تسود علاقة متوترة بين جمهور المتدينين اليهود وجهاز القضاء في إسرائيل، وتصل هذه العلاقة إلى حد الصدام أحيانا.
وصدرت، مؤخرا، دراسة جديدة حول هذه العلاقة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"، بعنوان "محاكم الأغيار في دولة اليهود". وأجرى الدراسة الدكتور إسحاق براند، وهو محاضر كبير في القانون العبري في كلية الحقوق في جامعة بار إيلان وأستاذ التلمود والفلسفة اليهودية في عدد من الكليات الدينية اليهودية. وأشرف على هذه الدراسة نائب رئيس "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" وأستاذ القانون في جامعة بار إيلان، البروفسور يديديا شطيرن.
وأشارت الدراسة إلى أن التوتر والمواجهة بين جمهور المتدينين اليهود وجهاز القضاء في إسرائيل "نابعان من الفجوة النموذجية بين القانون والشريعة اليهودية، ومن الفجوة الأيديولوجية بين القيم الدينية والقيم العلمانية الليبرالية". ويتزايد الشعور بالتقاطب تجاه جهاز القضاء في إثر القرارات الصادرة عن المحاكم في قضايا حول العلاقة بين الدين والدولة. ولفتت الدراسة إلى حقيقة أن معظم القضاة هم من العلمانيين - الليبراليين، ويبلورون مواقفهم وقرارات الحكم التي يصدرونها وفقا لرؤيتهم ووجهة نظرهم وأفكارهم العلمانية - الليبرالية. وفي المقابل ينظر جمهور المتدينين اليهود إلى مخزون قرارات المحاكم المدنية باعتباره حملة، بل حتى حربا منظمة ضد التوراة.
ويتبين من الدراسة أن "الشريعة اليهودية تصعد الصراع من خلال تعاملها السلبي تجاه أجهزة القضاء اليهودية غير الدينية. ورغم أن الشريعة اليهودية تعترف بالقانون الأجنبي، إلا إن المحاكم التي تحكم بموجب هذا القانون تعتبر محاكم يحظر المقاضاة أمامها قطعيا". وانطلاقا من هذا المفهوم فإن الشريعة اليهودية تستصعب الاعتراف بالمحاكم المدنية الإسرائيلية التي تحكم وفقا لقانون ليس مستمدا من التوراة. كذلك فإن حقيقة كون قضاة المحاكم المدنية الإسرائيلية هم يهود لا تخفف من قوة الصدام بين المتدينين وجهاز القضاء. بل على العكس، فهناك مُفْتون يعتبرون أن "جهازا قضائيا يكون قضاته يهودا وقوانينه غريبة [أي ليست توراتية] هو جهاز مستنكر وأسوأ من جهاز قضائي يكون قضاته أغيار [أي غير اليهود] وقوانينه موضوعة بأيدي الأغيار".
وتقول الدراسة إن الواقع الذي يسود فيه الاحتكاك أو الصدام بين اليهود المتدينين، الذين يحافظون على تعاليم التوراة، وأجهزة القضاء المدنية هو واقع شائع ومألوف للغاية. وعمليا فإن الحديث يدور حول واقع يومي سائد منذ حقب تاريخية قديمة، تعود إلى فترة الحكم الروماني في فلسطين. كما أن حاخامات اليهود في بابل حاولوا بطرق شتى التعامل مع توجه أفراد يهود إلى المحاكم المحلية التي تحكم وفقا للقانون الفارسي. وبعد ذلك تعاطى الحاخامات في المشرق مع التوجه إلى القضاء الإسلامي. وفي فترات لاحقة، في الأندلس وأوروبا الشرقية بداية، وبعد ذلك في دول أوروبا والمغرب العربي، حيث تواجد اليهود كان واسعا نسبيا، تعاطى حاخامات اليهود بصورة واسعة مع العلاقة بين القانون التوراتي والقوانين المحلية في البلدان المختلفة. وأشارت الدراسة إلى أنه على مر الأجيال تراكمت معرفة واسعة وخبرة غنية بالإمكان أن توجه إلى تسويات ما زالت قابلة للتطبيق في الحاضر، بين المتدينين اليهود والمحاكم المدنية الإسرائيلية.
وتركز الدراسة بالأساس على مواقف المفتين اليهود في العصر الحالي حيال مسألة مكانة المحاكم المدنية في إسرائيل. ووفقا للدراسة فإن هؤلاء المفتين يحضرون إلى مكاتبهم مشحونين بكم معقد وشائك من المعلومات والمواد والاعتبارات والقيم. وتوجد في جعبتهم فتاوى تندد بشدة وتنظر بخطورة بالغة إلى فض الخصومات في أجهزة قضاء لا تصدر أحكامها بموجب قوانين التوراة. وترتبط هذه الفتاوى بتراث إفتاء معقد. والمشكلة بالنسبة للمتدينين أن هذا التراث يلاحظ أعدادا كبيرة من اليهود الذين يتوجهون إلى "محاكم الأغيار"، حتى لو كانت محاكم إسرائيل يحكم فيها قضاة يهود.
ولا يكون رد فعل هؤلاء المفتين هو غض الطرف عن توجه أعداد كبيرة من اليهود إلى المحاكم المدنية ولا حتى بإصدار صرخة احتجاج ضد هذه الظاهرة. وتقول الدراسة إن العديد من المفتين، على مدار الأجيال السابقة وفي جميع أماكن تواجد المجتمعات اليهودية، بذلوا جهودا من أجل الكشف عن تحفظات تسمح بالتوجه إلى المحاكم المدنية. وذلك على الرغم من أن رأي هؤلاء المفتين حيال المحاكم المدنية كان دائما سلبيا وقاطعا من الناحيتين الأخلاقية والشرعية. "لكن مسؤوليتهم تجاه جمهور إسرائيل دفعتهم إلى السعي لوضع حلول شرعية تسمح بالتوجه إلى القاضي الأجنبي والقانون الغريب" الذي لا يستند إلى الشريعة اليهودية.
وإلى جانب الفتاوى المتشددة وتراث الإفتاء المعقد والشائك، هناك الحلم القديم للحاخامات المتمثل "بإعادة قضاة إسرائيل ومحاكم التوراة إلى مكانتهم السابقة. وخلافا للأجيال الماضية فإن هذا الحلم بات واقعيا في دولة يهودية متجددة. وهذه الشحنة المركبة تضع أمام المفتين في عصرنا، وخصوصا أمام ’الصهاينة’ بينهم، مهمة صعبة الحسم. فغالبيتهم العظمى يختارون طريقة النفي، أي أن المحاكم في دولة إسرائيل هي محاكم أغيار، يحظر التوجه إليها، ومن يفعل ذلك فإنه يهين ويشتم توراة سيدنا موسى. وهذه الطريق الحازمة مخلصة لحلم دولة التوراة. ونفي قانون الدولة ليس نفيا لمجرد النفي. وإنما يهدف إلى تسريع تطوير الشريعة اليهودية، وتعظيم التوراة".
وتتساءل الدراسة حول ما إذا كان هذا النفي يحقق أهدافه، وتجيب على ذلك بأنه "في السنوات الأولى لبلورة [طبيعة] دولة إسرائيل كان هذا الحلم واقعيا، والهدف قابل للتحقيق. [لكن] كلما مرت السنون فإن نفي قانون الدولة لم يعظم قانون التوراة. ومن الناحية الواقعية والسياسية، فإن الشريعة اليهودية في وضعها الحالي ليست بديلا حقيقيا لقانون الدولة. والغالبية العظمى من الجمهور وأصحاب المناصب الحكومية والقضائية لا يطرحون هذه الإمكانية. وفعلا، هذه الإمكانية غير واقعية. ويتعين على الشريعة اليهودية أن تمر في تحولات كثيرة وتلائم نفسها لأمور عديدة كي يصبح بالإمكان استخدامها كمنهج قانوني لدولة عصرية. وستون عاما من نفي قانون الدولة لم تؤدّ إلى تعظيم الشريعة اليهودية ولم تدفعها إلى الأمام نحو هذه الغاية".
وأضافت الدراسة أن نفي شرعية المحاكم المدنية فرض ثمنا غاليا على جمهور "مستهلكي الشريعة اليهودية" من النواحي الدينية والتربوية والاجتماعية - الوطنية. وينبع "الثمن الديني" من الفجوة بين تصريحات المفتين ودعوتهم إلى مقاطعة المحاكم المدنية، وبين سلوك جمهور المتدينين الذي يتوجه إلى هذه المحاكم غير آبه بدعوات دجال الدين. وفي إثر ذلك أخذ يتطور نوع من الاغتراب واللامبالاة حيال الفتاوى، الأمر الذي قد يتطور إلى الابتعاد عن نوع آخر من الفتاوى.
وينتج عن "الثمن الديني" ثمن آخر هو "الثمن التربوي". ووفقا للدراسة فإن "الشبيبة الدينية - القومية [وغالبيتها في المستوطنات] تتربى اليوم في كل ما يتعلق بالسلطة القضائية على أساس رسالة مزدوجة: الصوت الأول، الأخلاقي، يعبر عن إعجاب وتقدير تجاه المحاكم والقضاة الذين يحافظون على العدالة والمكلفون بحماية قيم الاستقامة والديمقراطية. والصوت الثاني، صوت الشريعة اليهودية، يوبخ المتوجهين إلى المحاكم [المدنية] ويندد بالسلطة القضائية بسبب انحرافها عن قانون التوراة ولكونها "محكمة أغيار". وهذا الصوت المزدوج والمتناقض يسفر عن ضبابية وارتباك فيما يتعلق برسالة الشريعة اليهودية والرسالة الأخلاقية".
ومن هنا، ترى الدراسة، ينتج ثمن آخر في المستوى الاجتماعي - الوطني. وأشارت إلى أن "تعاملا سلبيا مع المحاكم المدنية يصعب أن يبقى محاطا بجدار ومتقوقعا في داخله. إذ إن رفض سلطة حكم مركزية مثل السلطة القضائية يوجد تعاملا صداميا تجاه الدولة ومؤسساتها. وعلى ما يبدو فإن تعاملا كهذا ليس مرغوبا فيه وفقا لمفاهيم الصهيونية الدينية، حيث أن من شأن تعامل كهذا أن يخلق تقاطبا وشروخا بين الجمهور الصهيوني الديني [وغالبيته من المستوطنين] والجمهور الصهيوني عموما. ويكتسب الثمن الاجتماعي - الوطني أهمية أكبر في السنوات الأخيرة على ضوء التحولات والحرج الذي ينتاب الصهيونية الدينية من خلال علاقتها مع الدولة ومؤسساتها".
وخلصت الدراسة إلى أن نفي جمهور المتدينين اليهود، وخصوصا من جانب التيار الديني - القومي - الصهيوني، شرعية المحاكم المدنية ورفضها على أنها "محاكم أغيار" هو "خيار صعب وثمنه كبير وغال". واعتبرت أن "هذه الطريق، كإستراتيجيا أو كتكتيك، كان بإمكانها أن تتحقق في السنوات الأولى للدولة، لكن نافذة الفرصة تم إغلاقها". رغم ذلك فإنه "من الجائز أن تُفتح ثانية. لكن في هذه الأثناء، فإن المداومة على طريقة النفي تجبي ثمنا، ولذلك فإنه ينبغي دراسة إمكانية التوجه إلى طريق أخرى هي طريق الإيجاب، إذ إن تراث الإفتاء اللين يسمح بمنح الشرعية لمحاكم دولة إسرائيل. وتراث الشريعة الذي بحث ووجد، في الماضي، طرقا للسماح بالتوجه إلى المحاكم الغريبة التابعة للأغيار في الغربة يجب أن يستمر من أجل أن يمهد لإقامة محاكم لليهود في دولة إسرائيل في الحاضر".