تقرير جديد لمنظمة "يش دين" عن أعمال الحراسة وحفظ الأمن في المستوطنات
"فضاء متوحش"ـ صلاحيات واسعة للمستوطنين في مجال "الحراسة"، دون رقابة أو إشراف!
*"قوات شبه عسكرية" تعمل في المستوطنات، تموّلها وزارة الدفاع الإسرائيلية، يزودها الجيش بأسلحته وتخضع، مباشرة، للمستوطنات ذاتها التي تعتبر المشغّل المباشر لها!* هذا الوضع يؤدي إلى نشوء بؤر احتكاك عديدة ووقوع مواجهات، يومية تقريبا، بين أفراد فرق التنسيق الأمني وفرق الحراسة الاستيطانية هذه، من جهة، وبين السكان الفلسطينيين عامة، والمزارعين منهم خاصة، من جهة ثانية، وخاصة حينما يقوم هؤلاء "الأمنيون" في حالات كثيرة، متكررة ومتنوعة، بمنع المزارعين الفلسطينيين من فلاحة أراضيهم، بل من مجرد الوصول إليها ويتيح للمستوطنين، أيضا، الاستيلاء على أراض فلسطينية خاصة ثم البناء عليها، دونما رقيب أو حسيب، وعلى نطاق واسع*
ليس من الطبيعي أن يبحث المرء العاقل عن "سيادة القانون" في ظل الواقع الاحتلالي والاستيطاني السائد في المناطق الفلسطينية، وخاصة في الضفة الغربية. غير أن ما تجيزه السلطات الإسرائيلية، المدنية والعسكرية ـ الأمنية على اختلاف أذرعها ومستوياتها، من "أنظمة" وممارسات ميدانية دونما حسيب أو رقيب يحوّل الواقع بمجمله إلى "فضاء متوحش"، كما يقول عنوان التقرير الأخير الذي أصدرته منظمة "يش دين" الإسرائيلية ("منظمة متطوعين لحقوق الإنسان") في منتصف شهر أيلول الأخير وخصصته لرصد ومعالجة ظاهرة قديمة، لكنها مستفحلة، في المستوطنات الكولونيالية المنتشرة على طول مناطق الضفة الغربية وعرضها تتمثل في خصخصة صلاحيات الأمن وتطبيق القانون ووضعها بين أيدي "مسؤولي الأمن العاملين في المستوطنات والبؤر الاستيطانية العشوائية".
ويتناول تقرير "يش دين" هذا، الذي يحمل عنوان "الفضاء المتوحش ـ نقل صلاحيات العمل الشرطيّ والأمنيّ لمركّزي (مسؤولي) الأمن العسكريين في المستوطنات والبؤر العشوائية"، عمل هؤلاء المسؤولين عن التنسيق الأمني الجاري، اليومي، ومنظومة العلاقات التي تحكم عملهم، صلاحياتهم وأنشطتهم، بما يبيّن على نحو جليّ وفاضح حالة الفوضى "السلطوية" العارمة السائدة في كل ما يتصل بتطبيق القانون في تلك المناطق، علاوة على ما يشكّله "جهاز مركزّي الأمن" هذا من فعلٍ تقويضيّ لما يسمى "سيادة القانون" في الضفة الغربية إلى درجة أفراغها من أي مضمون حقيقي، بما يجسد ـ في المحصلة ـ جانبا إضافيا آخر من نقض دولة إسرائيل وأذرعها الاحتلالية واجبها الأساس، القانوني والسياسي، في كل ما يتعلق بحماية المواطنين الفلسطينيين في الضفة الغربية، كجزء من شعب واقع تحت الاحتلال.
ويؤكد التقرير حقيقة التناقض الصارخ في تبعية مسؤولي التنسيق الأمني الميداني وأفراد فرق الحراسة في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، إذ أنها "قوات مدنية شبه عسكرية" تتألف من سكان المستوطنات والبؤر الاستيطانية العشوائية أنفسهم وتناط بها مهمات "حماية المستوطنات والبؤر الاستيطانية". وفي إطار ذلك، يتم تعيين أفراد هذه الفرق والمجموعات من قبل المستوطنات نفسها ويُعتَبرون ممثلين لمصالحها المباشرة، ما يعني أن المستوطنات ـ بمؤسساتها البلدية ـ هي المشغِّل المباشر لهؤلاء. هذا من جهة أولى. ولكنهم، من الجهة الأخرى، يخضعون لقانون "القضاء العسكري" السائد في مناطق الاحتلال ومزوَّدون بالسلاح العسكري التابع للجيش، كما يتم تدريبهم من قبل الجيش أيضا، فيبدو ـ ظاهريا ـ أنهم يخضعون لرقابة الجيش وإشرافه، بينما الأمر ليس كذلك البتّة، على الرغم من امتلاكهم صلاحية القيام بمهام شُرَطيّة بما فيها التفتيش والاعتقال واستخدام القوة.
صلاحيات واسعة دون رقابة وإشراف
ويؤدي هذا التناقض، إلى جانب انعدام أنظمة مكتوبة ومحددة لصلاحياتهم وضعف الإشراف المباشر على نشاطهم، إلى نشوء بؤر احتكاك عديدة ووقوع مواجهات، يومية تقريبا، بين أفراد فرق التنسيق الأمني وفرق الحراسة الاستيطانية هذه، من جهة، وبين السكان الفلسطينيين عامة، والمزارعين منهم خاصة، من جهة ثانية، وخاصة حينما يقوم هؤلاء "الأمنيون" في حالات كثيرة، متكررة ومتنوعة، بمنع المزارعين الفلسطينيين من فلاحة أراضيهم، بل من مجرد الوصول إليها.
وكانت دولة إسرائيل قد بدأت بتشكيل وتفعيل "قوات شبه عسكرية" كهذه في المستوطنات المنتشرة في الضفة الغربية ابتداء من العام 1971. ولكن، وعلى الرغم من مرور ما يزيد عن أربعين عاما، لا تزال جوانب أساسية من عمل هذه "القوات" ونشاطها تفتقر إلى معايير وأنظمة محددة تنظمها وتضعها في إطار بنيوي وقانوني واضح. ومن هذه، مثلا، انعدام قواعد ومعايير تحدد مهمة الجيش ومسؤوليته في الإشراف على تعيين مسؤولي التنسيق الأمني وفرق الحراسة وطبيعة العلاقة ما بين أفراد هذه الفرق من جهة، وجنود الجيش العاملين في المستوطنات أو قوات عسكرية أخرى، من جهة ثانية، فضلا عن كل ما يتعلق بالمناطق والحدود الجغرافية التي يُسمَح لهذه الفرق "شبه العسكرية" بالتحرك والعمل في نطاقها.
وفي إطار حالة الفوضى البنيوية والهرمية هذه، تتوزع المسؤولية عن عمل هذه "القوات شبه العسكرية"، في الوقت الراهن، بين ثلاث جهات لا تلتقي مصالحها المشتركة دائما، بل قد تنشأ حالات من تضارب المصالح فيما بينها أحيانا كثيرة، وهي: وزارة الدفاع التي تموّل نشاط هذه الفرق وعملها، الجيش الذي يُفترض به الإشراف المباشر على عملها وممارساتها، والمستوطنات ذاتها التي تعتبر المشغّل المباشر والرسمي لأفراد هذه "القوات".
وفي تموز من العام 2009، تم تعديل الأمر العسكري الخاص بأعمال الحراسة في المستوطنات، إذ صدرت مجموعة جديدة من الأوامر العسكرية التي وضعت وعرّفت حدودا مختلفة لما سمي "منطقة الحراسة" للحراس في كل واحدة من المستوطنات والبؤر الاستيطانية العشوائية، لكنها (الحدود) لم تكن مطابقة للحدود البلدية ولمناطق النفوذ البلدية الرسمية لتلك المستوطنات. وكانت النتيجة العملية لهذه الأوامر (التي حددت "مناطق الحراسة")، في التطبيق الميداني، شرعنة ارتكاب المخالفات، المؤسساتية وغير المؤسساتية، في كل ما يتعلق بإنشاء بؤر استيطانية جديدة وبتوسيع حدود ومناطق المستوطنات القائمة ("القانونية"!)، بما ينطوي على سلب أراض فلسطينية جديدة والاستيلاء عليها، ثم البناء غير القانوني في تلك الأراضي على نطاق واسع، ومن خلال الانتهاك الفظ والصريح، في كثير من الحالات، للأوامر العسكرية وللقرارات القضائية الصادرة عن المحاكم المختلفة، بما فيها "محكمة العدل العليا".
ويؤكد تقرير "يش دين" أن منح هذه "القوات شبه العسكرية"، التي هي مجموعات استيطانية ذات مصلحة مباشرة في الواقع، صلاحيات واسعة كهذه في مجال "فرض وتطبيق القانون"، بما في ذلك صلاحيات شُرَطيّة تشمل استخدام القوة، إجراء التفتيش وتنفيذ الاعتقالات، يمثل قلباً لمصطلح "سيادة القانون" رأساً على عقب. فالسلطات الإسرائيلية المختلفة، المدنية والعسكرية، التي "أخفقت" في فرض القانون في الضفة الغربية المرة تلو الأخرى، وبنقل صلاحياتها في هذا المجال إلى ممثلين عن مجموعات المستوطنين، ذات العلاقة والمصلحة المباشرة، إنما تتجاهل ليس فقط أحكام ونصوص القانون الدولي في كل ما يتعلق بمسؤوليات وواجبات سلطات الاحتلال تجاه المناطق الخاضعة لاحتلالها العسكري، بل تتجاهل أيضا، بصورة علنية وفظة، التشريعات العسكرية الإسرائيلية الخاصة بالمناطق الفلسطينية المحتلة، في كل يتعلق بالبناء غير القانوني (في المستوطنات)، الاستيلاء غير القانوني على الأراضي والسيطرة عليها ومنع الفلسطينيين من الوصول إلى أراضيهم وفلاحتها. وثمة دلالات هدّامة في عملية الطمس والتشويه المتعمدة هذه لمصطلحات أساسية في مجال "سيادة القانون"، وفي مقدمتها المساواة أمام القانون التي تعني منع التمييز والمحاباة في تطبيقه. ذلك أن هذه العملية قد مسّت، ولا تزال تمسّ، بحقوق الفلسطينيين في الملكية وبحقهم في فلاحة أرضيهم والاسترزاق منها.
ويشدد التقرير على أن "تفعيل قوات شبه عسكرية كهذه هو جزء من نهج أوسع: منذ أواسط الثمانينيات، تجري عملية خصخصة حثيثة للصلاحيات الحكومية الرسمية في مجال تطبيق القانون، بما فيها صلاحية الحكومة الأساسية والحصرية في أي نظام ديمقراطي في كل ما يتعلق باستخدام القوة، إذ يتم نقل هذه الصلاحية إلى مجموعات فئوية ذات مصالح مباشرة. وكما جرت عمليات خصخصة مماثلة في داخل إسرائيل في مجالات مختلفة، كذلك هي الحال هنا إذ تجري عملية الخصخصة هذه دونما رقابة حقيقية ودون فحص إسقاطاتها ونتائجها. وفضلا عن ذلك، ثمة لخصخصة الصلاحيات الشرطيّة وصلاحيات تطبيق القانون ووضعها في أيدي مجموعات مصلحية إيديولوجية آثار أكثر ضررا حينما تجري في منطقة خاضعة للاحتلال، حيث أن إقامة المستوطنات، بحد ذاتها، قد تمت من خلال الانتهاك الصارخ لأحكام القانون الدولي وتنطوي على عملية نهب واسعة للأراضي الفلسطينية. ومن هنا، فإن منح هذه الصلاحيات لمجموعات مصلحية كهذه ترفض أحكام القانون الدولي، أصلا وجهرا، يعكس حالة الفوضى السلطوية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بتطبيق القانون في أنحاء الضفة الغربية".
وتعتقد منظمة "يش دين" أن نشاط هذه "القوات شبه العسكرية" ليس أنه لا يخدم النظام العام وسيادة القانون في الضفة الغربية فقط، بل يعود بضرر جسيم عليها، ما يؤدي بالتالي إلى إضعاف قدرة إسرائيل على تنفيذ واجباتها في حماية الفلسطينيين وممتلكاتهم، وفق ما تقتضيه أحكام القانون الدولي.
على الدولة استعادة هذه الصلاحيات!
يؤكد تقرير "يش دين"، في باب "التلخيص والتوصيات" أن منظومة فرق الأمن والحراسة في المستوطنات وفي البؤر الاستيطانية العشوائية في الضفة الغربية تجسد انعدام الحياد من جانب السلطات الإسرائيلية في ما يتصل بتطبيق القانون في المناطق الفلسطينية، إلى درجة إفراغ مصطلح "سيادة القانون" من أي مضمون. ذلك أن هذه المنظومة تمثل التناقض الدائم بين المشروع الاستيطاني، من جهة، وواجبات إسرائيل في مجال حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية والمس بحقوقهم، من جهة أخرى. فالمستوطنات والنقاط الاستيطانية العشوائية هي بمثابة بؤر واسعة لانتهاك حقوق السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية. وهي تشكل، أيضا، مصدرا دائما للاحتكاكات والصدامات المتواصلة على خلفية، وبسبب، الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل، ولا تزال تتخذها، في مجال نهب الأراضي الفلسطينية لأغراض الاستيطان ولصالح مستوطنيها (بما ينطوي عليه من مس بحق الفلسطينيين في الملكية والتملك) وتسبب اعتداء متواصلا على الحق في المساواة، الحق في مستوى معيشي لائق، الحق في حرية الحركة والتنقل والحق في تقرير المصير.
وفي التوصيات، تطالب "يش دين" في تقريرها السلطات الإسرائيلية المعنية بالتحرك السريع لإعادة صلاحيات الأمن والحراسة وتطبيق القانون إلى أيدي الأذرع والهيئات الحكومية الرسمية المسؤولة، قانونيا، عن تطبيق القانون بما يتيح المراقبة والإشراف الفاعلين على كل ما يتعلق بحماية حقوق الإنسان أو حالات انتهاكها.
وسعيا إلى تقليص تعارض المصالح الجوهري الكامن في مجرد وجود هذه "القوات شبه العسكرية" وفي أنشطتها وصلاحياتها، وطالما لم تتم إعادة هذه الصلاحيات إلى الهيئات والأذرع الحكومية والرسمية المختصة بتطبيق القانون في المناطق المحتلة (الجيش الإسرائيلي والشرطة الإسرائيلية في لواء "يهودا والسامرة")، توصي "يش دين" باتخاذ الإجراءات التالية، بصورة فورية وعاجلة:
1.وضع أنظمة وإصدار أوامر خاصة تقضي بأن يتحمل الجيش الإسرائيلي، وحده فقط، مسؤولية تعيين وتشغيل مسؤولي الأمن والحراسة في المستوطنات، من خلال تفضيل أشخاص من غير المستوطنين أنفسهم لهذه المهمة.
2.أن يقوم الجيش بصياغة وإصدار أنظمة وأوامر خاصة تقرّ، على نحو واضح وصريح، إلحاق مسؤولي الأمن والحراسة في المستوطنات بالألوية العسكرية المختلفة وإخضاعهم لمسؤوليتها المباشرة، إلى جانب عدم السماح لهؤلاء بتولي مواقع قيادية على أي من الوحدات والفرق العسكرية المختلفة المنتشرة في داخل المستوطنات أو في مناطق قريبة منها.
3.اتخاذ إجراءات محددة وثابتة، من خلال أنظمة وأوامر خاصة، تأديبية أو جنائية، طبقا للظروف والملابسات، في أي حادث يقوم مسؤول الأمن أو الحراسة في المستوطنة بتجاوز صلاحياته أو بخرق القانون. وفي هذا السياق، ينبغي محاكمة ومعاقبة أي فرد من هذه الفرق في حال تجاوزه حدود "منطقة الحراسة" التي حُدِّدت له أو في حال استخدام سلاحه بما يخالف الأنظمة والتعليمات.