امتلأت الصحف الإسرائيلية، في الأيام القليلة الماضية، بالتحريض والعبارات العنصرية، قبيل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين الـ 26، بعد منتصف ليلة أمس الأربعاء – 30.10.2013. ولم تتردد هذه الصحف والمحللون فيها من استخدام أي ادعاءات أو مزاعم إلا وجندوها من أجل التحريض على الأسرى المحررين، وإلصاق أبشع الأوصاف بهم. وبدا بوضوح أن الكراهية التي بثتها الصحف والمواقع الالكترونية الأكثر رواجا، وقادت حملة شعبية عنصرية في إسرائيل، لم تكن موجهة ضد الأسرى فقط، وإنما ضد كل ما هو عربي وفلسطيني.
وذكرت الموقع الالكتروني الحريدي "كيكار هشبات"، أنه خلال الساعات القليلة التي سبقت خروج أسرى الضفة الغربية، من معتقل "عوفر" قرب رام الله، تمهيدا لإطلاق سراحهم، تظاهر الآلاف من نشطاء اليمين الإسرائيلي قبالة هذا السجن، وهتفوا بشعارات عنصرية ضد العرب والمسلمين. وأقدم متظاهرون على حرق قطعة قماش بدعوى أنها "لباس إسلامي" وصرخوا بالشعار العنصري "الموت للعرب".
وامتدت هذه الموجة العنصرية إلى شمال إسرائيل، حيث كتب نشطاء في اليمين شعارات عنصرية على جدار مدرسة ثانوية في بلدة "حتسور" في الجليل، وبينها شعار "الموت للعرب". وقالت الشرطة الإسرائيلية أن التقديرات هي أن هذه الشعارات كُتبت على خلفية إطلاق سراح الأسرى.
وإلى جانب الصحف، قادت هذه الحملة العنصرية منظمة "ألماغور" اليمينية، التي تدعي أنها تمثل "ضحايا الإرهاب"، والتي تبادر، قبل أية عملية إطلاق أسرى، إلى شحن الجمهور عموما واليمين خصوصا بشحنات العنصرية والتحريض ضد الفلسطينيين. وفي موازاة ذلك تقدم الالتماسات إلى المحكمة العليا ضد قرارات بتحرير أسرى، ويتجند معها دائما عدد قليل من العائلات التي قُتل أحد أفرادها في هجوم فلسطيني. وتتجاهل هذه المنظمة بشكل متعمد السبب الرئيسي الذي زج بالأسرى الفلسطينيين في السجون، وهو الاحتلال.
وردت المحكمة العليا الإسرائيلية، أول من أمس، التماس "ألماغور" ضد قرار حكومة إسرائيل بإطلاق سراح الأسرى. ورغم أن المحكمة العليا هي هيئة إسرائيلية شريكة في الاحتلال من خلال العديد من القرارات التي أصدرتها ضد الفلسطينيين طوال السبعة وأربعين عاما الماضية، إلا أن هذه الحقيقة لم تمنع رئيس منظمة "ألماغور"، مئير إيندور، من مهاجمة المحكمة.
واعتبر إيندور أنه "تم تجاوز كافة الخطوط الحمراء هذه المرة، بإطلاق سراح قتلة من الوزن الثقيل. وقد توقعت العائلات الثكلى وألماغور أن المحكمة التي تدخلت هذا الشهر بشكل واضح لصالح المتسللين من إفريقيا، ووقفت على قدميها الخلفيتين أمام الحكومة، ستتدخل هذه المرة أيضا في قرار الحكومة" بإطلاق سراح الأسرى.
وأضاف إيندور أن "قضاة المحكمة العليا أثبتوا أن ضحايا الإرهاب والشهداء يساوون في نظرهم قشرة ثوم، وقد طووا رايات العدل في أكثر الأماكن أهمية لرفعها، أي أمام المنظمات الإرهابية. وستواصل ألماغور النضال من أجل العدل والأخلاق في المكان الذي فشلت فيه المحكمة العليا".
كأن إسرائيل ليست دولة احتلال...
