المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • أحزاب وحركات سياسية
  • 1427

عمرام متسناع، "غودو" الاسرائيلي الجديد، الذي يتردد اسمه في الاسابيع الاخيرة كقائد لـ "معسكر السلام" في اسرائيل، هو جنرال (احتياط) في الجيش، ورئيس حزب العمل ومرشحه لرئاسة الحكومة في انتخابات 28 يناير 2003. قضى معظم فترة خدمته العسكرية في سلاح المدرعات وحصل على وسام البطولة من قائد الاركان في حرب تشرين (اكتوبر) 1973.ولد متسناع سنة 1945 في كيبوتس "دوفرات" في الجليل. تعلم في مدرسة داخلية عسكرية، وقد كتبت "هارتس" (الاربعاء 14 اب 2002) انه كاد يفصل من الدراسة بعد الامساك به يقود سيارة كوماند كار عسكرية بدون رخصة سياقة.

 

شارك متسناع في أربع حروب، وخلال خدمته العسكرية جُرح مرتين: في حرب الأيام الستة (جرح اثناء خدمته في سلاح المدرعات)، وفي حرب 73 (اصيب مجددا اثناء القتال، وفقد صابونة رجله، وشارك في حربي الاستنزاف ولبنان.

تدرّج في سلّم الوظائف العسكرية واصبح قائدا لكلية الضباط العسكرية، واشرف على عملية اخلاء مستوطنة "يميت" في سيناء، بموجب اتفاق الصلح المنفرد بين مصر واسرائيل من العام 1979.

في حرب لبنان كان رئيس هيئة الطاقة البشرية في الجيش، وبعد انتهاء المعارك الكبيرة طالب، في اجتماع للضباط في سبتمبر 1982 باستقالة وزير الدفاع في تلك الحرب ارئيل شارون، معلنا انه سيستقيل من الخدمة اذا لم يحدث ذلك. لكنه لم ينفذ تهديده وبقي بالزي العسكري، بعد تدخل رئيس الاركان العسكرية في حينه، رفائيل ايتان، ليعين بعد عدة شهور رئيسا لشعبة العمليات في الجيش. في يناير 1986 رُفع الى رتبة جنرال، كمساعد لرئيس المخابرات العسكرية، وفي ايار 1987 عُين قائدا للمنطقة العسكرية الوسطى.

خلال هذه الفترة اندلعت الانتفاضة الفلسطينية، ليتولى مهمة محاربتها، ما عرّضه لانتقادات شديدة من كل الجهات: من المستوطنين، الذين احتجوا على "توجهاته اللبرالية" في التصدي للفلسطينيين، ومن اوساط اليسار الاسرائيلي، التي احتجت اكثر من مرة على سياسة "القبضة الحديدية" التي لجأ اليها ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، وتنازلاته المبالغ بها للمستوطنين. بعد سنتين في هذا المنصب، خرج في اجازة تعليمية عُين في ختامها رئيسا لشعبة التخطيط في قيادة الاركان.

في سنة 1993 وبعد ان يئس من احتمالاته في الترشيح على منصب رئيس هيئة الاركان العسكرية العامة، سُرّح من الجيش في سن الثامنة والاربعين وانتخب في انتخابات داخلية مفتوحة مرشحا عن حزب العمل لرئاسة بلدية حيفا، متغلبا على رئيس البلدية انذاك ارييه غورئيل (اكثر من 66% من الاصوات في "البرايمريز"). في نوفمبر من ذلك العام انتخب لرئاسة البلدية باغلبية كبيرة، وفي نوفمبر 1998 انتخب لفترة رئاسية ثانية. خلال هاتين الدورتين الرئاسيتين شكّل متسناع ائتلافا واسعا بمشاركة "الليكود"، الامر الذي سهّل مهماته البلدية. يحمل متسناع اللقب الثاني في العلوم السياسية، وهو متزوج من عليزه، المعلمة في احدى مدارس المدينة، واب لبنت وولدين.

