المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
جنود من قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية في مهمة أثناء جائحة كورونا في 7 شباط 2021. (أ ف ب)
جنود من قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية في مهمة أثناء جائحة كورونا في 7 شباط 2021. (أ ف ب)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1973
  • وليد حباس

في يوم الثلاثاء 29 آذار 2021 أطلقت قيادة "الجبهة الداخلية" الإسرائيلية (المعروفة باسم "بيكود هعورف") صفارات الإنذار في مدينة القدس (بما يشمل كفر عقب) في إطار تدريب يحاكي سقوط صواريخ على المدينة المحتلة. ولأن مدينة القدس (الشرقية والغربية والممتدة من أم طوبا شمالا حتى كفر عقب جنوبا) مقسمة لعدد من الأحياء، فإن التدريب كان يهدف إلى إعادة النظر في هذه التقسيمات لتغدو أكثر دقة بحيث لا يضطر كل سكان المدينة إلى الدخول إلى ملاجئ عندما يتعلق الأمر بوجود تهديد بسقوط صاروخ على حي واحد بعينه.

هذه المقالة تلقي الضوء على قيادة "الجبهة الداخلية"، وعلى نظام صفارات الإنذار المعتمد في إسرائيل حاليا.
والجدير بالذكر أن نظام الإنذار في إسرائيل تطور عبر قفزات نوعية ابتداء من العام 1992، عند تأسيس قيادة الجبهة الداخلية، وصولا إلى شباط 2022 عندما تم إدخال تحسينات ذكية استراتيجية على طرق ونطاق تفعيل أنظمة وصفارات الإنذار في إسرائيل، كما سوف يتضح أدناه.

**********

في الجيش الإسرائيلي ثمة ثلاث "قيادات مناطقية" (Military district)، هي قيادة الشمال، وقيادة الوسط (المسؤولة أيضا عن الضفة الغربية)، وقيادة الجنوب (المسؤولة أيضا عن قطاع غزة). والقيادة المناطقية تكون مسؤولة عن منطقة جغرافية محددة، وتشكل مرجعية عسكرية عليا لكل القوات العسكرية العاملة داخل هذه المنطقة الجغرافية (مشاة، مدرعات، سلاح الهندسة، الجو وغيرها). في العام 1992، تمت إضافة قيادة جديدة غير قتالية، باسم قيادة "الجبهة الداخلية" لتكون مسؤولة عن حماية المدنيين والبنى التحتية في جميع أنحاء إسرائيل، بالإضافة إلى دورها في تجهيز الحيز المكاني (كل دولة إسرائيل) وسكان هذا الحيز قبل الهجوم، ودعم هذا الحيز في أوقات المواجهة وفي أثناء القيام بعمليات الإنقاذ، ثم المساعدة في إعادة تأهيل الحيز المدني بشكل سريع بعد المواجهة.

تمت إقامة قيادة الجبهة الداخلية في العام 1992 في أعقاب الحرب على العراق وبعد أن تعرضت الجبهة الإسرائيلية الداخلية إلى خطر حقيقي نتيجة سقوط عشرات الصواريخ العراقية عليها. في البداية، امتد نطاق عمل قيادة الجبهة الداخلية من عكا وحتى حدود غزة، بحيث أن شمال إسرائيل (الجليل الأعلى المحاذي للحدود اللبنانية) بالإضافة إلى جنوب إسرائيل (بما يشمل قطاع غزة) ظلا خارج نطاق عمل قيادة الجبهة الداخلية. والسبب هو أن هاتين المنطقتين تعتبران حساستين من الناحية الأمنية، وبالتالي لم يكن باستطاعة قيادة الجبهة الداخلية في حينها أن تتدخل في هذين الحيزين الجغرافيين لما للأمر من تبعات على تحريك وإعادة موضعة باقي قوات الجيش العاملة فيهما، وهو أمر لم تكن قيادة الجبهة الداخلية جاهزة له قبل العام 1999. بعد العام 1999، أصبحت قيادة الجبهة الداخلية مسؤولة عن كل دولة إسرائيل. وبالنظر إلى تفاصيل مهمات هذه القيادة، يتضح مدى استراتيجية عملها وحيويته، إذ أن صلاحياتها تتقاطع مع كل هيئات ومؤسسات الدولة (الوزارات، أنظمة الإنقاذ، الجيش، السكان، السلطات المحلية، البنية التحتية... إلخ)، خصوصا في أثناء حصول هجوم ، على النحو التالي:

