لا يزال الدستور في إسرائيل في غياهب السياسات الإسرائيليّة التهربيّة، والتي لا تعرف للاستقرار والثبات طريقاً أو منفذاً، فهو لا يزال رهينة قرار الهيئة الدستوريّة من العام 1949، والتي وأدته في حينه تحت مختلف الذرائع كقولهم إنّه ليس لأقل من مليون يهودي كانوا في البلاد آنذاك، الحق في تشريع دستور يفرض على ملايين اليهود في شتّى بقاع العالم، كانت الدولة وما زالت في انتظارهم. كما أنّ الإشكالات والخلافات في الرأي بين مركّبات مختلفة في المجتمع الإسرائيلي وعلى الأخص اليهود المتديّنين والعلمانيين، فضلاً عن عدم توافق الرؤى ما بين العرب واليهود، لا تزال تحول دون تشريع دستور نهائي. إلا أنّ هذه الذرائع ما هي إلا ذرًا للرماد في العيون، فهي تهدف فقط إلى تشويش الرؤية الكاملة والواضحة على اعتبار أنّ إسرائيل اتّبعت دائماّ وأبداً سياسة التهرب والتمسك بالذرائع والحجج الواهية.
حيّز المصالح الخاصة في السياسة
يقول عضو الكنيست ميخائيل إيتان (ليكود)، رئيس لجنة الدستور والقانون والقضاء البرلمانيّة سابقاً، في مقابلة خاصة لـ"المشهد الإسرائيلي"، إنّه "دائماً هناك حيز للأمور الشخصيّة في السياسة، إذ أنّ دافيد بن غوريون، اعترض في حينه طريق تشريع الدستور عند إقامة الدولة خوفاً من أن يقيّده الأخير ويحدّ من قوّته وتأثيره. وعندما يغيب الدستور بإمكانه من خلال حزبه الذي كانت له أغلبيّة في الكنيست أن يشرّع ما يشاء". ويتابع إيتان "حتى يومنا هذا فإن قسمًا من الأحزاب البرلمانيّة لا تؤيّد وجود دستور تجنباً من أن يحدّ ذلك من مدى قوّتها وتأثيرها".
بعد صدور قرار الأمم المتّحدة الذي نصّ على وجوب إقامة دولتين يكون لكل منهما دستور خاص بها، أصدرت الهيئة الدستوريّة والتي انتخبت في الأصل لتشريع دستور لا غير وكان من المفترض أن تنحل بعد ذلك، أصدرت قراراً يقضي بتعيين لجنة "الدستور القانون والقضاء" والتي تضم سبعة عشر عضواً وأوكلت إليها مهمة مناقشة وتتبع أمور الدستور، وتشريعه ليس دفعةً واحدةً وإنّما قانونا بعد الآخر. هذه اللجنة جاءت أيضاً ترجمة لسياسة التهرب وإعطاء البدائل، إذ أن بن غوريون لم يشأ أن ينقض قرار الأمم المتّحدة. يوافق إيتان على إتّباع إسرائيل لهذه السّياسة بقوله "ما يحدث لإسرائيل أنّها تنجح بعدم حل المشاكل بشكل جذري وإتّباع سياسة الارتجال في خوضها في المشاكل التي تطرح نفسها على الطاولة، لكن إذا ما أردنا التقدم والتألق لن ننجح إذا ما استمررنا في اعتماد هذه الطريقة".