الانتصار على الرمز

منذ تسريحه من الجيش تردد اسم متسناع اكثر من مرة كمرشح لمناصب رسمية خارج الاطار البلدي. وهو يبلغ اليوم من العمر 57 عاما، وفي نوفمبر 2003 يكون قد استكمل الفترة الرئاسية الثانية في بلدية حيفا، بعد ان "هبط" الى هذا المنصب بدعم كامل من رئيس الوزراء الراحل اسحاق رابين.

كانت نقطة التحول لدى متسناع سنة 1989، بقراره السفر الى الدراسة العسكرية في الولايات المتحدة، خلافا لرغبة وزير الدفاع في الانتفاضة الاولى اسحاق رابين، الذي اراد ابقاءه في جبهة الانتفاضة، وخلافا لرغبات المقربين اليه، الذين اعتقدوا ان اصراره على انهاء عمله في قيادة المنطقة الوسطى سيعود بضرر غير قابل للاصلاح على سيرته العسرية، فالجهاز سينتقم منه وسيحذف اسمه من لائحة المتنافسين على منصب نائب رئيس الاركان، وبطبيعة الحال - على منصب الرئيس.

في نهاية دراسته الامريكية، عاد متسناع ليصبح رئيسا لشعبة التخطيط كما ورد سابقا. بدت هذه الخطوة لاوساط صحفية وسياسية اسرائيلية مطلعة محطة مهمة في الانتقال من ساحة القتال الى الحياة العامة والسياسية. وبرأي الصحافي الاسرائيلي المعروف ناحوم برنياع (في مقال له في "يديعوت احرونوت" من 21 اب 1989) فان قراره مغادرة الجيش والسفر الى امريكا سيؤثر بصورة اكبر بكثير من رسالة الاستقالة التي طيرها في سبتمبر 1982 احتجاجا على سلوك وزير الدفاع شارون في حرب لبنان. في تلك الفترة اختلف مع شارون لكنه حظي بدعم قائد الاركان ايتان، وبتاييد صامت من الضباط الكبار في الجيش، ناهيك عن الجهاز السياسي. بفضل هذا الدعم لم يتمكن شارون من قطع الطريق عليه امام رتبة الجنرال.

لكن متسناع بقراره السفر اغضب الجميع. فقد وضع الاسرائيليون على اكتافه اعباء من التوقعات لم يكن قادرا على حملها، ونشأت حوله هالة اليساري، والمتردد، والمتصلب برأيه، والمتشدد. اصبح الشخص رمزا، وفر للجميع اجابات مريحة على اسئلة صعبة كثيرة، ومخيفة، شهدتها السنتان الاخيرتان من خدمته العسكرية. وفي ذلك يكتب ناحوم برنياع: "يعكس قراره ترك قيادة المركز والسفر انتصارا للشخص على الرمز: كفى! من الان فصاعدا لن يكون لديكم عمرام متسناع مشجبا تعلقون الانتفاضة عليه"!

"استمد حصانته الاخلاقية من البيت"

مرة سئل متسناع عن سبب تسميته "عمرام"، فهو اسم "يمني"، فكم بالحري "متسناع". قال ان ذلك قد يعود الى طبيعة العلاقات الخاصة التي نشأت عشية ولادته بين ابيه وبين عمرام ريفيد، سائق باص في شركة "ايجد". بعد ذلك روى والده في مقابلة صحفية القصة التالية:

في سنة 1945 كانا اعضاء في فرقة عمل في جدعونه، بالقرب من عين حارود. كان والده محاسبا ماليا. وكان عليه السفر كل صباح الى البلدة، في نطاق عمله. كان يبكر بالنهوض ويقطع مسافة طويلة سيرا على الاقدام، من جدعونه الى شارع المرج (مرج ابن عامر). عمل عمرام سائقا في "ايجد" على نفس الخط، وعندما كان المحاسب يتأخر عن موعد الباص، كان عمرام يراعي ذلك ويوقف الباص على جانب الطريق مؤخرا الجميع بانتظاره، وقد كان بن تسفي متسناع الوالد يقول له تعبيرا عن امتنانه انه سيسمي ابنه عمرام اذا رزق بولد".

