عاد الحديث في إسرائيل حول احتمال شن عدوان جديد على قطاع غزة في أعقاب سقوط صاروخ أطلق من القطاع في منطقة المجلس الإقليمي أشكول يوم الجمعة الماضي، وقصف الطيران الحربي الإسرائيلي مصنع إسمنت في جنوب القطاع، في اليوم التالي.
وينظر المحللون الإسرائيليون إلى احتمالات التصعيد وربما شن عدوان جديد على القطاع من خلال ثلاثة محاذير: المعركة الانتخابية في إسرائيل، الوضع الإنساني المتدهور في القطاع، واستئناف العلاقات بين حركة "حماس" وإيران.
وإلى جانب ذلك، يشير المحللون إلى تجارب صاروخية أجرتها "حماس" مؤخرا، وإلى تقارير تحدثت عن أن "حماس" تعيد بناء أنفاق أو ترميم أخرى دمرها الجيش الإسرائيلي خلال العدوان الأخير، وإلى الاستعراض العسكري التي نظمته "حماس" الأسبوع الماضي في مناسبة الذكرى السنوية لتأسيسها.
وكتب المحلل العسكري في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، أليكس فيشمان، أمس الأحد، أن تقديرات شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية للعام 2015، هي أن "ثمة احتمالا لاستئناف المواجهة المسلحة مقابل غزة ومقابل الضفة الغربية بقوة مختلفة" وربما قبل نهاية العام الحالي. وعلى ضوء ذلك، أصدرت شُعب في هيئة الأركان العامة للجيش، مثل شعبة العمليات والشعبة اللوجستية، أوامر بالاستعداد لمواجهة عسكرية، لكون جهوزيتها تستغرق وقتا طويلا نسبيا.
وأضاف فيشمان أنه على هذه الخلفية، فإن "أي حريق تشعله حماس أو السلطة الفلسطينية أو إسرائيل، يحظى بأهمية متزايدة، حتى لو كان الحديث يدور حول حدث محلي محدود ولا يفترض أن تكون له انعكاسات آنية على أمن المنطقة. وهكذا ينبغي قراءة التدهور الأمني في قطاع غزة، في نهاية الأسبوع الماضي".
ويذكر أن العدوان على غزة في الصيف الماضي، انتهى وسط سجال حادّ داخل إسرائيل، واتهامات متبادلة بين الجيش وجهاز الأمن العام (الشاباك)، حول ما إذا كان الشاباك قد حذر من استعداد "حماس" لهذه الحرب، وحول عدم الالتفات بالشكل الكافي في إسرائيل إلى "الأنفاق الهجومية"، أي تلك التي تمتد من داخل القطاع إلى مناطق تقع خلف الشريط الحدودي مع إسرائيل أو إلى مسافة قريبة جدا من الشريط الحدودي وداخل القطاع.
وفي هذا السياق، تدعي إسرائيل، بحسب فيشمان، أن قصف الطيران الإسرائيلي مصنع الإسمنت في جنوب القطاع، أول من أمس، لم يكن من قبيل الصدفة، وإنما هذه الغارة كانت عبارة عن رسالة إسرائيلية، وأن هذا المصنع يوفر "بلاطات" إسمنتية لتحصين أنفاق "حماس".
وأضاف فيشمان أن "صورة حفر أنفاق غزة ليست واضحة اليوم أيضا. ولا شك في أن هذه الحفريات لا تجري بالحجم الذي جرت فيه قبل عملية ’الجرف الصامد’، رغم أنه واضح أن حماس مهتمة جدا بترميم الأنفاق ومنظومتها الصاروخية، لأن قدراتها تقلصت جدا".
كذلك أشار هذا المحلل نفسه إلى أن التجارب على الصواريخ، التي تحدثت تقارير عن أن "حماس" أجرتها مؤخرا، "ليست تجارب على صواريخ جديدة، وإنما هي تجارب لصواريخ موجودة".
وقال المحلل إن هذا الاستنتاج نابع من صعوبة دخول مواد جديدة إلى القطاع في الشهور الماضية.
الانتخابات الإسرائيلية واحتمالات استئناف العدوان على غزة
لوح رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، مساء أول من أمس، بتوجيه ضربات عسكرية إلى قطاع غزة، معتبرا أن "أمن إسرائيل يأتي قبل أي شيء آخر، ولن أمر مرور الكرام حتى على إطلاق صاروخ واحد على أراضينا. ولذا رد سلاح الجو على إطلاق هذا الصاروخ بتدمير مصنع إسمنت استخدمته حماس لترميم أنفاق تم ضربها أثناء عملية الجرف الصامد. حماس تتحمل المسؤولية عن أي تصعيد ونحن سنحافظ على أمن إسرائيل".