والسؤال فيما إذا كان الدستور في حال وضعه نهائياً سيكون شكليا كشكلية الديمقراطيّة في إسرائيل، يلقى جواباً وصدًى له في قول إيتان إنّه دائماً من الممكن أن تكون هناك فجوات وثغرات في الدستور. وتوجد لهذا الطرح أمثلة حيّة وواقعيّة، فاللجنة قامت لغاية اليوم من خلال الكنيست بتشريع اثني عشر قانون أساس، لهم ميزة القوانين الدستوريّة بحيث لا يمكن تشريع قوانين أخرى في الكنيست تنقض ما جاء في قوانين الأساس هذه إلا بنسبة أصوات خاصّة جداً، والأهم أنّ عشرة من هذه القوانين تتعلّق بنظام الحكم والسلطة في إسرائيل، وأنّ قانونين فقط تمّ سنّهما في العام 1992 يتعلّقان بمنح حقوق ديمقراطيّة وهما حريّة العمل والحق في كرامة الإنسان وحريّته. وهما اللذان اعتبرهما أهارون باراك، رئيس المحكمة العليا سابقاً، بمثابة انقلاب دستوري. إلا أنّه شتّان ما بين وضع القانون وتطبيقه، فكرامة المواطن العربي، على سبيل المثال، يداس عليها وتنتهك في المطارات الإسرائيليّة يومياً دونما أيّة اعتبارات لقوانين الأساس هذه. هذا من شأنه أن يثير التساؤل حول اعتبار الدستور فيما لو وضع، ذا قيمة عليا من حيث المضمون والتطبيق دون إجازة اختراقهما. في ظل هذا الواقع تبقى الأمور القانونيّة بين فكيّ الكنيست الإسرائيلي والذي لم يسن أي قانون لغاية اليوم يصون حتى حرية التعبير عن الرأي والتي تعتبر إحدى أهم الرّكائز الديمقراطيّة. ولا يسعى الجهاز القضائي الإسرائيلي دائمًا إلى كبح جماح التعسّف البرلماني، فهو كان شريكاً في إقرار قانون المواطنة العام 2003 والذي يقضي بحرمان عائلات عربيّة كثيرة من لمّ الشمل حين يكون أحد الزّوجين فيها من أراضي السلطة الفلسطينيّة. ويعترف إيتان أنّ تشريع قانون كهذا ليس بالأمر السهل، علماً أنّه صوّت لصالح القانون. ويوضّح أنّ القانون جاء ليحد من الخطر الديمغرافي العربي في إسرائيل. ومن الجدير ذكره، أنّ القانون جوبه بالاستنكار في محافل دوليّة عدّة من بينها الأمم المتّحدة والإتّحاد الأوروبي. أمّا بشأن الأمور الدستوريّة فتظل رهينة مبادرات هذه الجّهة أو تلك.
يكشف إيتان انّه إبّان تشريع الدستور الفلسطيني كانت هناك حلقات وصل وحوار تمّت بصورة سرّيّة ما بين مسؤولين فلسطينيين وإسرائيليين، بهدف الإطّلاع المتبادل على الخطوات المنجزة في الإعداد للدستور عند كلا الجانبين، إلا أنّ المبادرات هذه توقّفت واتخذ كل دستور منحى آخر. ويلفت إلى أنّ الدستور الإسرائيلي على الرّغم من عدم اكتماله بعد، إلا أنّ قوانين الأساس والسوابق القضائيّة هي بمثابة بدائل للدستور على الرغم من أنّ البدائل هذه غير صحيّة، على حد تعبيره، إلا أنّها أفضل من وجود دستور يبدو ليبرالياً من دون تطبيق محتواه كما هي الحال في بعض الدول. هذا يثير التساؤل فيما يخص الديمقراطية الإسرائيلية التي يحاول الإسرائيليون مقارنتها بالدكتاتوريات لتثبيتها، ولا يجازفون بمقارنتها بديمقراطيات العالم الليبرالي، لأنّهم في حال أقدموا على ذلك سرعان ما تكشف عوراتها وزيفها. يشير إيتان إلى إحدى هذه العورات بقوله :"عندما أطّلع على مواثيق حقوق الأقليّات القوميّة في الدول الأوروبيّة، أرى أنّ إسرائيل لا تزال بعيدة عن أهداف هذه المواثيق". المخرج لذلك، كما يورد إيتان، هو وجود حوار ومشاركة بين كافة المواطنين عرباً ويهوداً في سبيل الوصول إلى مساواة تامّة في الحقوق. عدم وجود حوار كهذا يراه إيتان كمبرّر لحقيقة أنّ التعويض عن سنوات الغبن التي لحقت بالمواطنين العرب على مدار تسعة وخمسين عاماً وإرجاع الأراضي التي صودرت من غير وجه حق لم يرد له أيّ ذكر في مسودّات الدساتير المطروحة سواء من جانب اللجنة البرلمانيّة أو المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة. إلا أنّه لا يستبعد حدوث ذلك وحتى إلحاق بعض الإضافات برموز الدولة ليجد أيضاً المواطن العربي تمثيلاً له في هذه الرموز شريطة وجود حوار واتصال مباشر بين الجانبين. بهذا الرّد تنجح إسرائيل أيضاً في سياسة قذف الكرة دائماً إلى ملعب الفريق الآخر.
أمّا بشأن الرؤى المستقبليّة التي بادرت لها قيادات عربيّة داخل إسرائيل، يقول إيتان إنّ رفاقه نعتوا ذلك بالفظيع والمخيف لأنّه ينادي بإلغاء يهوديّة الدولة. إلا أنّه شخصياً يرى أنّ وجود مبادرات عربيّة هو أمر صحّي وناجع لأنّه يعبّر عمّا يجول في خاطر الجهات المبادرة وعن مصالحها. أمّا فيما يخص فصل الدين عن الدولة فهو يؤكّد أنّه يمكن التوّصل إلى حل وسط في هذا الشأن، إذا ما تمّ التمييز ما بين اليهوديّة كدين وكقوميّة، بحيث لا يكون دستور الدولة هو ذاته دستور الشعب اليهودي الذي نزل على موسى عليه السّلام، وبناءً على ذلك يمكن حل الجدل القائم بالنسبة لتحديد من هو اليهودي.
من الجدير ذكره، أنّه منذ أن توقف ميخائيل إيتان عن عمله كرئيس للجنة الدستور، لا توجد متابعة جدّية لعمل اللجنة حول الموضوع، كما أنّ ضعف الحكومة الحاليّة بعد حرب لبنان والخلافات اليهوديّة الداخليّة حول الدين والدولة وعلى وجه الخصوص تحديد من هو اليهودي تمنع إمكانيّة إقرار دستور في المستقبل المنظور.
ما هو مصير مبادرة "دستور بالوفاق"؟
من جانبه يرى عمير أبراموفيتش، مدير عام جمعيّة "دستور بالوفاق" المنبثقة عن "المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة"، في حديثه مع "المشهد الإسرائيلي"، أنّ مجموعات مختلفة من المجتمع الإسرائيلي كالمتديّنين والقومييّن أعاقوا عمليّة تشريع دستور خوفاً من أن يؤثّر ذلك على مكانتهم، لكنّه يؤكّد أنّه من الممكن التوصّل إلى حلول مرضية كما جاء في طرح جمعيّة "دستور بالوفاق"، ففي الدستور المقترح هناك اعتراف بيوم السّبت كيوم عطلة رسمي في الدّولة، "إلا أنّ ذلك لا يجب أن يمنع فتح أبواب المراكز الترفيهيّة والتربويّة وحتّى تشغيل خطوط مواصلات عامّة بشكل محدود".
وفيما يخص الزواج والطلاق، فإنّ الدستور يقترح بالإضافة إلى المؤسّسة الدينيّة التّي تتولى ذلك، قانون "معاهدة تزاوج" بحيث تكون تابعة إلى سلطة ما في وزارة القضاء، هذا الاقتراح يتيح المجال لمن لا يرغب في الزّواج أو الطّلاق عن طريق إجراء ديني أن يتوجّه إلى مؤسّسة مدنيّة تمكّن المواطن اليهودي إذا ما كان نسبه يعود إلى عائلة كوهين أن يتزوّج من مطلّقة، على سبيل المثال، أو أن يقترن يهودي بإمرأة من ديانة أخرى دون أن يغيّر أي منهما دينه، ففي الواقع الإسرائيلي الرّاهن أمور كهذه غير جائزة ومستحيلة.
يقول أبراموفيتش إنّ المواطنين العرب عانوا على مدار تسعة وخمسين عاماً من سياسات التمييز والظلم، لذا فإنّ الدستور الذي يقترحه المعهد يمنح مساواة وحقوقا كاملة للمواطنين العرب على الصعيدين الفردي والجماعي، إذ يعترف بكونهم أقليّة قوميّة لهم ثقافة وحضارة ولغة مشتركة، كما أنّ اقتراح القانون يعتبر اللغة العربيّة لغة رسميّة. إلا أنّه يدير ظهره لإمكانيّة تعويض المواطنين العرب عن سنوات الغبن الذي لحق بهم، كما أنّ رموز الدولة التي يتبنّاها هي نفسها القائمة من دون أي تمثيل للأقليّة العربيّة. إذ وفق ما يورد فإن استطلاعاً للرأي بادر إليه "المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة" يشير إلى أنّ أكثر من سبعين بالمائة من الجمهور العربي يقبل بتعريف الدولة على أنّها يهوديّة وديمقراطيّة في حال منحت الأقليّة العربيّة مساواة تامة.
كل المحاولات الدستورية تهدف إلى تحصين "يهودية الدولة"
من ناحيته يقول لنا نمر سلطاني، طالب الدكتوراة في القانون في جامعة هارفارد، إنّ "المحاولات الدستوريّة في السنوات الأخيرة من قبل المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة ولجنة الدستور في الكنيست، تهدف إلى تثبيت وتحصين يهوديّة الدولة أمام مطالب الديمقراطيّة المتكرّرة من جانب المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل بتحويل الدولة إلى دولة كل المواطنين، أي إعادة صياغة جوهريّة للعلاقة بين الدولة والأقليّة العربيّة. ومحاولة التثبيت هذه تتم تحت غطاء المعادلة المخادعة "دولة يهوديّة وديمقراطيّة". ويذكر أنّ هناك إجماعا صهيونيا حول هذه المعادلة ومحاولة تثبيتها في سياق التغييرات التي طرأت على المجتمع الإسرائيلي، خاصّة منذ فشل كامب ديفيد 2000 وانهيار عمليّة أوسلو واندلاع انتفاضة الأقصى وهبة أكتوبر". ويضيف سلطاني "الحركة الصهيونيّة تتحرك بسرعة متزايدة نحو اليمين، وبذلك تتزايد تناقضاتها حدّة مع ازدياد القمع. وفي هذه الظروف لا مجال للحديث عن دستور يضمن حقوقاً متساوية للمواطنين العرب ولا عن التحرّر من الاحتلال، وما دامت الحركة الصهيونيّة تصر على مشروع "يهوديّة الدولة" وعلى السيطرة الاستعماريّة على المناطق الفلسطينيّة المحتلّة فلن ينتج عن ذلك دستور ديمقراطي. فالدستور ليس هدفاً بحد ذاته يطمح إليه الضعفاء مهما كان نصّه بل هو مجرّد وسيلة لضمان حقوق وهو رؤية للمجتمع". ويؤكّد أنّ طروحات بعض الجهات القياديّة العربيّة بخصوص "دولة كل مواطنيها" هي برنامج ليبرالي، بل هي ألف باء الديمقراطيّة الليبراليّة، مذكراً أنّه منذ منتصف التسعينيات هناك محاولات فكريّة متجدّدة في العالم للدمج بين الفكرة الليبراليّة وحقوق المجموعات للتعويض عن النواقص التي تكتنف الليبراليّة.
وعن استطلاعات "المعهد الإسرائيلي للديمقراطيّة" في الوسط العربي يقول إنّه "يجب أن لا تخدعنا هذه الاستطلاعات لأنّها تتّصف بعدم النزاهة والمصداقيّة الأكاديميّة، ذلك أنّ طريقة صياغة الأسئلة من قبل معدّي الاستطلاع معدّة لإنتاج نتائج من هذا القبيل" مشيراً إلى أنّهم لا يخبرون المستطلعين أنّ هناك تناقضاً بين يهوديّة الدولة وديمقراطيّتها وأنّه لا وجود لمساواة حقيقيّة ضمن يهوديّة الدولة. وتتم صياغة الأسئلة متجاهلين هذا التناقض. كما أنّ استطلاعاتهم معدّة للتسويق الإعلامي لا غير. وتأتي هذه الاستطلاعات ضمن محاولة للطعن في مصداقيّة تمثيل القيادات والنخب العربيّة للجماهير العربيّة، على حد تعبير سلطاني.
يذكر أنّ مركز مدى الكرمل في حيفا أعدّ استطلاعات أكثر شموليّة ومعتمدة على لقاءات مطولّة وجهاً لوجه مع عيّنة استطلاع أكبر من تلك التي استخدمها المعهد الإسرائيلي وكانت هناك نتائج معاكسة تماماً.
ويورد سلطاني أنّه من المتوقّع أن يحاول المستعمر أن يحافظ على إنجازاته النابعة من سيطرته على موارد البلاد وعلى تحكّمه بالأقليّة ولذلك سترفض الأغلبيّة الاقتراحات العربيّة التي تنادي بإعادة تشكيل علاقات القوّة. أمّا مسألة المواطنة العربيّة في إسرائيل فهو يعتقد أنّها لا تتعلق بموضوع تقاسم الموارد فحسب وإنّما هي مسألة شرعيّة الدولة وتاريخها وتصحيح الغبن التاريخي. ويخلص إلى أنّ هناك حاجة ماسّة لمطالبة عربيّة داخليّة متزايدة بحقوق متساويّة وتصحيح الغبن التاريخي دون أيّة مساومة في موضوع المساواة على أي صعيد جوهري. وعلى أية حال فإنه لا يوجد أي نص سواء كان اسمه دستوراً أم قانوناًَ، كما يلفت سلطاني، بإمكانه حماية حقوق المواطنين بشكل قاطع، خاصّة إذا كانوا من الأقليّات، ولا توجد ضمانات في السياسة والحياة الاجتماعيّة لأي شيء، فعلاقات القوّة هي التي تحكم مضمون ومدى تطبيق النّص القانوني. ونبّه إلى قانون أساس كرامة الإنسان الذي يكرّس يهوديّة الدولة ويضمن بذلك دونيّة العرب كما أنّه يضمن حريّة الملكيّة الفرديّة بعد أن تمّت مصادرة ما يزيد عن ثمانين بالمائة من الأراضي العربيّة داخل إسرائيل، ولذا على المستضعفين أن ينتظموا ويحتجّوا وبذا يحاولون التأثير على القانون.
وأكد أخيرًا أنّ تشريع حقوق نظريّة متساويّة للجميع ضمن حكم الأكثريّة لا ينتج بالضرورة مساواة على أرض الواقع، لذا فإنّ الطرح العربي الأساس لدولة المواطنين يدمج بين هذا المطلب وبين مطلب الحكم الذّاتي للأقليّة العربيّة في إسرائيل.