سكنت مريام وبن تسفي متسناع في "كريات حاييم" في الشمال، وهي احدى اخر "المحميات الطبيعية" التابعة لحركة "مباي" التاريخية. كان لهما بيت من طابق ارضي تحيط به ساحة كبيرة. كان والده مدير الانتاج في شركة "هزورياع"، وهي شركة لرعاية البذور. اما والدته فكانت مديرة حسابات في شركة للبناء. "في محيطنا - تقول في نغس المقابلة الصحفية - يملك الجميع رأيا واحدا. اعرف ان هناك اسرائيل اخرى، لكننا هنا لا نسمع بها كثيرا. يبدو اننا لسنا طرفا فيها".

هاجرت والدة متسناع الى فلسطين سنة 1933 مع ذويها، اما والده فهاجر سنة 1938 في نطاق حملة "هجرة الشبيبة". كان كلاهما "المانيان" لفترة قصيرة - فقد هاجرت عائلاتهما الى المانيا من شرق اوروبا (بولونيا)، وكان جده عمرام متسناع "اصلاحيا" متحمسا. كان يسافر مسافات طويلة ليستمع الى زعيم "الاصلاحيين" زئيف جبوتنسكي خطيبا، ولكنه، بمعزل عن هذا كله، سعى لأن "يذوب في الاغيار". اصبح الاسم "ميزني" البولوني "ميزنا" بالالمانية، وبعد سنوات، عندما اعتزمت وزارة الخارجية ارساله للخارج، للعمل مرشدا في دول اجنبية لشؤون الزراعة والبذور، الزمته غولده مئير بعبرنة الاسم، فاستبدل حرف "الزاي" بالصاد واصبح "مِصناع" بدلا من "مزناع". وبموجب قاموس ابن شوشان فان "متسناع" تعني "الملاذ، المخبأ". لكن الاب ينفي ان تكون لذلك اية دلالة، ويقول انها مجرد كلمة بنبرة عبرية.

عشية حرب 1948 كان والداه من مؤسسي كيبوتس "دوفرات"، لكنهما غادراه بعد سنتين. ولديهما اراء قاطعة في "الحركة الكيبوتسية". في مقابلة صحفية من اواخر الثمانينات، قال والده بن تسفي: "منذ تلك الايام بدا ان المشروع ليس ناجعا". اما والدته مريم فقالت: "كانت تلك دفيئة للبلطجيين. انهم يحصدون اليوم ما زرعوه في تلك الايام". وردا على سؤال صحفي عما اذا كانا ربَّيا ابنهما عمرام بروح تعاليم وافكار حركة العمل العبري، قال الاب: "اليوم، عندما تذكر حركة العمل، فان ذلك يشي بنوع من السذاجة. لا اعتقد ان رامي (لقب عمرام متسناع) تلقى في البيت تربية بروح حزب العمل. من جهة اخرى، من يعش سنوات طويلة في اطار اجتماعي معين، تبقى لديه قيم معينة. احترام الاخرين، مثلا، وقيمة العمل. والاستقامة".

بمفهوم معين، كان والدا متسناع غير مسيسين. لكن تأييدهما لحزب "مباي" بروح تلك الايام كان "عملا وطنيا" وتعبيرا عن مواطنة صالحة، وليس عملا سياسيا. وقد اجابا بتردد على سؤال عما اذا كان متسناع تربى في بيت مسيس بـ "نعم" خفيضة. بعد ذلك قالا انهما يضحكان في كل مرة يوصف فيها متسناع بانه "يساري".

وعندما سئلا في نفس المقابلة الصحفية عن الاسباب التي دفعته لارسال كتاب الاستقالة في حرب لبنان، قال والده: "لم تكن مشكلته صبرا وشاتيلا. اغضبه ان شارون يدير الجيش بصورة مباشرة. اغضبه الزحف على بيروت، من خلال تضليل الوسط السياسي، واعتقد ان القشة التي قصمت ظهر البعير كان اعلان شارون في الكنيست ان جيش الدفاع مذنب بوقوع المذبحة السابقة في تل الزعتر".

متسناع في مواجهة شارون - التاريخ يعيد نفسه

كان رامي (وهو الاسم الذي نودي به عمرام متسناع الى ان اشغل منصب قائد المنطقة الوسطى) برتبة بريغادير جنرال وقائد مدرسة القيادة العسكرية، في الوقت الذي اكتسبت فيه الاحداث من حوله بُعدا دراماتيكيا مليئا بالتناقضات. كانت الصورة مشوشة، وعليها بنيت اسطورة "عمرام المحب للعرب". في الحقيقة، هب متسناع لمجابهة ما بدا له "مَسّا بالسمعة الطيبة وبنقاء يدي جيش الدفاع". هذا ما حرّكه في الصدام مع شارون سنة 1982 وهذا ما وجهه في حربه ضد الانتفاضة الاولى. "الجيش هو الاساس"، قال مرة في مقابلة مع مجلة الجيش الرسمية "بمحنيه".

في 22 سبتمبر 1982 وبعد مذبحة مخيمي صبرا وشاتيلا باسبوع، جرى في الكنيست نقاش حول اقتراح لجدول الاعمال قدمه حزب "العمل". حاول وزير الدفاع شارون القول لمعارضيه من "العمل" ان "اية فظاعة ارتكبتها انا، قمتم بها انتم من قبلي". وتوجه الى شمعون بيريس قائلا: "اريد ان اسألك سيد بيريس - في فترتك، وبعلم مسبق، كانت هناك قضية اخرى، ولم اكن لاثيرها لو لم تنحدروا الى الهاوية. في عهدك كوزير للدفاع كانت هناك قضية في لبنان، في تل الزعتر. لن اسرد التفاصيل هنا، ولكن: ألم يؤنبك ضميرك انذاك ؟ الالاف من البشر ذبحوا، فأين كان ضباط جيش الدفاع في تل الزعتر؟ كان ذلك متوقعا، فأين كانوا؟".

كان متسناع في سيارته يستمع الى الراديو ناقلا وقائع جلسة الكنيست. في الحال قرر الجلوس وكتابة رسالة استقالة من الخدمة العسكرية، الى ان يستقيل وزير الدفاع شارون من منصبه. لكن الرسالة ادت دورا كبيرا في خدمة رئيس الاركان ايتان، الذي ادرك في تلك الايام ان الافضل له ابعاد نفسه وابعاد الجيش من محيط شارون، وابقاء شارون لوحده مع المسؤولية عن الحرب التي لم توفق في احراز اهدافها وورطت اسرائيل في مذبحة مريعة.

سارع رئيس الاركان لترتيب لقاء بين متسناع ورئيس الوزراء مناحم بيغن، الذي ابلغه انه ارتكب فعلة لم يكن عليه ارتكابها، بعد ذلك ضغط ايتان علي متسناع لكتابة رسالة ندم، وما كان من متسناع، وليس لاخر مرة في حياته، الا ان كتب رسالة يسحب فيها استقالته ويعلن عن ندمه عنها!

عن ذلك تقول ضابطة عملت معه في الجيش: "متسناع لا يحب التهويل. حتى ان لديه شيء طفولي. هو ساذج، ونظيف. انه ولد - جندي. اعتقد انه عمل كمواطن. عندما سمع بالمذبحة، فكر بالولد من جيتو وارسو، الذي يبدو في الصورة رافعا يديه الى اعلي".

البعض يقول انه انجرف مع تيار الشارع المتصاعد. اشغله ما يقوله الناس في الشارع. تأثر بما يجري في الجبهة الداخلية اكثر مما كان يدور في جبهة القتال. وهو خط ميزه في مواجهته مع الانتفاضة.