لم تأبه الصحف الإسرائيلية بحقيقة أن تحرير الأسرى جاء في إطار استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وتباكت هذه الصحف على العائلات التي فقدت أفرادا منها خلال سنوات الصراع، علما أنه من الواضح جدا أن غالبية هذه العائلات لا تشارك في أي نشاط ضد إطلاق سراح أسرى فلسطينيين، وخاصة أن جميع هذه النشاطات، ومن دون استثناء، ينظمها اليمين.
وصدرت الصحف، يوم الثلاثاء الأخير، بعناوين صارخة مليئة بالحقد والكراهية والتضليل والعنصرية. فقد صدرت صحيفة "يسرائيل هيوم"، التي تأسست من أجل دعم حكم رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، وتوزع مئات آلاف النسخ مجانا يوميا، بعنوان رئيس جاء فيه: "الأوغاد يتحررون". بينما كان العنوان الرئيس لصحيفة "معاريف": "دموع عائلات الضحايا وفرح في الشارع الفلسطيني". وصدرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" بعنوان "يبكون ويتخاصمون"، في إشارة إلى مسرحية معارضة حزب "البيت اليهودي" لإطلاق سراح الأسرى، مقابل إصرار نتنياهو على تنفيذ التزامه بقرار تحريرهم.
وتعاملت وسائل الإعلام الإسرائيلية مع الأسرى الفلسطينيين، منذ الأسبوع الماضي، على أنهم "مخربون" و"قتلة" و"إرهابيون". ورغم أن جميع الأسرى، الذين تم إطلاق سراحهم الليلة قبل الماضية، قضوا أكثر من عشرين عاما في السجون، إلا أن حملة التحريض ضد إطلاق سراحهم لم تتوقف بتاتا. وفي هذا السياق نشرت "يديعوت أحرونوت"، يوم الاثنين الماضي، ما وصفته بأنه "قائمة سوداء"، شملت أسماء الأسرى المحررين الستة والعشرين، ووضعت تحت اسم كل أسير اسم القتيل الذي أدين بقتله. ونشرت هذه الصحيفة عنوانا رئيسا: "نتنياهو كسرنا" وعنوانا آخر: "دائرة الألم". وكأن إسرائيل ليست دولة احتلال ولا تقتل الآلاف المؤلفة من الفلسطينيين ولا تنكل بالفلسطينيين ولا تقيّد تحركاتهم ولا تسرق أرضهم، ولا تستوطن فيها، ولا تسرق مياههم ولا تحاصرهم.
ديماغوغية جوفاء
يمارس العديد من المحللين الإسرائيليين ديماغوغية جوفاء، خاصة عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين. وأحد هؤلاء المحللين هو بن درور يميني، في "معاريف"، والذي استغل مقاله للتحريض على الأسرى والفلسطينيين، وللمطالبة بإطلاق سراح الجاسوس الأميركي - اليهودي جونثان بولارد من السجن الأميركي.
وكتب يميني، بديماغوغيته الجوفاء المعهودة، أن "تحرير مخربين وقتلة في ظروف السلام هو جزء لا يتجزأ من عملية المصالحة، شريطة أن تكون هناك مصالحة. لكن القصة ليست على هذا النحو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. [ورغم أنه] توجد تهدئة معينة، ويوجد تعاون أمني، وتوجد معارضة للعنف، على الأقل من جانب أبو مازن، الذي أدرك أن العنف يضر بالفلسطينيين أنفسهم، لكن لا توجد مصالحة. والخطاب [الفلسطيني] ما زال كما كان. وأي واحد ليس أعمى تجاه الواقع يعرف أن التحريض مستمر".
ويبدو أن يميني كتب هذه السطور كأنه يعيش في فراغ، وكأن الشعب الفلسطيني لا يعيش في حالة قهر شديد جراء الاحتلال الإسرائيلي.
وشنت حركة "يسرائيل شيلي" (إسرائيل خاصتي)، منذ الأسبوع الماضي، حملة إعلامية على موقعها الالكتروني تحت عنوان "هم ليسوا أسرى - إنهم مخربون". وتعتبر هذه الحركة واحدة من أكبر حركات اليمين والتي نظمت المظاهرة قرب سجن "عوفر" ونقلت آلاف المشاركين فيها بحافلات إلى مكان المظاهرة. وقالت في بيان على موقعها الالكتروني إنه "في الفترة الأخيرة، وفي كل مرة يتم فيها طرح موضوع المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، يُستأنف النقاش العام حول إطلاق سراح أسرى. وهذا غسيل للكلمات الذي يخفي واقعا خطيرا. إذ أنهم ليسوا أسرى، هم مخربون. قتلة مع الكثير من الدماء على الأيدي وتمت محاكمتهم وسُجنوا".
واعتبر يسرائيل هارئيل، رئيس مجلس المستوطنات الأسبق، في صحيفة "هآرتس" اليوم الخميس، أن "البشر يستخفون بمن يظهر عدم احترام للذات... وإسرائيل، بأدائها الاستسلامي في موضوع المخربين، هي دولة مستهزأ بها اليوم. وثمة شيء غير جيد حدث لأجهزة مناعتها الأخلاقية، وبسببه تضررت قدرتها على مقاومة أخف الضغوط. ومن أجل إطلاق سراح المخربين، تعالت الذريعة بأن ’هناك أهمية إستراتيجية في المدى البعيد’. وماذا عن الأضرار الأخلاقية – الداخلية والسياسية – الخارجية الحاصلة في هذه الأثناء نتيجة تراجع كرامة الدولة؟".
وأضاف أن "التحرير الأخير للمخربين - القتلة، من دون أي مقابل، يؤكد مدى تدهور قوة الصمود القومي. وإسرائيل، عندما يكون ’اليمين’ في الحكم حصرا، ليست مستعدة لمواصلة النضال من أجل قيمها. وكل شيء فيها آني- حكومة الآني. وفي المستوى المبدئي، فإن حكومة نتنياهو تذكر، حتى في خطابها، بحكومة أوسلو".
نشاط اليمين أثار اشمئزاز الإسرائيليين
لقد بالغ اليمين الإسرائيلي في احتجاجاته ضد إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين، لدرجة أنه أثار اشمئزاز الإسرائيليين، وخاصة عائلات الجنود القتلى. فقد وضع نشطاء من اليمين عشرات اللافتات على قبور الجنود في مقبرة عسكرية في القدس الغربية. وكتبوا على هذه اللافتات، ذات الخلفية السوداء، وبخط أحمر، "عذرا أننا نسيناكم. بالنسبة لنا – موتكم كان بلا طائل. [التوقيع] حكومة إسرائيل".
وقالت تقارير صحافية إنه تقف خلف هذا العمل منظمة مجهولة باسم "عذرا أننا نسينا". وجاء في بيان عممته هذه الحركة على وسائل الإعلام أن "الحكومة نسيت ضحايا الإرهاب، واختارت أن تحرر القتلة. ونحن نعلم أن وضع اللافتات هو عمل غايته زعزعة الجمهور وقد حقق هدفه. وتحريرهم مؤلم لنا جميعا، وتوجد عائلات ثكلى بيننا".
وقد عبر أهالي الجنود المدفونين في هذه المقبرة عن اشمئزازهم من هذا العمل. وقال والد جندي مدفون، إن "الاحتجاج يجب أن يبقى خارج المقابر العسكرية، التي هي في صلب الإجماع. وآراء الأهالي الثكلى السياسية مختلفة ومتنوعة، لكن جميعنا متحدون في الرأي على أن هذا المكان مقدس، وممنوع السماح بموطئ قدم هنا لمن يريد التعبير عن احتجاج أو القيام باستفزازات. وقد تجاوز واضعو اللافتات كافة الحدود. وإذا كنت تريد أن تتظاهر، فاذهب وتظاهر أمام مكاتب الوزراء. لكن يحظر عليك المجيء إلى المقبرة العسكرية. هذا تابو، ويجب أن يبقى تابو".
وأضاف "أنا أؤيد العملية السياسية، ومن الجهة الأخرى لا أكون مرتاحا عندما يطلقون سراح مخربين. لكن هذا قرار اتخذته الحكومة".
كذلك ندد ايلي بن شيم، رئيس منظمة "يد لبانيم" التي تعنى بتخليد ذكرى الجنود القتلى، بوضع اللافتات في المقبرة العسكرية، وقال إن "هذا عمل جبان، ومس بذكرى القتلى وتدنيس لقبورهم". وأضاف أنه توجه إلى المفتش العام للشرطة الإسرائيلية، يوحنان دانينو، وطلب فتح تحقيق ضد المبادرين لهذا العمل. كذلك طالبت حركة "السلام الآن" المستشار القانوني للحكومة الإسرائيلية، يهودا فاينشتاين، بفتح تحقيق.
نتنياهو هو المستفيد الأول من حملة التحريض
دار سجال داخل الحكومة الإسرائيلية، عشية إطلاق سراح الأسرى، بين نتنياهو والوزراء المقربين منه، مثل وزير الداخلية جدعون ساعر، وبين وزراء من حزبه، الليكود، ووزراء من حزب "البيت اليهودي"، الذي أعلن رئيسه نفتالي بينيت، أنه "يجب قتل المخربين وليس تحريرهم". ووصل هذا السجال إلى حد قال فيه ساعر لبينيت إنه إذا كان يعارض بهذه الشدة قرار الحكومة بإطلاق سراح الأسرى فإن عليه أن يستقيل. لكن بينيت لم يستقل ومرت "أزمة" الائتلاف بسلام.
لكن المستفيد الأول من كل هذا السجال هو نتنياهو نفسه. ورغم أنه منشغل في قضايا "مصيرية" بالنسبة لإسرائيل، كما يصرح باستمرار، مثل قضية النووي الإيراني ومواجهة عزلة إسرائيل في العالم واستقرار تنظيمات الجهاد العالمي عند حدود إسرائيل وقصف غزة ومواجهة ضغوط أميركية، إلا أنه صرح أن القرار بإطلاق سراح الأسرى الستة والعشرين "كان من أصعب القرارات التي اتخذها كرئيس للحكومة"!
إلا أنه في مقابل "هذا القرار الصعب"، أعلن نتنياهو عن توسيع الاستيطان بشكل كبير. وأفادت صحيفة "هآرتس"، اليوم، أنه في موازاة إطلاق سراح الأسرى، يعمل نتنياهو على دفع مخططات لبناء نحو خمسة آلاف وحدة سكنية جديدة في مستوطنات الضفة الغربية والقدس الشرقية. وبذلك يكون نتنياهو قد أرضى الغرب، الذي يسمى في إسرائيل بـ "المجتمع الدولي"، بإطلاق سراح الأسرى، وأرضى اليمين في إسرائيل، وبضمن ذلك جهات واسعة داخل حزب الليكود، بتوسيع الاستيطان. وبعد انتهاء مدة التسعة شهور المخصصة للمفاوضات، والتي سيتم خلالها الإفراج عن دفعتين أخريين من الأسرى، من المتوقع أن يتم الإعلان عن فشل المفاوضات، كما تشير كافة التوقعات والتقارير، لكن نتنياهو سيعلن أنه قدم تنازلات كبيرة للفلسطينيين تتمثل في إطلاق سراح 104 أسرى قدامى. وبانتهاء مدة التسعة الشهور، ستكون ولاية نتنياهو قريبة من منتصفها، لكن ائتلافه سيكون متماسكا وقويا ومستقرا.
هذا التقرير ممول من قبل الاتحاد الأوروبي
"مضمون هذا التقرير هو مسؤولية مركز "مدار"، و لا يعبر بالضرورة عن آراء الاتحاد الاوروبي"
المصطلحات المستخدمة:
المستشار القانوني للحكومة, يديعوت أحرونوت, هآرتس, يسرائيل هيوم, الليكود, بنيامين نتنياهو, نفتالي بينيت