتيرة النمو بواسطة وضع مقود القيادة والتحكم بين يدي القطاع التجاري. وبينما يدعو المعسكر الأول إلى زيادة ورفع الضرائب لإتاحة المجال أمام تقديم الخدمات الاجتماعية التي تزيد، بدورها، وتائر ومعدلات النمو المستقبلي، يدعو المعسكر الثاني إلى خفض الضرائب من أجل تمكين أصحاب الرساميل من الاستثمار في الاقتصاد المحلي، بافتراض أن النمو سيوفر للجميع وسائل كافية لرفع مستوى الرفاه الفردي والعائلي.
ومع ذلك، يتعين علينا اختراق الحواجز نحو حدود الرؤية التي تمليها وتفرضها لغة كينز وكوزنيتس. ففي عصر التصنيع والتحريج، مع بداية القرن العشرين، كان من المنطقي الادعاء بأن الاشتراكية ـ الديمقراطية تعني التحرر من النقص، كم الأمراض، من الجهل، الإهمال والتسكع، ولذا فقد كان من المنطقي الادعاء، أيضا، بأن السياسة الاشتراكية ـ الديمقراطية ينبغي أن تتمحور في النمو، التشغيل والرفاه. أما اليوم، وبعد 70 عاما على إرساء دولة الرفاه في الدول الغربية، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، أصبحنا ندرك أن سياسة تشجيع النمو لا تعني، بالضرورة، رفع مستوى المعيشة وأن سياسة التشغيل الكامل لا تعني، بالضرورة، ضمان عيش كريم وأن إرساء منظومات الرفاه الاجتماعي لا تعني بالضرورة التغلب على الميل نحو اعتبار قليلي الإمكانيات والموارد مسؤولين عن