صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- "مدار" العدد 50 من المجلة الفصلية المتخصصة "قضايا إسرائيلية" محور خاص عن الثقافة في إسرائيل - نماذج جديدة لموضوعات متحولة
يصح القول عند الحديث عن الصهيونية أنه في البدء كانت الكلمة.
بدأ المشروع الصهيوني في بازل العام 1897 كنص، ومن النص ولد نص آخر وهو وعد بلفور، وتحول الوعد إلى قرار تبنته عصبة الأمم العام 1922، وانتهى الأمر بقرار التقسيم الذي أقرته الأمم المتحدة العام 1947.
في ظرف توزع فيه اليهود في أصقاع الأرض المختلفة، تكلموا بلغات مختلفة، ولم تجمعهم لا الأرض ولا الاقتصاد، كان للكلمة وللفكرة دور حاسم في توحيد دلالات الرمز والمعنى، وصناعة المخيلة العامة وتعبئة الذاكرة. وحيث شحت العوامل الموضوعية المادية المشتركة للمشروع الصهيوني، كان عليها أن تعوض عن ذلك بجرعة إضافية من صناعة الأسطورة، وإعادة كتابة التاريخ والجغرافيا كي تصنع وطنًا في المخيلة اليهودية الصهيونية.
عليه، ليس مفاجئًا أن تشير الإحصائيات إلى أن عدد المتاحف في إسرائيل نسبة لعدد السكان هو من الأعلى في العالم قاطبة. فالدول لا تحكم فقط بالقانون والشرطة والمحاكم والسجون، كما علمنا غرامشي، إنما بهيمنة الأفكار والمعتقدات والأحلام.
بهذا المعنى فإن المشروع الصهيوني هو مشروع ثقافي، بقدر ما هو مشروع سياسي؛ أي أنه أحدث ويحدث تحولا في التاريخ اليهودي، وفي علاقة اليهود بالزمن، بالخلاص، بأوروبا، بالتوراة وبالأرض- أرض إسرائيل. وتقع في صلب هذه المنظومة الفكرية فكرة " نفي المنفى" التي تقوم على اعتبار أن منفى اليهود وإقامتهم خارج "أرض إسرائيل" هي حالة دونية ناقصة، عديمة المعنى، وبالتالي يجب تجاوزها عن طريق نفي هذا المنفى لتتحول "العودة" إلى أرض إسرائيل إلى الفكرة الناظمة والمؤسسة والموجهة للمشروع بجملته. ونفي المنفى يعني نسيان الماضي القريب، والتنازل عن ثقافته ولغته. فعلى البولندي والروماني والعراقي أن ينسوا لغاتهم حين يصلون إلى "أرض الميعاد" وأن يتعلموا العبرية كي يعيشوا ويفكروا ويكتبوا بها.
وجدت فكرة نفي المنفى تجليها المادي في سياسة بوتقة الصهر التي رغبت في خلق اليهودي الإسرائيلي الجديد، المتجانس، الذي يفلح الأرض ويخدم في الجيش ويتكلم العبرية تاركًا ماضيه وراءه. إلا أن هذا المشروع طالب اليهود الشرقيين بمعاداة ماضيهم بدرجة تختلف عن اليهود الأشكناز، ما وضع مشروع بوتقة الصهر موضع تساؤل، وأعاد فتح باب الماضي الثقافي واستعادة نوع من التنوع مع الإصرار المتردد لليهود الشرقيين على التأكيد على تاريخهم ولغتهم وتراثهم وحضارتهم؛ إذ إن إصرارًا كهذا في حال كونه متشددا كان يهدد بإخراجهم من المشروع الصهيوني برمته في حين أن القبول بالهيمنة الأشكنازية كان يعني التنازل عن أية خاصية لهم ولتاريخهم.
إلا أن هذه الخاصية الثقافية في الحركة الصهيونية- طابعها الإرادوي والقسري- هي نقطة ضعفها أيضًا.