رابين، متسناع والانتفاضة الاولى

في ايار 1987 تسلم عمرام متسناع مهام عمله قائدا للمنطقة الوسطى في الجيش الاسرائيلي. لم يتوقع اسحاق رابين الذي وقف وراء هذا التعيين اندلاع الانتفاضة، كما كان الحال مع كثيرين في اسرائيل ممن استبعدوا وقوعها. كان متسناع يأمل باستغلال وقت الفراغ لمواصلة دراسته الجامعية. فالقيادة الوسطى كانت دائما منطقة الجنرالات الذين لا يحبون العمل الصعب.

لكن عمل متسناع كان "صعبا" منذ اللحظة الاولى. كان يتنقل من مستوطنة لاخرى، ومن حاخام لاخر. لم يلهث وراء قادة المستوطنين، لكنه ارادهم ان يعرفوا ان "نواياه حسنة". كانوا يشكون به لانه ادار بحزم وبلا محاباة عماية اخلاء مستوطنة "يميت" من سيناء. اعلن يوفال نئمان في حينه انه "فقد الثقة به". مع ذلك، اعجب متسناع كثيرا بما وصفه بالجانب الطليعي والوطني لدى "غوش امونيم"، لذلك اهتم بتحسين امنهم وكان مستعدا لان يسمح لهم بتفعيل "حرس مدني" في الشوارع المؤدية الى مستوطناتهم، وهي فكرة رفضها رابين في حينه.

وقع الانفجار في السادس من حزيران 87 في مخيم الدهيشة للاجئين. دخلت مجموعة من المستوطنين الى المخيم، واطلقت النار واعتدت على الناس وهاجمت قائدا في الجيش الاسرائيلي برتبة قائد لواء.

استدعى متسناع ممثلين عن الاهالي في الدهيشة واعتذر لهم عما حصل، وبعدها خرج الى الصحفيين قائلا: "وقعت فعلة بشعة في الدهيشة لم يسبق لها مثيل".

يقول احط الضباط الذين عملوا معه: "اضاءت هذه القضية عددا من مزاياه. فايهود باراك وامنون لفكين شاحاك ما كانا ليعتذرا امام العرب. فالثمن السياسي مرتفع جدا. من جهة اخرى، بعد ان اندلعت الفضيحة الكبرى، تراجع متسناع عن موقفه. ندم مرة اخرى، كما في سبتمبر 82".

"ابن الكيبوتس الكاذب هذا ينسج التهم العبثية"، قال عنه تسفي كاتسوفر من "كريات اربع"، وهو شقيق بيني كاتسوفر من "الون موريه". اما الحاخام لفنغر الاب الروحي لابناء كاتسوفر ولغيرهم من المستوطنين، فقد احب كثيرا كراهيته لمتسناع، وانشقت هوة كبيرة بينهما.

لم ينجح متسناع بسبر اغوار "شريكيه الاساسيين" في الاراضي الفلسطينية - العرب والمستوطنون. يقول احد ضباطه السابقين: "لم يفهم متسناع العرب على حقيقتهم. وفي الشهور الاولى لم يبد أي فضول معين للقائهم". ضابط اخر، خدم في غزة اولا، قارن العرب الفلسطينيين في غزة باخوانهم في الضفة، وقال: "انهم لم ينظروا ابدا مباشرة في عيوننا. دائما خفضوا ابصارهم. اما هنا فانهم يتحدثون الينا الند بالند".

كانت الانتفاضة بالنسبة لمتسناع مدرسة طويلة الامد ومضنية. وعدا العرب والمستوطنين، كان عليه ان يجابه ضغط وحداته الميدانية، والشركاء في الجبهة الخلفية، ووزير الدفاع وهئيته الخاصة بالمناطق المحتلة، وقائد الاركان وكبار الضباط، والصحافة الاسرائيلية والاجنبية، والجهاز السياسي، والرأي العام. ويمكن القول انه لم يسبق ان عمل ضابط في الجيش ازاء هذا الاهتمام المدني المتزايد، والمتواصل، والشكاك.