وأشار فيشمان في هذا السياق، إلى أن "إسرائيل تعتقد أن حماس تبني قوتها، لكنها فضلت التهدئة على استئناف المواجهة. ولذلك، ينبغي أن نأمل أن التغيير في السياسة الإسرائيلية الذي شهدناه في نهاية الأسبوع الماضي غير مرتبط بالانتخابات القريبة، ونابع من اعتبارات أمنية أكيدة".
وأضاف أن "فترة الانتخابات، بصورة عامة، هي الفترة التي ينبغي توخي الحذر بشكل خاص خلالها، إذ أنها تتميز باستخدام تضليلي تمارسه كافة التيارات السياسية للمعلومات الاستخباراتية... وموضوع ترميم الأنفاق يغذي السياسيين، ومنذ الإعلان عن تقديم موعد الانتخابات في إسرائيل يستخدم هذا الموضوع كأداة مناكفة سياسية".
وتطرّق المحلل العسكري في صحيفة "هآرتس"، عاموس هرئيل، إلى هذا الموضوع أمس، ورأى أنه توجد فجوة بين خطاب نتنياهو الصارم وما يتم تنفيذه ميدانيا، وأنه خلال سنوات حكمه الست الماضية شن عدوانين على القطاع "من دون رغبة لديه" في ذلك. واعتبر هرئيل أن نتنياهو سيمتنع الآن عن شن عدوان آخر تحسبا من عدم تمكنه من السيطرة على مجرى الأحداث، بسبب الانتخابات، لكن في حال تم تكثيف إطلاق الصواريخ من القطاع فإن التصعيد سيكون واردا.
وضع إنساني متدهور في القطاع
وفقا لهرئيل، فإن تقديرات جهاز الأمن الإسرائيلي تشير إلى أن فصيلا فلسطينيا صغيرا في قطاع غزة هو الذي أطلق الصاروخ يوم الجمعة الماضي، والذي أعقبه قصف مصنع الإسمنت في جنوب القطاع، معتبرا أن تبادل النيران هذا لا يشكل تصعيدا، لكن تكمن فيه إمكانية تصعيد، خاصة وأنه منذ انتهاء العدوان على غزة في الصيف الماضي، مرّت أربعة شهور تقريبا، من دون فعل أي شيء في مجال ترميم الدمار الهائل الذي ألحقه الاحتلال الإسرائيلي بالقطاع.
وأشار هرئيل إلى أن "خطأ في الاتصال بين إسرائيل وحماس، مثلما حدث بقدر كبير عشية نشوب الحرب في الصيف الماضي، ما زال من شأنه أن يؤدي إلى انفجار الوضع، الأمر الذي سيخيم على معركة الانتخابات العامة الإسرائيلية القريبة".
ولفت هرئيل إلى أنه سبق العدوان على غزة في الصيف الماضي، إطلاق فصائل صغيرة في القطاع صواريخ باتجاه إسرائيل بطريقة "التقطير"، أي إطلاق صاروخ كل بضعة أيام، وما لبث ذلك أن تصاعد حتى بدأت "حماس" نفسها بإطلاق الصواريخ، وذلك بسبب الضائقة التي يواجهها القطاع في أعقاب تشديد الحصار عليه، خاصة من جانب مصر التي أغلقت معبر رفح وعملت على تدمير الأنفاق بين القطاع وسيناء، التي اعتبرت "شريان الحياة" للغزيين، وعلى ضوء تنكيل الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين والبضائع الواردة للقطاع.
ورأى هرئيل أن الوضع الحالي في القطاع ليس مختلفا كثيرا عن الظروف التي سادت فيه عشية العدوان الأخير، وعندما جرى وقف إطلاق النار، في نهاية آب الماضي، كانت تسود القطاع توقعات كبيرة، بدءا من رفع الحصار وترميم الدمار وحتى إقامة ميناء ومطار، إلا أن شيئا من هذا لم يتحقق بعد.
ورأى هرئيل أن العرض العسكري الذي نظمته "حماس"، قبل أيام، شكّل رسالة إلى إسرائيل مفادها "إما الترميم وإمّا الانفجار"، إذ أنه إضافة إلى مقتل 2200 فلسطيني تقريبا خلال العدوان، دمر العدوان الإسرائيلي نحو 100 ألف منزل، بينها 20 ألف منزل دمرت بشكل كامل، ولا يزال عشرات آلاف الغزيين يسكنون في خيام، في الوقت الذي تدخل فيه مواد البناء إلى القطاع بشكل بطيء جدا.
