بعد أيام قليلة من إعلان فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنه يتبنى نهج العمل في الرئاسة الأميركية من حيث التعيينات الوظيفية. ويدعي نتنياهو أن أنظمة التعيينات في سلك جهاز الدولة الإسرائيلية على مستوى المسؤوليات الكبرى والأقل درجة بمعنى السلك المهني، لا تساعد على فرض سيطرة الحكم لمن يتم انتخابه. لكن من وراء هذا يهدف نتنياهو ومعه اليمين، إلى إطباق السيطرة على جهاز الحكم ومؤسساته، وهذا ما يثير قلق أوساط إسرائيلية كثيرة. وتعاظم هذا القلق مع إعلان لجنة وزارية عيّنها نتنياهو عن توصياتها لتغيير أنظمة التعيينات، بشكل يسمح للوزراء بتعيين موظفين بشكل مباشر، أكثر مما هو مسموح لهم به حاليا.
وحسب ما هو قائم في سدة الحكم الأميركي، فإن الرئيس وطاقمه يعينون آلاف الموظفين في السلك الوظيفي المهني، ولكن هؤلاء يغادرون وظائفهم مع انتهاء ولاية من عيّنهم. بينما في الحالة الإسرائيلية، فإن رئيس الوزراء ووزراءه، يستطيعون استبدال المديرين العامين للوزارات، والمؤسسات العليا، بينما أعضاء السلك المهني، بدءا من نواب المديرين العامين، يبقون ثابتين في وظائفهم التي يدخلون اليها بناء على عطاءات تنشر، وفق مواصفات ومؤهلات محددة.
كذلك، فإن لكل وزير الحق في تعيين عدد من المستشارين الخاصين في مكتبه، مثل مدير مكتبه، والناطق بلسانه، ومستشارين في مواضيع ذات علاقة بمسؤوليات الوزير، بموجب عدد محدد من الوظائف، وكل هؤلاء يغادرون عملهم فور إنهاء الوزير ولايته.
وما يريده نتنياهو، ومعه كافة أحزاب الائتلاف، هو توسيع حلقة ما يسمى "تعيينات موظفي الثقة"، بمعنى تعيينات من دون عطاءات وقيود، وفق رغبات الوزراء، وذلك في المؤسسات العليا لجهاز الدولة، بما فيها الوزارات. وهذه رغبات تتعلق بكافة مناحي العمل، وبالأساس القضايا الاقتصادية. فيحدث كثيرا أن وزراء يصلون إلى مناصبهم يحملون في جعبتهم ملفات مصالح لمن أوصلوهم إلى مناصبهم، ويحدث كثيرا أيضا أن مثل هذه المصالح تصطدم مع السلك المهني، الذي من مسؤوليته الحفاظ بقدر الإمكان على المصلحة العامة ونزاهة الحكم ومنع الفساد.
ويرى نتنياهو وأمثاله أن هذه التوجهات تقف عائقا أمام المصالح المعني بتحقيقها، ويرى أنه بتغيير طاقم السلك المهني، مثل نواب المديرين العامين، يصبح تحقيق المراد أقوى.
وقد شهدت العقود الثلاثة الأخيرة على وجه التحديد سلسلة من التحقيقات مع عدد ليس بقليل من الوزراء في عدد من الحكومات السابقة، بشبهة تدخلاتهم في تعيينات موظفين في وزارات تولوا مسؤوليتها. وعلى الرغم من كثرة التحقيقات، إلا أن وزيرين اثنين أدينا في الماضي القريب بتهم كهذه. وأولهما الوزير من "شاس" شلومو بنيزري، الذي قبع في السجن أربع سنوات، على خلفية تهم أخرى كذلك. وثانيهما الوزير الحالي تساحي هنغبي من الليكود الذي أدين ولكنه لم يفرض عليه حكم بالسجن.
واستذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية في الأيام الأخيرة ما قاله نيامين نتنياهو في جلسة الحكومة التي عقدت بعد أيام من فوز ترامب: "نحن بحاجة إلى أن نحكم مثل ترامب، فالرئيس الأميركي يعين 4 آلاف موظف كي يستطيع أن يحكم، ونحن أيضا بحاجة لتعيين مئات الموظفين".
إلا أن هذا الأمر لم ينشأ في اعقاب انتخاب دونالد ترامب، بل كان ضمن برنامج نتنياهو تمهيدا للانتخابات الأخيرة، وقد فرض على جميع الكتل البرلمانية المشاركة في الائتلاف الحاكم بندا يقضي بتوسيع نطاق وظائف الثقة في الوزارات، بحيث ستشمل نواب المديرين العامين، وهذا المستوى الوظيفي مخصص أصلا للمستوى المهني الثابت في الوزارات.