في اجمال عشرين شهرا من مجابهته مع الانتفاضة يقول متسناع انه كان منفس طنجرة الضغط الكبيرة، وانجازاته تقاس بما نجح بمنع وقوعه من جانب اليهود، فقد كان عاملا مركزيا في تخفيف حدة موقف وانتقادات اليسار لاداء اسرائيل خلال الانتفاضة، وفي عهده استصعب اليسار تطوير ظاهرة رفض الخدمة العسكرية في المناطق المحتلة، فقد اعتقد كل الوقت انه من المهم ابقاء اليسار داخل اطار الاجماع القومي.

وقعت قضية "بيتا" (تكسير العظام بالحجارة) في عهده. وقد عمل على التقليص من الضغط الناجم عنها في الراي العام الاسرائيلي والعالمي. مع ذلك، عارض متسناع باستمرار اعادة فتح المدارس، وعندما طالب منسق شؤون الاحتلال شلومو غورن بفتحها، عارض متسناع ذلك. واستمر في معارضته عندما فتحت المدارس في غزة والقدس الشرقية، قائلا ان فتح المدارس يرفع مستوى العنف. وقد لجأ الى اساليب قاسية في قمع الانتفاضة في القرى، بواسطة الاغلاق ومنعهم من الوصول الى محاصيلهم الزراعية.

على امتداد سيرته العسكرية، لم يكن متسناع واضحا ومفهوما للجميع. وحساسيته القديمه لسمعة الجيش الاسرائيلي بدت لكثيرين حبا متزايدا للعرب، وكراهية للمستوطنين. وبالنسبة لليمين واليسار معا، كان من المريح تحويله الى بطل سياسي. لكن الحقيقة هي ان نظرته الايجابية للمستوطنين، لم تتغير ابدا.

الهدف: انزال "حدبة" الصراع

يأتي ترشيح متسناع لنفسه في ضوء ازمة قيادية يمر بها حزب العمل، الشريك في ائتلاف شارون الحكومي، وفي استهلاك الفرية الرسمية عن "غياب الشريك الفلسطيني". وخلال المؤتمر الصحفي (المنعقد صباح الثلاثاء الماضي 13/8) الذي اعلن فيه رسمياً دخوله حلبة الصراع الدائر على رئاسة حزب العمل والترشح لرئاسة الحكومة، وصف عمرام متسناع قراره بالتنافس بأنه أصعب قرار اتخذه في حياته. وقد أوضح قائلا: "إنني لا أقوم بذلك بهدف البحث عن عمل. من يعش في هذه البلاد ومن يهمه مستقبل هذه البلاد لا يستطيع الجلوس مكتوف اليدين إزاء ما يجري في الدولة، التي تضيع من بين أيدينا. إننا نقترب من الهاوية يومياً.. عملية انتحارية تلو أخرى.. المزيد من الثكل والدمار.. واذا لم يكن هذا كافياً.. كل يوم ينخفض مستوى حياتنا أكثر.. للكثير من الناس كمية طعام أقل مما كان عندهم في الماضي.. المزيد من الناس يفقدون الأمل".

وفي خطابه امام المؤتمر الصحفي، لم يحِد رئيس بلدية حيفا عن الاجراءات المتبعة لدى غالبية كبار قياديي حزبه - الذي يسعى الان الى احتلال قيادته - في مثل هذه الاوضاع. وفي سيرة الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، لم بأبه متسناع بتزويد وسائل الاعلام بالعنوان الكبير الذي انتظرته منه - برنامجه السياسي او مبادرته الجديدة، وبدلا من ذلك اكتفى بايحاءات عامة حول الصراع، "كأنه كان يقول للصحفيين: اكتفوا بي" على حد تعبير جريدة "هارتس" (14/8). "انا الرسالة. هناك قضية الشخصية، التي توحي بالصّدقية"، قال لهم.

