صدر حديثاً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية "مدار" العدد 86 من فصلية "قضايا إسرائيلية"، تحت عنوان "مدن الساحل المختلطة: التهويد ومواجهته"، يركز على الاستيطان المتجدد في قلب مدن الساحل الفلسطينية التي هُجر منها معظم أهلها الأصلانيين عام 1948، وبقيت فيها أقلية فلسطينية عربية تحاول الحفاظ على هويتها، وتشكل حارساً لذاكرة المكان: يافا وحيفا واللد والرملة وعكا، فيما تتعرض لمحاولة محو متجددة ومتصاعدة.
يضيء العدد على ما كشفت عنه هبّة أيار في العام 2021 من عمق التصدعات القومية والاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها مدن الساحل، التي يطلق عليها في الخطاب الإسرائيلي "المدن المختلطة"، التي تفاقمت خلال العقدين الأخيرين بسبب التضييق الإسرائيلي الممنهج على الفلسطينيين فيها، وهو تضييق تتقاطع فيه أنشطة الأنوية التوراتية الاستيطانية (التي تنتهج سياسة استيطان القلوب)، ورأس المال اليهودي (الذي ينتهج سياسات الاستطباق الزاحف) والبلديات الإسرائيلية (التي تتحكم بالحق في السكن) والمستوى السياسي الذي يخطط من أعلى، حيث يمارس كل هؤلاء اللاعبين، كل من موقعه، سياسات تهويدية تدفع بشكل مباشر أو غير مباشر لترحيل الفلسطينيين من هذه المدن أو على الأقل تحويل حياتهم الاجتماعية إلى حياة غير ممكنة.
ويكتب رئيس التحرير د. رائف زريق في تقديم العدد "أن العودة للاستيطان الأيديولوجي الصهيوني داخل إسرائيل، من خلال الأنوية التوراتية التي ترسلها الحركة الاستيطانية في تلال الضفة الغربية المحتلة، لهو نشاط ذو دلالة مهمة جداً، ويكشف دون مواربة جوهر الصهيونية الاستيطاني: الاستيلاء على المزيد من الأرض، سواء كانت أراضي محتلة داخل الضفة الغربية والقدس، أو داخل دولة إسرائيل نفسها. في هذا السياق، ينتقل النموذج الاستيطاني الذي طُوّر في "كريات أربع" المقامة على أراضي الخليل، على سبيل المثال، ليتحول إلى نموذج للاستيطان في مدن الساحل الفلسطيني. يشير استيراد هذه الممارسات الاستيطانية من الضفة الغربية إلى تسييل "الخط الأخضر"، ويعني أن عملية الاحتلال متبادلة: إسرائيل تحتل الضفة وتستوطن تلالها، في المقابل تعود الحركة الاستيطانية بدورها لتحتل إسرائيل".
ويضيف: إن استمرار الوجود الفلسطيني في المدن الساحلية يوحي للبعض في إسرائيل وكأن عملية احتلال هذه المدن عام 1948 لم تنتهِ بعد، وأن هناك حاجة لإثبات الوجود اليهودي فيها من جديد، ما يدل على مرحلة جديدة في طبيعة الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل: إن سؤال فلسطين أصبح سؤالاً داخلياً في إسرائيل، ومع انهيار الحدود وبهتان الخط الأخضر، فإن الصراع حول جوهر إسرائيل ومستقبل فلسطين تحولا ليكونا وجهين للصراع نفسه. فبعد أن هزمت إسرائيل العواصم العربية، عادت لتبحث عن جوهرها لتجد فلسطين تنتظرها هناك".
وتحت عنوان محور العدد، يأخذنا أمير مخول في مقالته إلى حيفا، ليسلط الضوء على التحوّلات التي تشهدها المدينة في ظل تراجع الحركة السياسية الفلسطينية المنظمة في المدينة الأكثر تسييساً. بعد نقده للمفاهيم المستخدمة في توصيف حيفا باعتبارها مدينة "مختلطة"، يتوقف مخول عند سياسة "التعايش" باعتبارها أداة ضبط وهندسة سياسيّة. أما ميخال هاس فتنظر في مقالتها القيمة إلى عملية المحو المستمرة في مدينة يافا حتى اليوم. بيد أن المحو في عصر النيوليبرالية يتخذ شكلاً أكثر وحشية من خلال إعادة "تأهيل" الأحياء القديمة و"تجديد" المناطق الحضرية، بحيث تتقاطع هياكل الاستعمار مع سياسات السوق النيوليبرالية. تُستعرض هذه التقاطعات بشكل أكثر تفصيلاً في مقالة ياعيل شمرياهو ـ يشورون ودانيئيل مونترسكو التي تركز على تاريخ الأنوية التوراتية في مدينة يافا. من خلال بحثهما المستمر في أنشطة الأنوية التوراتية، تستخلص شمرياهو وزميلها مونترسكو أن هذه الأنوية أفرزت طرازاً جديداً من الاستطباق القائم على التعصب القومي، الذي يتمايز عن الاستطباق الليبرالي المعهود.
وتحت محور العدد أيضاً، تقترح علينا يارا السعدي استخدام "الهدم" كمنهج بحثي للكشف عن مصائر المباني الفلسطينية القديمة التي هُوّدت بطرق مختلفة. لدى السعدي، فإن الهدم كمنهج بحثي يكشف عن هياكل العنف المستخدمة ضد الفلسطينيين، ويوفر وسيلة لتتبع وربط محاولات محو الحيز الفلسطيني على الرغم من اختلاف هويات المستعمرين وسياساتهم. أما محمد حليم فيأخذنا في مقالته الشيقة إلى أحد مقاهي مدينة اللد، التي تشهد واحداً من أهم مشاريع الاستيطان في القلوب وأكبرها من خلال الأنوية التوراتية التي "تحتلها"، وتعيد فرض السيطرة الصهيونية على أحيائها بأسلوب يمزج بين العنف والتخطيط. أما مساهمة خلدون البرغوثي فتركز على "مسيرة الأعلام" التي تسيّرها الحركة الاستيطانية في شوارع مدينة القدس كل عام إحياء لذكرى احتلال الشطر الشرقي، و"جبل الهيكل"، ليسرد لنا السياق التاريخي لولادة مسيرة الأعلام، والتحولات التي شهدتها هذه "الاحتفالية الصهيونية الدينية" وصولاً إلى شكلها الحالي.
ويضم هذا العدد من "قضايا إسرائيلية" مجموعة مميزة من المساهمات المتنوعة الأخرى. في مقالة نوغا وولف المترجمة عن الإنكليزية، تركز المؤلفة على فصل إسرائيل التعسفي بين تدريس "الهولوكوست" وحقوق الإنسان. أما موشيه بهار وتسفي بن دور، فيعودان من جديد لطرق "المسألة الشرقية" داخل الصهيونية في أعقاب معرض لتاريخ اليهود الشرقيين في باريس. في رفضهم للمعرض الذي يطبع دولة إسرائيل، يعيد المؤلفان تذكيرنا بالتاريخ الحقيقي لليهود الشرقيين باعتبارهم ضحية أساسية، وليست ثانوية، للاستعمار الاستيطاني الصهيوني. ويقدم وليد حبّاس مقالة نظرية - منهجية حول نظريات الحدود ونظريات مناطق الحدود، تتخذ شكل مراجعة أدبيات في محاولة لتوسيع النقاش حول علاقات المستعمَر - المستعمِر في الحالة الفلسطينية.
ويضم العدد بين صفحاته زاوية للأرشيف، أعدها مالك سمارة من محاضر محادثات ورسائل قديمة بين برانديس، وبلفور، وودرو ويلسون، وجورج غراهام، ليكشف الضغوطات الأميركية على بريطانيا للموافقة على ضمّ نهر الليطاني وجبل الشيخ إلى إسرائيل، كما يضم التعليق النقدي الذي وضعه خالد حوراني على كتاب محمد جبالي "مصيدة المكان: دراسة نقدية لحقل الفنون التشكيلية في إسرائيل"، الذي صدر عن مركز "مدار" في أيار 2022. بالإضافة إلى زاوية حول الأدب الصهيوني، وزاوية مكتبة تحتوي على أهم الإصدارات الإسرائيلية.