وقبل أيام أنهت لجنة وزارية عينها نتنياهو منذ بضعة أشهر، من وزراء من عدة أحزاب مشاركة في الحكومة، من إعداد توصيات من المفترض أن تبحثها الحكومة وتقرها في الأيام المقبلة. وفي مقدمة توصياتها إلغاء لجنة المديرين العامين، التي كانت تقدم ترشيحات للحكومة لوظائف حساسة، بما في ذلك مديرين عامون لشركات حكومية في البنى التحتية وغيرها.
كذلك فإن اللجنة أوصت بأن على لجنة البحث عن موظفين ملائمين في الوظائف الكبرى أن تعرض على الوزير ذي الشأن أو الحكومة ثلاثة مرشحين مؤهلين على الأقل، على أن يكون القرار النهائي بيد الوزير أو الحكومة، في قائمة ليست قليلة من التعيينات. كما سيتم منح الوزراء فرصة ليحددوا بأنفسهم عدد الوظائف التي هم معنيون بتعيين موظفين فيها، وأي من الوظائف ستبقى لجهاز التعيينات الرسمي.
وحسب مختصين، من ضمن توصيات اللجنة أنه سيكون بوسع الوزراء تعيين مئات الموظفين في جهاز سلك خدمات الدولة، وبحجم غير مسبوق.
أبعاد التعيينات
يجدر النظر إلى هذه الخطوة في اطار مساعي بنيامين نتنياهو، منذ عودته إلى رئاسة الحكومة في العام 2009، للسيطرة بكل قوة على كافة مقاليد الحكم، وفق رغباته وأجندته الاقتصادية والسياسية، بعيدا عن جهاز الرقابة الصارم، الذي يقف عائقا أمام هذا النهج.
وبالإمكان القول إن نتنياهو ضغط في السنوات الأخيرة من أجل تعيين أشخاص في وظائف حساسة جدا، من المفترض أنها وصيّة على نزاهة الحكم، مثل مراقب الدولة العام، إذ تم تعيين القاضي يوسف شابيرا. ولاحقا المستشار القانوني للحكومة أفيحاي مندلبليت، الذي بالإمكان تسمية وظيفته على أنه "المدعي العام الأعلى" للنيابة وبيده صلاحيات واسعة تتعلق بالتحقيقات مع الوزراء ورئيسهم وكبار المسؤولين وأعضاء الكنيست.
وقد نشرت الكثير من التقارير في وسائل الإعلام الإسرائيلية حول هذين التعيينين على وجه التحديد، وكما يبدو فإن تلك التقارير فرضت على هذين المسؤولين نوعا من الردع. فشابيرا يصدر من حين إلى آخر تقارير رقابية، فيها انتقادات حادة لجهاز الحكم، والحكومة بالذات. وفي الأسابيع القليلة الماضية كان عرضة لانتقادات من أعضاء الكنيست من أحزاب الائتلاف بما فيها "الليكود"، بسبب "حدة التقارير التي يصدرها".
كذلك فإن مندلبليت، المتدين من التيار الديني الصهيوني، الذي شغل قبل منصبه الحالي سكرتيرا لحكومة نتنياهو، عرض موقفا حادا ضد ما يسمى "قانون التسويات"، قانون نهب الأراضي الفلسطينية بملكية خاصة، التي استولت عليها عصابات المستوطنين. وحذر من أن القانون سيقود إسرائيل إلى المحكمة الدولية. كما أن مندلبليت يقف هذه الأيام أمام قرار اللامفر بفتح تحقيق جنائي ضد نتنياهو بشبهات فساد.
لكن رغم ذلك، فإن مندلبليت ينفذ أيضا أجندة اليمين والتوجهات العنصرية. وهذا برز في الأيام الأخيرة في أدائه في قضية عضو الكنيست د. باسل غطاس من حزب التجمع الوطني الديمقراطي في القائمة المشتركة، حينما طلب في غضون أقل من 24 ساعة من الكنيست رفع الحصانة البرلمانية عن غطاس، لغرض إجراء تحقيقات معه من دون قيود تفرضها الحصانة البرلمانية، بما في ذلك السماح باعتقاله، ليكون عضو الكنيست الأول منذ 69 عاما الذي يتم اعتقاله لغرض التحقيق. وكان واضحا أن هذا يندرج في إطار حملة التحريض والمحاكمة الميدانية التي تعرض لها غطاس، الذي توجه له "شبهة" تسريب أجهزة هواتف خليوية لأسرى في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
ووفق موازين القوى البرلمانية القائمة اليوم، فإن نتنياهو وحكومته قادران على تغيير الأنظمة بالشكل الذي يريدونه خاصة وأنه لا تعترض على هذه الخطوة أي من كتل الائتلاف، بما فيها حزب "كولانو" بزعامة وزير المالية موشيه كحلون، الذي يحاول الظهور بمكانة "اليميني المعتدل"، واعترض على تغيير قوانين من شأنها أن تنتقص من صلاحيات المحكمة العليا، بشأن نقض القوانين التي يقرها الكنيست.