يرى متسناع ان الصراع هو المشكلة الفورية التي تتفرع عنها المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها اسرائيل. ويتساءل: "لماذا تخصص الحكومة للفرد في الضفة الغربية (المستوطنات) أكثر بـ 20 مرة من مواطن في قرية تطويرية؟ وهل علينا أن نؤجل كل شيء حتى تنشأ لدى الطرف الآخر قيادة حسب ذوقنا؟ نحن في ضيق من الوقت. علينا البدء بمفاوضات عاجلة مع الفلسطينيين ليعود الشعبان الى طريق الأمل. لا حاجة لشروط مسبقة، اذا كان بالامكان التوصل الى حل، فليكن، وإذا تعذر ذلك، علينا العمل بشكل أحادي الجانب لما فيه مصلحة عليا لدولة إسرائيل".

يؤيد متسناع حلا دائما مع الفلسطينيين، وفي مؤتمره الصحفي المذكور أوضح انه يؤيد ان يتم ازالة مستوطنات في نطاق الحل، واذا لم يكن هناك شريك للسلام فهو يؤيد حلا أحادي الجانب لما فيه مصلحة إسرائيل. وهو يقول موجها حديثه الى الفلسطينيين، ومطالبا اياهم بعدم التريث عند مسألة صمود المجتمع الإسرائيلي امام التحديات، موضحاً: "سنحارب الارهاب تحت كل الظروف وبكامل القوة وبكل الوسائل كي نهدمه وندمره". متسناع يؤكد أنه لن يؤسس إطارًا حزبيًا جديدًا، على الرغم من وجود اقتراحات في الأشهر الأخيرة، وفي المؤتمر الصحفي عقب على جميعها بالقول: "حزب العمل هو بيتي وهو الإطار الذي يجب أن يستخدم لتغيير صورة المجتمع الإسرائيلي عبره، وعلى الحزب أن يفتح أبوابه لكي يدب الحماس والأمل. أدعو جميع أعضاء الحزب للتجند الى هذه المهمة".

*

مع ان متسناع يبدو للكثيرين في حزبه وغيره بمثابة "المخلّص" الذي سينقذ اسرائيل من محنتها الحالية، الا ان منتقديه يشيرون الى غياب التجربة لديه في العمل الحكومي او البرلماني، فهو لم يكن ابدا وزيرا في الحكومة ولا نائبا في البرلمان، وهو ما يعتبره خصومه "نقصا في شخصيته". ويرد على ذلك بالقول انه يملك تجربة كافية في الجيش، وفي رئاسة بلدية حيفا (يشغل هذا المنصب منذ تسع سنوات)، مضيفا ان "غياب التجربة في اسرائيل في هذه الظروف ميزة ايجابية".

من الناحية السياسية، وضع متسناع نفسه في اليسار، مع يوسي بيلين، عندما نادى بالبدء بمفاوضات فورية مع الفلسطينيين (أي: مع ياسر عرفات)، بدون شروط مسبقة. وفي هذا السياق تبدو المقارنة بينه وبين جنرال اخر ارتفع نجمه في الجيش وفي السياسة لاحقا، امرا حتميا. انه الجنرال امنون لفكين شاحك، الذي حلق عاليا وتهاوى مرة واحدة، ولم ينجح بقيادة حزبه (الوسط) في الانتحابات على رئاسة الحكومة عام 1999. وكما كان عليه الحال مع امنون لفكين شاحك، فان متسناع ايضا، الذي صارع ضد هيئته العسكرية، اختار استخدام تعابير مخففة في اطلاق حملته الى رئاسة الحكومة، مثل "تحويل الدولة الى مكان يكون العيش فيه ممتعا، واستبدال اللغة بلغة اخرى، واعادة الامل والنظر الى الناس مباشرة في العيون". في هذه كلها اعاد متسناع الى الاذهان اقوال شاحك، وبدلا من مقولة "نتنياهو خطر على الدولة"، التي قالها شاحك واضرت به في حملته، قال متسناع ان خصمه من حرب لبنان ارئيل شارون "يقود اسرائيل الى كارثة"، وهي مقولة قاطعة يبدو من الصعب - كما تكتب "هارتس" - على غالبية سكان اسرائيل تاييدها، ومن شأنها ان تحرك ضده مؤيدي "الليكود".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات