هذا ما يؤكده أستاذ الاقتصاد في الجامعة العبرية- القدس، البروفسور يوسف زِعيرا، لـ"المشهد الإسرائيلي"* ويضيف: من شأن حملة عسكرية إسرائيلية واسعة ضد قطاع غزة أن تؤدي إلى تعميق الركود الاقتصادي في إسرائيل، لكن الحكومة لا تأخذ ذلك بالحسبان * حكومة إسرائيل تتحدث كثيرا عن عزمها على مواجهة تفاقم ظاهرة الفقر لكنها لا تفعل الكثير * دولة الرفاه الإسرائيلية اختفت بسبب سياسة التقليصات في الموازنة الهادفة إلى خصخصة القطاع العام بصورة أكبر مما ينبغي
دلّت تقارير اقتصادية نُشرت مؤخرا على أن الأزمة الاقتصادية في إسرائيل تتفاقم على إثر تسجيل تباطؤ اقتصادي ملموس في نمو الاقتصاد الإسرائيلي خلال نهاية العام 2007 والأشهر الأولى من العام 2008 الحالي. وبدأ الحديث في إسرائيل عن توجه اقتصادها نحو ركود، بتأثير من عدة عوامل داخلية وخارجية.
وقال أستاذ الاقتصاد في الجامعة العبرية في القدس، البروفسور يوسف زعيرا، لـ"المشهد الإسرائيلي" إنه "على ما يبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو ركود اقتصادي. وإذا ما حدث ركود اقتصادي في الولايات المتحدة فإن هذا سيؤثر على دول كثيرة وخاصة على إسرائيل. لأن إسرائيل تبيع بضائع كثيرة للولايات المتحدة. فإسرائيل تصدر ما يزيد عن 40% من منتوجها للولايات المتحدة. والولايات المتحدة هي أكثر دولة تشتري السلع من إسرائيل. إذا انخفض حجم المشتريات الأميركية، فسيكون لذلك تأثير مباشر على إسرائيل. وسيتأثر الاقتصاد الإسرائيلي مثلما حدث في الأعوام 2000 حتى 2003".
(*) "المشهد الإسرائيلي": هل هذا يعني أيضا أن الدولار سيستمر في الهبوط؟
- زعيرا: "ليس بالضرورة. إن أحد الأسباب، برأيي، للركود الاقتصادي في أميركا هو أنه حتى الآن يوجد عجز في الموازنة الأميركية. أي أن الإدارة الأميركية، من جهة، صرفت أموالا طائلة على الحرب في العراق، ومن الجهة الأخرى خفّضت الفوائد والضرائب. وهذا أدى إلى عجز مالي كبير. وفي العادة، فإنه عندما يكون هناك عجز مالي كبير في الموازنة لا يحدث ركود اقتصادي، لكن لأنه في تشرين الثاني المقبل ستجري انتخابات رئاسية في الولايات المتحدة وسيتم انتخاب رئيس جديد، فإن أي رئيس سينتخب سيضطر إلى مواجهة العجز في الموازنة وتقليصه. وبسبب وجود توقعات بحدوث تقليصات بعد الانتخابات، فإن هذه التوقعات بحد ذاتها تشكل أحد أسباب الركود الاقتصادي. وهذا ليس السبب الوحيد. وفي هذه الحالة سيتغير وضع الدولار. وبالمناسبة فإن انخفاض سعر صرف الدولار اليوم يساعد الولايات المتحدة على إضعاف الركود الاقتصادي. فإذا ارتفع الدولار، فإن هذا سيجعل الركود الاقتصادي فيها أشد. وفي حال انخفاض الدولار في مقابل العملات الأخرى فسيعني ذلك زيادة حجم الصادرات الأميركية لأن ثمنها سينخفض، وزيادة الصادرات يعني توفير عدد أكبر من أماكن العمل. هذا ما حدث حتى الآن لكن التوقعات تشير إلى تغيّر هذا الوضع بعد الانتخابات. وبمجرد الشعور بأن تغيرا سيحدث، على شكل تقليص في المصروفات، سيبدأ وضع الدولار بالتغير، إذ عندما يتوقع الناس بأن شيئا ما سيتغير فإن هذا يؤثر مباشرة على رسم مخططاتهم".
(*) نُشر مؤخرا أن الحكومة الإسرائيلية تعهدت بمصاريف كبيرة تستدعي توسيع إطار الموازنة في السنوات المقبلة، فيما لا يوجد لديها مصادر تمويل لتوسيع إطار الموازنة. هل توجد توقعات بحدوث أزمة اقتصادية في إسرائيل في السنوات المقبلة؟
- زعيرا: "توجد لدى الحكومة مصادر تمويل لتوسيع إطار الموازنة. حتى اليوم يوجد عجز مالي ضئيل للغاية في الموازنة الإسرائيلية وحتى أنه أحيانا يوجد فائض. ولذلك بإمكان الحكومة تمويل مصاريف أكبر إذا كانت تريد القيام بذلك. كذلك فإن هذه المصاريف التي تعهدت بها الحكومة ليست كبيرة جدا، وقد جرى المبالغة في وصف حجمها. والأمر المهم هنا ليس عدم وجود مصادر تمويل وإنما التعهدات الإسرائيلية التي لا تتلاءم مع قرارات سابقة للحكومة، والتي تقضي بزيادة مصاريف الحكومة بوتيرة بطيئة جدا، أي بنسبة 7ر1% في السنة. لكن هذا ليس معقولا، لأن الناتج القومي في البلاد يرتفع بنسبة 3% إلى 4% في السنة وبالإمكان بكل تأكيد زيادة المصاريف بنسبة مماثلة وحتى بنسبة أكبر أحيانا".
(*) كيف سيؤثر شن إسرائيل عملية عسكرية واسعة ضد قطاع غزة، كالتي تهدد بها، على الاقتصاد الإسرائيلي؟
- زعيرا: "إن تجربتنا حتى الانتفاضة الأولى في كانون الأول من العام 1987 تختلف عما حدث بعدها. فحتى ذلك العام لم نخض حروبا مباشرة ضد الفلسطينيين، وتجربتنا تدل على أنه كان للحروب مع الدول العربية تأثير لا يؤدي إلى ركود اقتصادي في إسرائيل، رغم أنه كان يتم الصرف بصورة كبيرة على السلاح والذخيرة. لكن الانتفاضة الأولى والثانية، والمواجهة مع الفلسطينيين عموما، لا تكلف مالا كثيرا، لكنها تؤثر سلبا على الركود الاقتصادي، من خلال تأثير ذلك على الاستثمارات والسياحة. لذلك فإن كل حملة كهذه تؤدي إلى تعميق الركود الاقتصادي في إسرائيل. إن حملة عسكرية كهذه تثير لدى المستثمرين أجواء تشاؤمية بأنه لن يتم حل هذا الصراع أبدا وما شابه ذلك، وهذا يقلص الاستثمارات كثيرا".
(*) وهذا بالطبع أمر تأخذه الحكومة الإسرائيلية بالحسبان عندما تقرر شن حملة عسكرية واسعة؟
- زعيرا: "آمل أنها تأخذ بالحسبان هذه التبعات، وأن تأخذ أيضا بالحسبان أنه في حملات عسكرية كهذه يموت أناس كثيرون، سواء من الإسرائيليين أو الفلسطينيين. لكني لست واثقا من أن الحكومة الإسرائيلية تأخذ ذلك بالحسبان. ليس هذه المرة فحسب وإنما عموما. فلو كانوا يأخذون هذه العوامل بالحسبان لربما كنا اليوم، برأيي، في وضع آخر... وأفضل".
تفاقم الفقر
في غضون ذلك تتفاقم حال الفقر وتتسع دائرة الفقراء في إسرائيل باطراد في السنوات الأخيرة. ويظهر ذلك بصورة جلية عشية الأعياد اليهودية وخصوصا الفصح. وفي هذه الأثناء تعمل عشرات الجمعيات الإسرائيلية على توفير وتزويد مئات آلاف الوجبات لإرسالها لمحتفلين بعيد الفصح اليهودي الذي يصادف مساء السبت المقبل. وأظهر استطلاع رأي أجرته منظمة "لَتيت" (عطاء) التي تضم وحدها 95 جمعية متخصصة في توزيع وجبات على الفقراء في أنحاء إسرائيل، وتم نشره أمس الاثنين (14.4.2008)، أن 61% من هذه الجمعيات ستضطر إلى تقليص حجم الوجبات للمحتاجين "بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتزايد عدد المحتاجين وانخفاض التبرعات" التي تتلقاها هذه الجمعيات. إضافة إلى ذلك فإن نصف هذه الجمعيات لن تتمكن من الاستجابة لجميع الطلبات ولن توزع وجبات العيد على جميع المحتاجين.
وأظهر استطلاع المنظمة أن زيادة بنسبة 5ر17% طرأت هذا العام على طلبات الحصول على وجبات عيد الفصح اليهودي مقارنة بالعام الماضي. وتبين أيضا أن 17% من الجمعيات فقط ستبقي حجم الوجبة كما كانت عليه وستستجيب لكل طلب للحصول على وجبة طعام فيما بقية الجمعيات ستقلص هذه الوجبات.
لكن موقع يديعوت أحرونوت الالكتروني أشار إلى معطى آخر، يظهر من استطلاع أحد معاهد الأبحاث، ويشير إلى أن 43% من الجمهور الإسرائيلي مروا شخصيا بضائقة اقتصادية. وبحسب هذا الاستطلاع فإن 86% من الجمهور يرى أن الحكومة ووزارة الرفاه مسؤولين عن توزيع المواد الغذائية عشية العيد. وقال 95% إن الحكومة مسؤولة عن معالجة ظاهرة الفقر. وقال 59% إنه في حال واجهوا حالة فقر بأنفسهم فإنهم يريدون الحصول على مساعدة من الدولة أو العائلة وعدم الاستعانة بجمعيات توزيع وجبات الطعام.
ويظهر من الاستطلاع أيضا انعدام ثقة الجمهور الإسرائيلي بحكومته. وفي رد على سؤال حول سبب عدم معالجة الحكومة لظاهرة الفقر قال 23% إن الوزراء مشغولون بمناورات إعلامية، ورأى 26% أن الحكومة والسياسيين لا يأبهون وهم معزولون عن المواطنين، فيما اعتبر 26% أن إسرائيل تفتقر إلى موارد وأنه توجد قضايا أهم ولذلك تدفع الحكومة ظاهرة الفقر إلى هامش اهتماماتها.
من جانبه قال زعيرا: "لا أعرف ما إذا كانت لدى الحكومة نية لمواجهة تفاقم ظاهرة الفقر. يتحدثون عن ذلك كثيرا، لكني لست واثقا من أنهم يفعلون الكثير".
(*) هل تعتقد أن الحكومة ستعود وترفع مخصصات الأولاد، التي يعتبر تقليصها أحد أهم عوامل تفاقم الفقر؟
- زعيرا: "هذا بالذات هو الأمر الأخير الذي يتوجب عمله. لأنه على المدى البعيد ستشجع زيادة هذه المخصصات الكثيرين على انجاب عدد أكبر من الأولاد وعندها سيتزايد حجم الفقر".
(*) وزير مالية إسرائيل السابق بنيامين نتنياهو رفض في أثناء توليه وزارة المالية، قبل أربع سنوات، طلب حزب شاس برفع مخصصات الأولاد وادعى أن "رفع المخصصات يجعل العرب ينجبون أولادا أكثر وبتقليصها نحارب الخطر الديمغرافي". ما رأيك؟
- زعيرا: "هذا يؤثر على العرب وعلى اليهود على حد سواء. وأنا لا يمكنني قول أمر كهذا (مثل تصريح نتنياهو) لأني لست عنصريا. وحتى لو كان رفع مخصصات الأولاد يؤدي إلى زيادة الولادة لدى اليهود فقط فإن هذا ليس بالأمر الجيد".
(*) من المذنب برأيك في غياب دولة الرفاه في إسرائيل؟
- زعيرا: "سياسة التقليصات في الموازنة. هذه سياسة تعمل على خصخصة القطاع العام بصورة أكبر مما ينبغي. وهذا جزء من السياسة الاقتصادية للحكومة".
(*) هل هذه السياسة تأتي في إطار العولمة الاقتصادية أم أن للاحتلال والاستيطان، اللذين اقتطعا قسما كبيرا من الموارد المادية الإسرائيلية، دورا في السياسة الاقتصادية وغياب دولة الرفاه؟
- زعيرا: "من السهل قول ذلك، لكن هذا ليس مرتبطا بغياب دولة الرفاه. فهناك دول اسكندنافية تنتهج سياسة عولمة اقتصادية بارزة للغاية، لكنها على الرغم من ذلك تحافظ على دولة الرفاه لأنها تريد الحفاظ عليها... لكون هذه الدول مؤمنة بدولة الرفاه. وعندنا لا تؤمن الحكومات بدولة الرفاه ولا تريد رصد أموال كثيرة لذلك وإنما تقليصها قدر الإمكان. ويوجد إجماع لدى أحزاب كديما والليكود والعمل على هذه السياسة وهذا التوجه".
(*) وهل علاقة رأس المال بالحكم يعزز هذه التوجهات الاقتصادية في إسرائيل؟
- زعيرا: "إن علاقة رأس المال بالحكم هي الخلفية لهذه السياسة. والنخب الاقتصادية تؤثر كثيرا جدا على الحكم. وبإمكانك رؤية ذلك في جميع السياسات في السنوات الأخيرة".
(*) هل هذه العلاقة والتأثيرات هي ثغرة لتفاقم ظاهرة الفساد السلطوي في إسرائيل؟
- زعيرا: "في الحقيقة لست باحثا في قضايا الفساد، لكن هذه العلاقة تشكل ثغرة لنهج سياسي غير صحيح. عندما تتم خصخصة مرافق عامة، وخاصة أن ذلك لا يجري، فرضا، مثل بيع أسهم في البورصة للجمهور الواسع، يتم بيعها لأصحاب سيطرة. ينتج عن هذا وضع يستولي فيه أشخاص قلائل جدا على مرافق كثيرة. عندها تكون لدى النخب الاقتصادية مصلحة في توسيع الخصخصة وشراء المزيد من المرافق، وإن هذا يعني أنه سيكون في إمكان عدد قليل من الأشخاص ممارسة تأثير على الحكم. أي بدلا من أن تكون المرافق بملكية عدد كبير من الناس فقد أصبحت بأيدي عدد قليل من الأشخاص، وعندها تنشأ مصالح لتوسيع هذا النهج وحتى أكثر مما نحن بحاجة إليه".