وحتى الآن، فإن مأمور سلك خدمات الدولة، موشيه ديان، يجاهر بمعارضته لتغيير أنظمة التعيينات الكبرى القائمة. وأكد لصحيفة "كالكاليست" الاقتصادية، التابعة لصحيفة "يديعوت أحرونوت"، أن هذه التغييرات في التعيينات لن تتم في فترة ولايته. إلا أن ولايته ستنتهي في شهر أيار المقبل، بينما تعيين خلفه سيكون بيد الحكومة، التي ما من شك ستأتي بمن يتوافق مع توجهاتها.
ويتولى مأمور سلك خدمات الدولة المسؤولية عن 60 ألف وظيفة، هي وظائف الوزارات، ومؤسسات الحكم العليا، وله صلاحيات من أجل الحفاظ على جهاز الدولة، ومنع تغلغل التوظيفات على أساس حزبي. ورغم هذا التعريف، إلا أن واقع الحال يقول ما هو مخالف لهذه "النوايا".
ويقول ديان للصحيفة: "نحن لسنا الولايات المتحدة الأميركية، فنظام الحكم الإسرائيلي مختلف، بدءا من مضمون صلاحيات الوزراء، وحتى سرعة استبدالهم، ما يعني في هذه الحالة سرعة استبدال الموظفين" في السلك المهني، الذين سيعينونهم. وهذه نقطة هامة يلفت المأمور النظر اليها، فمن المعروف أن الكثير من الحقائب الوزارية تستبدل بوتيرة عالية، حتى داخل الحكومات القائمة، من بينها الحكومة الحالية، التي شهدت سلسلة تنقلات كبيرة، في غضون 20 شهرا. ونذكر منها أن نتنياهو بلغ مرحلة يتولى فيها 4 حقائب وزارية، من بينها حقيبة الاقتصاد الكبيرة، التي تنقلت حتى الآن بين ثلاثة أيد هم آرييه درعي، ثم نتنياهو، وحاليا وزير المالية موشيه كحلون.
ويتابع ديان قائلا: "علينا الحفاظ على سلك وظيفي مهني، فصحيح أنه ينتج أحيانا تصادم بين صلاحيات المنتخبين وبين السلك المهني، ولكن هذا جزء من الحفاظ على سلامة المهنية في عمل الوزارات والمؤسسات الرسمية". ويضيف: "في فترة عملي فإن التغييرات التي تطلبها الحكومة لن تتم، نحن ملزمون بأن يبقى في صلب الجهاز سلك مهني وفق مواصفات واضحة". وعبر عن أمله أن يتم الحفاظ على مستوى عال من المواصفات لكل واحدة من الوظائف في سلك خدمات الدولة.
وأصدر حزب "يوجد مستقبل" المعارض بيانا ردا على توصيات اللجنة الوزارية السابق ذكرها، قال فيه: "إننا مرة أخرى أمام ممارسات حكومة تهدف إلى ترتيب وظائف للمقربين منها، بدلا من الانشغال في مصلحة الجمهور بشكل عام". ورفض الحزب إلغاء لجنة المديرين العامين، التي يهدف عملها إلى تنظيف الفساد في التوظيفات. وقال إن هذه اللجنة فسحت المجال أكثر أمام الأجيال الشابة، لتنخرط بكفاءاتها في سلك خدمات الدولة، وفي الشركات الحكومية. ووصف الحزب خطوة الحكومة بأنها هدّامة، لغرض مساعدة الوزراء في ترتيب وظائف لأنصارهم الحزبيين، على حساب الجمهور العام.
وأمام الوضع الناشئ، فإن المسار الوحيد، الذي له احتمال بوقف هذا الاجراء، هو التوجه بالتماسات للمحكمة العليا ضد قرار الحكومة. ولكن في حينه ستكون المحكمة أمام معضلة، فمن ناحية فإن التوجهات القائمة في المحكمة العليا، خاصة في السنوات الأخيرة، هو تقليل التدخل في قرارات الحكومة، إلا في حالات استثنائية. ولكن في هذه القضية بالذات، فإن المحكمة العليا بحدّ ذاتها مستهدفة، إذ سبق وذكر هنا أن لدى نتنياهو وغالبية أحزاب الائتلاف توجهات قائمة منذ سنوات لتقليص صلاحيات المحكمة العليا، من حيث نقض قوانين يقرها الكنيست، بالإضافة إلى مساع لا تتوقف لتغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة، التي يشارك فيها المستوى السياسي والمحكمة العليا ونقابة المحامين، بشكل يزيد من وزن المستوى السياسي، وبذا يزداد تأثيره على القرار.
المصطلحات المستخدمة:
مراقب الدولة, المستشار القانوني للحكومة, يديعوت أحرونوت, الليكود, الكنيست, بنيامين نتنياهو, تساحي هنغبي, باسل غطاس, آرييه درعي