واعتبر أن العامل الكابح في هذه المعادلة هو معاناة سكان القطاع نتيجة للعدوان، والتي ما زالت مستمرة حتى اليوم، "ورغم الغضب على إسرائيل ومصر فإن ثمة شكا في ما إذا كان سكان القطاع يريدون جولة قتال أخرى".
ولفت هرئيل إلى تطور حدث مؤخرا وهو أن حركة "حماس" تعمل على ترميم علاقتها مع إيران تدريجيا، وذلك من خلال المديح الإيراني لـ"حماس" على صمودها أثناء العدوان، وتقديم الحركة الشكر لإيران على تسليحها في الماضي. وأشار في هذا السياق إلى زيارة وفد "حماس" لطهران في بداية الشهر الحالي. وعلى ضوء ذلك، خلص المحلل إلى أنه بالإمكان توقع استئناف تهريب الأسلحة من إيران إلى غزة وأن هذه "أنباء ليست سارة" بالنسبة لإسرائيل.
مفهوم الردع الإسرائيلي انهار وأفلس
وكان هرئيل في مقال نشره يوم الجمعة الماضي، نقل عن الرئيس السابق لقسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") وقائد الكليات العسكرية في إسرائيل حاليا، اللواء يوسي بايدتس، والمحاضر في موضوع الأمن والإستراتيجية في المركز المتعدد المجالات في هرتسليا، الدكتور ديما آدامسكي، قولهما إنهما توصلا في دراسة أعداها مؤخرا إلى الاستنتاج بأن مفهوم الردع الإسرائيلي انهار وأفلس.
وقال بايدتس وآدامسكي إن "المفهوم الإسرائيلي لمصطلح الردع، الذي تبلور جزء منه كبديل لسعي إسرائيل إلى الحسم في الحروب في الماضي، ليس فقط أنه ليس كافيا، وإنما بإمكانه التسبب بضرر إستراتيجي. والمفهوم التقليدي للردع، كتهديد من شأنه التأثير على اعتبارات العدو من أجل منعه من تصرف غير مرغوب فيه، تم وضعه في فترة (مؤسس إسرائيل ورئيس حكومتها ووزير دفاعها الأول) دافيد بن غوريون، كدعامة أساسية لمفهوم الأمن القومي، إلى جانب دعامتي الإنذار المبكر من حرب وحسم الحرب".
وأضافا أنه "بنظرة إلى الوراء تم نفي العلاقة بين الحسم في الحرب والردع الطويل الأمد". وأشارا إلى أنه على الرغم من أن حرب حزيران العام 1967 انتهت بانتصار إسرائيلي كبير، إلا أن حرب الاستنزاف اندلعت بعد ذلك بعام واحد، وتلتها حرب تشرين الأول/ أكتوبر العام 1973. وتبين أن نشوب الحرب ليس محكوماً بتوازن القوى وإنما بميزان المصالح أيضا.
وتابع بايدتس وآدامسكي أن "الدول العربية شنت حروبا أخرى، حتى عندما كانت تعي بشكل كامل القوة العسكرية الإسرائيلية الهائلة. ولاحقا، فإن تفوق الجيش الإسرائيلي، عسكريا وتكنولوجيا، في ميدان القتال، دفع العرب إلى البحث عن حلول أخرى، وصلت ذروتها في السنوات العشر الأخيرة بإطلاق الصواريخ باتجاه الجبهة الداخلية الإسرائيلية".
ورأى كلاهما أن إدخال منظومات دفاعية، مثل "القبة الحديدية"، إلى مفهوم الردع أدى إلى "تطور توجه مشوه مبني على الوهم أن بالإمكان تقدير فاعلية منظومات ردع".
وشددا على أنه "يصعب إثبات علاقة سببية بين الشكل الذي انتهى فيه القتال وبين مدى الردع". فقد تآكلت مصداقية الردع الإسرائيلي في لبنان بين الانسحاب من جنوب لبنان، في العام 2000، وحرب لبنان الثانية في العام 2006، "وتم استيعاب التهديدات الإسرائيلية على أنها وهمية والجيش الإسرائيلي على أنه نمر من ورق".
وأضافا أن "تجربة السنوات الفائتة (الحروب ضد غزة) تشكل دعما إضافيا للادعاء بأن الحروب التي تعتمد على الردع، وإن تم تحقيق الهدوء لفترات معينة في نهايتها، لا تحل المشاكل الأساسية مع الخصم وإنما تسمح بإدارة عنف متواصل".
واستخلص هرئيل من أقوال بايدتس وآدامسكي هذه أن "من الأفضل لنتنياهو ألا يوهم نفسه بأنه حقق تفوقا طويل الأمد في غزة، إذ يتوقع أن تعود المشكلة الغزية إلى طاولته، وربما إلى طاولة خلفه في السنوات القليلة المقبلة أيضا".