1. صياغة ونشر دليل الدفاع المدني والتحديث المستمر للإجراءات الواجب اتباعها.
2. تحضير وتنفيذ خطط الدفاع المدني عن الدولة بأكملها أو أي منطقة معينة من أراضيها.
3. الاشراف على، وتوجيه ومتابعة تشغيل أجهزة نجمة داوود الحمراء (الإسعاف الأولي) في إسرائيل وخدمات الإطفاء والإنقاذ وغيرها من منظمات الإغاثة فيما يتعلق بأداء دورها في مجال الدفاع المدني.
4. توجيه السكان في أثناء وقوع هجوم.
5. توجيه السلطات المحلية في كيفية أداء دورها في أمور الدفاع المدني.
6. تنسيق أنشطة الوزارات الحكومية والمؤسسات الخاصة والبنية التحتية الوطنية ومؤسسات الطوارئ في شؤون الدفاع المدني.
7. رسم سياسة الدفاع المدني في كافة المجالات وبالتنسيق مع قيادات الشمال والوسط والجنوب.
8. العمل كسلطة مختصة، بالمعنى القانوني، في موضوع المأوى بالإضافة إلى العمل كسلطة.
9. تحديد طريقة إصدار التنبيه للمواطن بما في ذلك تحديد إشارات التنبيه وصفارات الانذار وتفعيلها في مختلف الوسائل المتاحة.
10. بناء نظام لكشف وتحديد ورصد وتنقية المناطق المصابة بالأسلحة الكيماوية والبيولوجية في الجبهة الداخلية وتفعيلها في أثناء فعالية الدفاع المدني.
11. تخزين وتشغيل نظام لتوزيع حقائب الحماية الشخصية والكمامات على السكان.

قيادة غير قتالية

تتبع قيادة الجبهة الداخلية مباشرة للجيش الإسرائيلي وقيادة هيئة الأركان، لكنها قيادة غير قتالية. وعليه، فإن نظرة سريعة إلى هرميتها وبنيتها الداخلية قد تكون ذات دلالة، خصوصا لجهة فهم طبيعة التقاطع الذي ترسمه هذه القيادة ما بين العسكر والمدنيين في إسرائيل. بداية، تضم قيادة الجبهة الداخلية لواء باسم "لواء الإنقاذ والتوجيه"، وهو لواء عادة ما يكون متمركزاً في مناطق محاذية للضفة الغربية أو بداخلها. وينطوي هذا اللواء على أربع كتائب إنقاذية هي: كتيبة شاحر (أقيمت العام 2008)، وفي أثناء الحرب مع غزة في العام 2014 التحقت مع القوات الإسرائيلية المقاتلة بهدف الكشف عن الأنفاق والمساعدة في إخلاء الجرحى من تحت الأنقاض. وكتيبة كيتم (أقيمت في العام 2009) وأثناء الحرب مع غزة عام 2014 تمركزت في منطقة بئر السبع للمساعدة في إنقاذ الإسرائيليين من تحت الأنقاض. وهناك كتيبتا تبور ورام (أقيمتا في العام 2012) وتعملان داخل الضفة الغربية وتشاركان أيضا في عمليات إنقاذ في أرجاء العالم.

بالإضافة إلى "لواء الإنقاذ والتوجيه"، يمكن النظر إلى قيادة الجبهة الداخلية على أنها مقسمة إلى 5 مديريات هي: الشمال، حيفا، تل أبيب، القدس، الجنوب. وتنقسم المديريات إلى 20 ناحية فرعية، وكل منطقة فرعية تقابل، تقريبا، منطقة فرعية تابعة للشرطة الأمر الذي يسهل التعامل مع الجغرافيا وربط سكان كل ناحية فرعية بأجهزة الدولة الشرطية والانقاذية. في كافة النواحي الفرعية توجد 26 وحدة عسكرية مرتبطة بالمستشفيات وتقوم على التنسيق بين الجيش والجهاز الصحي المدني. وبالإضافة إلى الكتائب الإنقاذية الأربع التي تم ذكرها أعلاه، تضم قيادة الجبهة الداخلية 8 كتائب مشاة خفيفة و6 وحدات لوجستية مكانية.

ولا بد من الإشارة إلى أن قيادة الجبهة الداخلية تطورت منذ العام 1992 باعتبارها قيادة عسكرية تهدف إلى حماية السكان الإسرائيليين من الصواريخ والقذائف. بعد أن انتهت الحرب الخليجية على العراق في العام 1991، اتضح لإسرائيل بأن خطر التعرض للصواريخ لا يأتي فقط من قبل جيش نظامي (مثل الجيش العراقي في عهد صدام حسين) وانما أيضا من قبل جيوش غير نظامية مثل حماس وحزب الله. وعليه، انصرف جل اهتمام قيادة الجبهة الداخلية إلى تحضير الحيز المكاني والسكان المدنيين لهجمات صاروخية وضمان: 1) أقل عدد من الإصابات؛ 2) أسرع آلية لتحذير السكان الإسرائيليين قبيل سقوط الصاروخ؛ 3) إعداد البنية التحتية التي تشمل ملاجئ وطرق إمدادات لوجستية لتسهيل علميات الإنقاذ. لكن فيما بعد، توسع عمل قيادة الجبهة الداخلية. بالإضافة إلى خطر الصواريخ الذي ما يزال يصنف من أهم وظائف هذه القيادة، تهتم القيادة أيضا بالزلازل، الحرائق الكبرى، مخاطر الأسلحة الكيميائية، غيرها من الكوارث سواء البشرية أو الطبيعية التي لا تتسبب بها الحروب.

من هنا تولي قيادة الجبهة الداخلية اهتماما كبيرا لتطوير نظام الإنذار والتنبيه (وبالتحديد صفارات الإنذار) المتعلقة بهجمات صاروخية محتملة. في العام 1997، تم تقسم دولة إسرائيل (بالإضافة إلى منطقة الضفة الغربية والقدس) إلى 10 مناطق كبرى، بحيث أن احتمالية سقوط صاروخ في واحدة من هذه المناطق يستدعي تشغيل صفارات إنذار في كل المنطقة. بدا الأمر وكأنه بدائي وغير محترف إذ أن اتساع مساحة كل منطقة يعني أن هناك سكاناً سيهرعون إلى الملاجئ على الرغم من أن قيادة الجبهة الداخلية تدرك أن احتمالية إصابتهم تكاد تكون صفرية. تطور عمل قيادة الجبهة الداخلية بعد الحرب على غزة في العام 2014 التي استخلصت منها إسرائيل العديد من العبر، وبحلول العام 2017 كانت إسرائيل مقسمة إلى حوالي 255 منطقة إنذار. هذا استدعى تطوير تكنولوجيا الإنذار والتوقعات، وبالتالي عدم إرباك قطاعات واسعة من السكان بدون وجود خطر حقيقي على حياتهم. في العام 2019، حدث تطور نوعي آخر في تكنولوجيا الرصد والتوقع بحيث بدأ تقسيم إسرائيل إلى مناطق بناء على المدن والبلدات والقرى، بحيث أن إسرائيل في العام 2022 تحتوي على حوالي 1700 منطقة إنذار. هذا يعني أن قيادة الجبهة الداخلية تحسنت إلى درجة كافية من خلالها تستطيع أن تنذر (أو تطلق صفارات إنذار في) بلدة واحدة وتستثني البلدات المجاورة وفق خوارزميات تأكدية عالية الدقة. وربما يعود السبب إلى أن غرفة عمليات قيادة الجبهة الداخلية كانت قد انتقلت في العام 2012 إلى مبنى "مركز إدارة الأحوال البالستية". وهذا المركز يتبع بالأساس إلى سلاح الجو الإسرائيلي، ومتواجد في إحدى القواعد العسكرية التابعة لسلاح الجو، وهو مركز مجهز بتقنيات رصد ورادارات عالية الدقة للكشف عن كل تهديد جوي (سواء صاروخ، طائرة بدون طيار، أو بالون محترق.. إلخ) قد يخترق أجواء إسرائيل. ولأن عمل هذا المركز حساس، بحيث أن تدميره قد يحيد كل عمل قيادة الجبهة الداخلية، فإن مكان تواجده يظل سرياً.

وجدير بالذكر أن مهمات قيادة الجبهة الداخلية راوحت مكانها باعتبارها قيادة مسؤولة عن حماية الإسرائيليين من خطر الصواريخ، واتسع نطاق مهماتها في شباط 2022 ليشمل تقنيات "الإنذار متعدد الأسباب". هذا يعني أن أنظمة الإنذار، وتشغيل صفارات الإنذار، لم تعد تتلقى بيانات فقط من "مركز إدارة الأحوال البالستية" التابع لسلاح الجو والمتعلق بأخطار قادمة من الجو مثل الصواريخ، وإنما بات يشمل أيضا تهديدات أرضية (خوف من اقتحام أو تسلل)، وتهديدات ما تحت أرضية (الزلازل بقوة 4.5 درجة وما فوق)، وتهديدات بحرية (خوف التسونامي)، وتهديدات كيميائية (حربية أو غير حربية). قد لا تدل هذه القفزة في عمل قيادة الجبهة الداخلية على انخفاض الاهتمام بالهجمات الصاروخية التي يمكن ضبطها بأساليب أخرى، بقدر ما أنه يدل على محاولات إضفاء شعور بالأمان "شبه الشامل" (ليس فقط تهديدات بشرية من الحروب، وإنما تهديدات طبيعية) على سكان إسرائيل.

على الرغم من أن قيادة الجبهة الداخلية تطورت كاستجابة لخصوصية إسرائيل كدولة مهددة صاروخيا من قبل العديد من اللاعبين، إلا أن إسرائيل تأخذ قيادة الجبهة الداخلية إلى مساحات عمل أوسع من خلالها تقيم علاقات دولية مع أجهزة إنقاذ أجنبية بهدف التعلم وتطوير الـ "C.V." الخاص بها. على ما يبدو، فإن إسرائيل تستثمر في أجهزتها الأمنية والعسكرية، باستمرار، لتسوّق نفسها باعتبارها رائدة في المجال العسكري، الأمر الذي يسمح لها بتطبيع نفسها كدولة متقدمة. تحديدا، فإن قيادة الجبهة الداخلية، والتي تركز عملها على الإنقاذ، والتحذير، وسلامة السكان "الأبرياء"، تعتبر جهازا ملائما جدا لتسويق صورة إسرائيل "الإنسانية". هنا، لا بد من الإشارة إلى أن قيادة الجبهة الداخلية كانت قد شاركت في العديد من العمليات العالمية مثل: عمليات إنقاذ بعد تفجير مبنى مؤسسات يهودية في الأرجنتين في العام 1994 (تم اتهام حزب الله اللبناني به)؛ تفجير سيارة مفخخة بالقرب من السفارة الأميركية في كينيا في العام 1998؛ عمليات إنقاذ عقب وقوع زلزال في تركيا في آب ثم مرة أخرى في تشرين الثاني في العام 1999؛ تفجير سيارة في فندق في طابا في العام 2004؛ هزة أرضية في سيريلانكا في العام 2004؛ هزة أرضية في هاييتي في العام 2010؛ هزة أرضية في اليابان في العام 2011؛ هزة أرضية في نيبال في العام 2015؛ هزة أرضية في المكسيك في العام 2017؛ انهيار سدّ في البرازيل في العام 2019؛ انهيار مبنى في ميامي في الولايات المتحدة في العام 2021. كل هذه المشاركات من شأنها أن توسع نطاق خبرة قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية وفي الوقت ذاته أن تسوقها (بالإضافة إلى تسويق دولة إسرائيل) كدولة "إنسانية" ذات خبرات متقدمة.

 

المصطلحات المستخدمة:

كيتم, طائرة بدون طيار

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات