المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يكشف تقرير جديد أصدره مركز "أدفا ـ معلومات حول المساواة والعدالة الاجتماعية في إسرائيل"، في بداية شهر آب الجاري، عن مدى عمق الفجوات بين السلطات المحلية المختلفة في إسرائيل، استنادا إلى المعطيات الرسمية بشأن المخصصات الحكومية لهذه السلطات، ويؤكد النتيجة المركزية التي تكرسها السياسات الاقتصادية ـ الاجتماعية الحكومية في واقع السلطات المحلية المختلفة وسكانها: استمرار تعمق هذه الفجوات، برغم الزيادة الحاصلة في مخصصات البلدات (السلطات المحلية) الفقيرة، مقابل استمرار تفضيل المستوطنات الإسرائيلية في المناطق الفلسطينية على كل ما سواها من سلطات محلية في داخل إسرائيل!

ينوّه معدّا التقرير، في مقدمته، إلى حقيقة أن السجال العام حول موضوعة "اللامساواة" (انعدام/ غياب المساواة) في إسرائيل يتمحور، عادة، حول قضايا الأجور، التعليم والثقافة، كما تشكل الميزانية العامة للدولة أيضا محوراً للبحث والسجال بمنظور المساواة والعدالة الاجتماعية، بينما لا توضع قضية "اللامساواة" في ميزانيات السلطات المحلية على طاولة البحث والنقاش العامّين، عادة، بالرغم من أن مستوى الخدمات التي تقدمها هذه السلطات للسكان يشكل، في حد ذاته، "عاملا هاما جدا في تشكيل حالة اللامساواة الاجتماعية، تكريسها ومفاقمتها"، كما يؤكدان.

من هنا، يأتي هذا التقرير (الذي صدر تحت عنوان "المساهمة الحكومية في تمويل ميزانيات السلطات المحلية، 1997- 2016) لمعالجة "مركّب واحد فقط من مركّبات ميزانيات السلطات المحلية في إسرائيل، وهو: مساهمة (حصة) الحكومة في تمويل ميزانيات هذه السلطات"، ذلك أن الحكومة الإسرائيلية "تساهم" في تمويل جزء كبير من الخدمات التي تقدمها السلطات المحلية للمواطنين. وتسمى هذه المساهمة الحكومية "باللغة البيروقراطية" ـ كما يقول التقرير ـ "الدخل المُخَصَّص"، نظرا لكونها "مساهمة حكومية مخصصة لتمويل مصروفات محلية محددة"، مثل: خدمات التعليم، الصحة والرفاه الاجتماعي، التخطيط والبناء، شق وتعبيد الشوارع وإنارتها، الحدائق البلدية العامة والأمن المحلي.

ثمة لهذه المساهمة الحكومية في تمويل الخدمات الاجتماعية المحلية المختلفة أهمية كبيرة، بل كبيرة جدا، وخاصة في السلطات المحلية (البلدات) قليلة الموارد المحلية الذاتية. فبينما تستطيع السلطات المحلية المقتدرة اقتصاديا تمويل خدماتها للمواطنين ـ أو جزء كبير منها، على الأقل ـ من مصادرها الذاتية، فإن هذا غير ممكن وغير متاح للسلطات المحلية الفقيرة، التي لا تمتلك موارد ذاتية إطلاقا أو التي تمتلكها بصورة محدودة جدا.

البلدات العربية و"بلدات التطوير" في أسفل اللائحة

يقوم تقرير "أدفا" الجديد، الذي أعده الباحثان شلومو سفيرسكي وإيتي كونور أطياس، على مقارنة المعطيات الرسمية بشأن المخصصات المالية الحكومية لأنواع مختلفة من السلطات المحلية على مدى عقدين من الزمن يمتدان من سنة 1997 إلى سنة 2016 (يشير معدا التقرير إلى أن اختيار سنة 1997 لم يأت صدفة، إذ إنها السنة الأولى التي تتوفر عنها معطيات تتيح التمييز بين "مستوطنات حريدية" و"مستوطنات غير حريدية"). وهو يفحص حجم "المساهمة" (المخصصات) الحكومية للسلطات المحلية موزعة على أربع فئات مركزية: السلطات المحلية في البلدات الغنية، أو "المستقلة" ("منتدى الـ 15")، بلدات التطوير، البلدات العربية والمستوطنات (التي يقسمها التقرير أيضا إلى فئتين: "مستوطنات حريدية" و"مستوطنات غير حريدية").

