تضم هذه الورقة بين دفتيها مجموعة مقالات بأقلام أدباء وكتاب إسرائيليين، تتناول الغياب الكبير للشاعر، وتعد نجاحا للشاعر في كسر حصار محكم فرضه عليه الإعلام الإسرائيلي في حياته، هروبا من التحديق في صورة الضحية الفلسطينية التي تجلت في منجزه الشعري بأدوات إنسانية أثبتت جدارتها. وقد أعدها أنطوان شلحت.
وقد استعادت معظم هذه الكتابات وقائع الأوديسا المستمرة للشاعر، ابن قرية البروة المهجرة، في الجليل، والذي تعاظمت مكانته الأدبية والشعرية مع مرور الأيام، واشتهر في العالم بأسره كشاعر المنفى، وككبير الشعراء الفلسطينيين والعرب، وكان في نظر المعجبين الكثيرين به الشاعر القومي بأل التعريف. في حين أكدت قراءات أخرى أن عظمة درويش الحقيقية تبقى كامنة في عدم قدرته على أن يكون إنسانًا فرديًا، وفي تحدي شعره للأساطير الإسرائيلية المؤسسة، التي حاذرت ولا تزال ذكر النكبة في 1948، وامتنعت من استعمال تعبيرات مثل "الاحتلال" و"المناطق المحتلة"، وعملت على شطب أي إشارة إلى القرى الفلسطينية التي تمّ محوها عن وجه الأرض كما لو أنها لم تكن قائمة قطّ، وحاولت أن تصوّر فلسطين بأنها "أرض بلا شعب"، وأن تصف الفلسطينيين بأنهم خليط من البشر لا تربطه أي رابطة بالمكان، الوطن، ولذا فقد دبّ الخوف في أوصاله وهُزم وهرب. وبناء على ذلك فإن شعر درويش وصوره وأوصافه والمشاعر الدفينة التي أثارها شكلت خطرًا على الهيمنة الإسرائيلية، وهجومًا على المعارف الجديدة التي جرى اختلاقها لتكريس تلك الأساطير.
ورأى معدّ الورقة أن اللافت في سيل المقالات والقراءات لتجربة درويش الشعرية، أن معظمها أخذ منحى إخضاع بعض جوانبها للتحليل الجادّ، باستثناء قراءات قليلة مغرضة.
وقال محرر الشؤون العربية في هآرتس، تسفي بارئيل، في مقال تضمنته الورقة، إن "عظمة درويش الأساسية كامنة في البلورة الشاعرية الثاقبة للذاكرة التاريخية الفلسطينية، وخاصة فيما يتعلق بقضية اللاجئين. وفي قصيدته الشهيرة 'لماذا تركت الحصان وحيدا؟' أحيا العلاقة بين التهجير والآثار الحية التي أبقاها اللاجئون وراءهم وعنفوان حق العودة بواسطة رمزه، الحصان الذي بقي في الخلف، وبواسطة البئر المتروكة ومفتاح البيت المهجور الموجود في جيب كل لاجئ" .
أمّا الشاعر والناقد الأدبي إسحق لاؤور فقال إن من الأسهل على المرء أن يقول إن درويش كان شاعرًا قوميًا، غير أن عظمة درويش الحقيقية كامنة في عدم قدرته على أن يكون إنسانًا فرديًا. إن عدم القدرة هذه ناجمة، أكثر شيء، عن مسؤولية اللاجئ (ابن قرية البروة المهجرة في الجليل) الذي لم يجد أهل قريته مكانًا لهم تحت الشمس بعد، كما أنها ناجمة عن عدم رغبته في أن يدير ظهره لشعبه المقهور. إن هذه الخصيصة بالذات لم يدركها كاتب إسرائيلي مثل أ. ب. يهوشواع، الذي أبدى استخفافه بكون درويش لاجئًا في سياق روايته "العروس المحرّرة". غير أن استخفاف هذا الكاتب لا يعكس حسدًا للشخص، الذي أمضى حياته متنقلاً بين باريس وبيروت، وبين سيدني ونيويورك، وإنما يعكس، في العمق، كراهية للفلسطيني الذي يرفض أن يستسلم أو أن يساوم.
الشاعر حاييم غوري كتب: "إن شعر درويش، الذي وصف مسيرة حياته بأنها أشبه بأوديسا مستمرة، أثار اهتمامه منذ ستينيات القرن الفائت، باعتباره استعارة شخصية أو مجازًا خصوصيًا لحالة قومية عامة. وأكد أن القارئ العبري اكتشف في درويش شاعرًا حقيقيًا، يحمل سمات العظمة، ويؤالف بين أساليب شتى من التقاليد الشعرية العربية العريقة، ومن التيارات المعاصرة في الشعر العالمي. ولفت إلى أن مجموعة "حالة حصار" أثارته بشكل خاص "إذ أنها مجموعة مهمة لفهم النزاع المرير والمزمن بيننا وبين جيراننا".
وتحت عنوان "شاعر صديق وخصم" كتب أ. ب. يهوشواع، غداة رحيل درويش، قائلاً إن محمود درويش هو شاعر كبير وذو طاقة شاعرية حقيقية أولاً وقبل كل شيء. وفي إمكان حتى شخص مثلي، قرأ قصائده مترجمة لا بلغتها الأصلية، أن يخرج بانطباع عميق عن مخزون تصاويره الغنية والحرية الشعرية، التي سمح لنفسه أن ينتهجها.