يظهر من هذه المقارنة، أولاً وبصورة أساسية، استمرار التفضيل الحكومي للمستوطنات الإسرائيلية في المناطق المحتلة عامة في كل ما يتعلق بالمخصصات المالية الحكومية، لكن وسط تمييز داخلي بين هذه نفسها حتى، فكانت "المستوطنات غير الحريدية" ـ كما عرّفها التقرير ـ صاحبة المتوسط الأعلى من الصرف على الفرد الواحد من ميزانياتها العادية (7997 شيكل للفرد سنويا، بالمعدل)، بينما كانت "المستوطنات الحريدية" ـ وفق تعريف التقرير، أيضا ـ (وهي مستوطنات: بيتار عيليت، موديعين وعمانوئيل) صاحبة المتوسط الأدنى من الصرف على الفرد الواحد من الميزانية العادية (3868 شيكل للفرد سنويا، بالمعدل). ويوضح التقرير هنا تمييزه بين "مستوطنات حريدية" و"مستوطنات غير حريدية" بالقول إن الأولى (الحريدية) هي "نتاج غياب حلول قليلة التكلفة لأزمة السكن بين اليهود الحريديم الذين هم، في غالبيتهم، من الفقراء، نسبيا، بينما الثانية (غير الحريدية) هي، في غالبيتها الساحقة، مستوطنات "إيديولوجية" لكونها تتبنى الطروحات السياسية اليمينية وتسعى إلى تكريس السيطرة الإسرائيلية الدائمة على المناطق الفلسطينية". ويضيف: "خلافا للمستوطنات غير الحريدية/ الإيديولوجية، القائمة في قلب المناطق الفلسطينية، فإن المستوطنات الحريدية قائمة بالقرب من "الخط الأخضر" ولا يتوقع أن تشكل عقبة جدية أمام تسوية سياسية مستقبلية".

أما في البلدات الغنية / المستقلة ("منتدى الـ 15")، فكان متوسط الصرف على الفرد الواحد من الميزانية العادية نحو 7834 شيكل سنويا؛ تليها "بلدات التطوير" التي بلغ فيها متوسط هذا الصرف نحو 7206 شواكل سنويا، ثم البلدات العربية التي بلغ متوسط الصرف على الفرد الواحد فيها نحو 5700 شيكل سنويا.

كما حلل الباحثان، أيضا، "المساهمة الحكومية" ("الدخل المُخَصَّص") في ميزانيات السلطات المحلية، فتبين أنها ارتفعت، على المستوى القُطري، من 8 مليارات شيكل بالمجمل في العام 1997 إلى 5ر18 مليار شيكل في العام 2016، وهو ما يعني زيادة بنسبة 132%. ومع ذلك، بيّنت المعطيات التي أوردها الباحثان أن الزيادة في هذه الميزانيات توزعت بصورة مختلفة، غير متساوية، بين الفئات الأربع المختلفة المذكورة أعلاه من السلطات المحلية.

لكن قبل الخوض في دلالات هذه الزيادات وانعكاساتها، يجري الباحثان فحصا لهذا "الدخل المخصص" بالنسبة للفرد الواحد، وهو ما يستوجب فحص معدلات الزيادة السكانية في الفئات الأربع من البلدات/ السلطات المحلية، كما وردت أعلاه، أولاً. وفي هذا، بيّنت المعطيات الرسمية أن الزيادة الأكبر في عدد السكان خلال فترة الدراسة ـ العقدان من 1997 حتى 2016 ـ سُجلت في المستوطنات في الضفة الغربية الفلسطينية وبلغت نسبتها الإجمالية 2150%!! أما لدى التمييز بين "المستوطنات الحريدية" و"المستوطنات غير الحريدية"، فتبين أن نسبة الزيادة السكانية في الأولى بلغت 474%، بينما بلغت في الثانية 107%. وفيما بلغت الزيادة السكانية في "بلدات التطوير" 34%، بلغت في "بلدات منتدى الـ 15" 30% وفي البلدات العربية 66%، في حين كانت نسبة الزيادة السكانية على المستوى القطري العام (في إسرائيل كلها)، خلال العقدين المذكورين، 46%.

وبينما بلغ "الدخل المخصص" (المساهمة الحكومية) للفرد في "المستوطنات غير الحريدية" في العام 1997 نحو 119ر2 شيكل سنويا، كان "الدخل المخصص" للفرد في "المستوطنات الحريدية" في العام نفسه نحو 789 شيكل سنويا، أي بفارق كبير جدا. واستمر هذا الفارق على حاله حتى العام 2016 أيضا، إذ بلغ "الدخل المخصص" للفرد في "المستوطنات غير الحريدية" (في 2016) نحو 3248 شيكل سنويا، مقابل 1486 شيكل في "المستوطنات الحريدية"، وذلك بالرغم من الزيادة السكانية الكبيرة جدا التي حصلت فيها خلال العقدين المذكورين بالمقارنة مع تلك الأولى، كما أشرنا أعلاه (474% في المستوطنات الحريدية، مقابل 107% في المستوطنات غير الحريدية). أما في البلدات العربية، فقد بلغ "الدخل المخصص" للفرد، في العام 2016، نحو 2700 شيكل سنويا، مقابل 2220 شيكل في "بلدات التطوير" و1915 شيكل في بلدات "منتدى الـ 15".

ولدى دمج المعطيات عن الميزانيات مع المعطيات الديمغرافية عن الزيادة السكانية، تظهر صورة الفجوات العميقة بين البلدات من الفئات الأربع المختلفة. وفي حساب "الدخل المخصص" (المساهمة الحكومية) للفرد الواحد، يتبين أن هذه الميزانيات ارتفعت في "المستوطنات الحريدية" بنسبة 91%، في "المستوطنات غير الحريدية" وفي بلدات "منتدى الـ 15" بنسبة 52% في كل منها، بينما ارتفعت في بلدات التطوير بنسبة 25% وفي البلدات العربية بنسبة 108%.

لكنّ الباحثين يؤكدان هنا أن الزيادة في البلدات العربية ـ وهي الأعلى، كما تبين المعطيات ـ تؤكد أن الزيادة المستمرة في "المساهمة الحكومية" (الدخل المخصص) للفرد الواحد في البلدات العربية، في إطار الميزانيات العادية (من 1311 شيكل في العام 1997، إلى 1747 شيكل في العام 2001، إلى 1822 شيكل في العام 2006، إلى 2184 شيكل في العام 2012، إلى 2339 شيكل في العام 2013، ثم انخفاضها إلى 2327 شيكل في العام 2014، ثم ارتفاعها مرة أخرى إلى 2586 شيكل في العام 2015 وإلى 2722 شيكل في العام 2016) "هي زيادة تأتي بعد عقود عديدة من التمييز والغبن والإهمال". والأهمّ، كما يضيفان، أن "المركّب الأساس في المساهمة الحكومية للبلدات العربية هو المساهمة في تمويل خدمات التعليم، وخاصة تمويل أجور المعلمين في المدارس فوق الابتدائية ـ الإعدادية والثانوية ـ علماً بأن أجور المعلمين في المدارس الابتدائية ممولة من وزارة التربية والتعليم مباشرة، إضافة إلى تمويل خدمات أخرى تتعلق بالجهاز التعليمي، مثل السفريات وغيرها. ولهذا، فإن المساهمة الحكومية للسلطات المحلية مباشرة هي أقل من ذلك بكثير"!

حصة الأسد للمستوطنات وفجوات عميقة!

تدل المعطيات التي يوردها التقرير، بصورة واضحة، على أن المستوطنات عامة، وتلك المسماة "المستوطنات غير الحريدية" منها خاصة، هي التي تحظى بحصة الأسد من "المساهمة الحكومية" (الدخل المخصص) للسلطات المحلية، على مدى سنوات العقدين اللذين يتطرق إليهما البحث، وهو ما يتجسد خاصة في المعطيات عن "الصرف على الفرد الواحد" بين الأعوام 2006 و2016، وذلك بالمقارنة مع السلطات المحلية (البلدات) من جميع الفئات الثلاث الأخرى.

يختار الباحثان "التوقف، بصورة خاصة، وبإيجاز، عند معطيات الدخل المخصص لثلاث من بين فئات البلدات الأربع التي حددها التقرير: المستوطنات (حريدية وغير حريدية)، بلدات التطوير والبلدات العربية". وفي التطرق إلى البلدات العربية، يؤكد الباحثان حقيقة معاناة هذه البلدات على مدى عقود طويلة متواصلة من الغبن والتمييز في "المساهمة الحكومية"، بفارق كبير جدا عن البلدات اليهودية على اختلاف تصنيفاتها. ثم يضيفان أن "نقطة التحول كانت في النصف الأول من التسعينيات، إبان حكومة إسحاق رابين، ثم ارتفعت "المساهمة الحكومية" للفرد الواحد فيها خلال العقدين اللاحقين بنسبة 108% وبلغت 2722 شيكل للفرد سنويا".

لكن، رغم ذلك، لا تزال البلدات العربية تقبع في المرتبة الأخيرة، في أسفل السلم، من حيث مستوى معيشة السكان، من جهة، ومن حيث قدرة السلطات المحلية على تقديم الخدمات الضرورية لسكانها بمستوى لائق وقدرتها على إطلاق مبادرات ومشاريع تطويرية في بلداتها، من جهة أخرى. ويؤكد التقرير هذه الحقيقة بالاستناد إلى معطيات "المصروفات في الميزانيات العادية" (بدون ميزانيات التطوير) ومن خلالها، وهي التي تجسد هذين المعيارين" (مستوى المعيشة وقدرة السلطات المحلية).

ثم ينتقل الباحثان إلى عرض معطيات رسمية عن "هبات الموازنة" (وهي مساعدات خاصة تقدمها الحكومة للسلطات المحلية المختلفة ذات الدخل الذاتي المتدني)، إذ تتبين فيها، أيضا، فوارق وفجوات كبيرة جدا بين الفئات الأربع المذكورة من السلطات المحلية، وتحظى المستوطنات "الإيديولوجية" بحصة الأسد منها، بفارق كبير جدا عن كل البلدات الأخرى. وفي ضوء هذه المعطيات كلها، يجزم الباحثان أن "السطر الأخير، في تقريرنا هذا هو: فوارق وفجوات كبيرة وعميقة في الميزانيات الحكومية للسلطات المحلية المختلفة".

 

المصطلحات المستخدمة:

بيتار, موديعين, الخط الأخضر

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات