تقرير : وديع عواودة
كانت الحاجة الملحة للحصول على المزيد من المياه قد دفعت الى المبادرة لسلسلة أبحاث حول الاستمطار منذ العام الاول لقيام الدولة العبرية، التي تزيد اليوم كمية الرواسب فيها بنحو 100 مليون متر مكعب، اي 15% من مجمل مياه السماء، بواسطة التدخل بالطبيعة بالمواد الكيماوية. وازاء مشاريع تحلية المياه او استيرادها من الخارج كرست اسرائيل جهودا كبيرة ومتواصلة لزيادة الامطار عن طريق استمطار الغيوم، حيث يقوم فريق من العلماء بقيادة البروفسور ابراهام جاجين بالاشراف على هذه العمليات التي تتم في فصل الشتاء وتستغرق 20 دقيقة في كل مرة.
وتستند عملية الاستمطار الى الاستنتاج العلمي الذاهب إلى انه اذا تم رش جزيئات معينة، جزيئات يوديد الفضة عادة، داخل كتل الغيوم فان رذاذ وقطرات الرطوبة سرعان ما تتجمع حول هذه الجزيئات وتتحول الى قطرات مياه كبيرة تسقط على شكل امطار. وتعتبر الغيمة كتلة كبيرة من القطرات المائية الصغيرة التي تحلق في الهواء وسرعة تساقطها ارضا تعتبر بطيئة، اقل من سم في الثانية، وتتكون هذه "القطيرات" المائية نتيجة لتكثف ابخرة المياه في الجو. ويستدل من الدراسات المخبرية المعتمدة في اسرائيل ان الابخرة المائية هذه تلتصق ب"حبيبات التكثف" وهي عبارة عن جزيئات دقيقة تحلق في الهواء باعداد هائلة علما ان هناك انواعا كثيرة من الجزيئات في الهواء – الغبار والرماد البركاني والملح والدخان وغبار اللقاح الزهري ولكن ليست كلها صالحة لأن تكون "حبيبات للتكثف" انما فقط تلك الجزيئات التي تذوب بالمياه شرط ان يبلغ حجمها 10 الاف ملم فما فوق. وفي كل سم مكعب من الهواء الذي نستنشقه هناك مئات الاف الجزيئات بيد ان 500 منها فقط تصلح ان تكون "حبيبات" لقطرات الغيم.
وتقوم عملية الاستمطار على فكرة "زرع" الغيوم بـ"حبيبات التكثف" غير المتوفرة بالكمية الكافية في الهواء بشكل طبيعي، والعملية الاصطناعية هذه بوسعها ان تحث وتنجع الاصطدامات والتكتلات بين الجزيئات داخل الغيوم وبالتالي زيادة الرواسب. وتتخذ بلورات يوديد الفضة مبنى مشابها لمبنى بلورات الجليد ولذلك فانها تصلح ان تكون بؤرة او محورا لتبلور بلورات جليدية. وفي الغيوم المعدة لانزال المطر تكون المياه احيانا بحرارة منخفضة اكثر من درجة حرارة الانجماد العادية للمياه ولكن وبسبب انعدام بؤر او محاور التبلور المناسبة فلا تحدث عملية التجمد ومياه الغيمة لا تنقلب الى رواسب. في مثل هذا الوضع تكفي البؤر او المحاور الصغيرة كي ينجم الانجماد السريع تمهيدا لتساقط المطر. ويكفي غرام واحد من يوديد الفضة لصناعة عشرة مليارات جزيء بقطر معدله اقل من ميكرومتر (مايكرون = واحد بالالف من الملم). وحول هذا الجزيء تتجمد المياه بسرعة لتتساقط بلورات الجليد الصغيرة وفي طريقها الى الاسفل تجرف معها قطرات دقيقة اضافية وتتحول الى "كرة ثلج" بقطر 1-2 ملم تصبح قطرات مطر عند اصطدامها بطبقات جوية اكثر سخونة.
في اسرائيل وكثير من بلدان العالم جربت اساليب استمطار مختلفة ولا تزال نتائج هذه التجارب والاساليب محط جدل وهناك حاجة للمزيد من الابحاث في المجال. ويعتمد الاسرائيليون في عمليات الاستمطار على بلورات يوديد الفضة وهي ذات مبنى يشبه مبنى بلورات الجليد ولذلك تعتبر ناجعة في انتاج الجليد داخل الغيوم والذي يسقط عادة في الاماكن الأكثر سخونة فتنصهر وتسقط مطرا على الارض .
في العدد الاخير من المجلة العلمية المشهورة science نشرت دراسة حول الاستمطار تحت عنوان "زرع الغيوم : نجاح واحد في 35 سنة" استعرضت الجهود الاميركية والعالمية في هذا المجال واشادت بالنجاح المؤكد الوحيد لمشروع من صنع اسرائيلي وباشراف البروفسور ابراهام جاجين، المحاضر في قسم علوم الأحوال الجوية في الجامعة العبرية – القدس . وتتطرق الدراسة المذكورة الى نظرية تقول ان غيوما بدرجة حرارة تقل عن 21 درجة تؤدي الى سقوط رواسب بشكل طبيعي وان الغيوم المناسبة ل"لزرع" بواسطة يوديد الفضة هي تلك التي تتراوح حرارتها بين 15 الى 21 درجة .
يوديد الفضة
وتستند التجربة الاسرائيلية في مجال الاستمطار الى الافتراض ان قطرات المياه داخل الغيوم لا تتحول بشكل ناجع الى امطار بواسطة الاصطدامات والاندماج فيما بينها . وفي الغيوم التي تصل الى درجة حرارة اقل من الصفر لا تتجمد المياه انما تكون في مادة سائلة باردة جدا وفي هذه الحالة تحول بلورات الجليد داخل الغيمة الباردة جدا المياه فيها الى جزيئات رواسب كبيرة تسقط ارضا على شكل مطر. ويفترض العلماء الاسرائيليون ان قسما من الغيوم تخلو بشكل طبيعي من كميات الجليد المطلوبة لتساقط المطر وهذا هو دور جزيئات يوديد الفضة التي يتم نثرها بين الغيوم فتصنع حبيبات جليدية ناجعة وتؤدي الى تكثيف مياه الامطار.
اما الطريقة المتبعة فهي النثر بواسطة طائرات خاصة تطير بارتفاع الغيم اي 600 متر. ولكن في بعض الاماكن تترتب على عملية الطيران مخاطر حقيقية ولذلك تستخدم طريقة رش يوديد الفضة بواسطة الافران الارضية التي تحرق الفضة ومنها تتطاير الجزيئات الى الاعالي على جناح الغازات الساخنة الناجمة عن الحرق. وتؤكد دراسة اسرائيلية اخرى انه بالامكان زيادة نسبة المطر بالاستمطار بنحو 40% بدلا من 15% في حالة اجراء عملية "الزرع" بعد اختيار نوعية معينة (اي غيوم تتراوح حرارتها بين 15 و 21 درجة) من السحاب وليس بشكل عشوائي، وبناء على توجيهات محطة الارصاد الجوية في بيت دجن .
سلسلة تجارب
وجرت التجربة الاسرائيلية الجادة الاولى في مناطق الشمال والجنوب سوية بين العامين 1961 و1967 وكانت عملية "الزرع" تتم في اماكن اختيرت بشكل عشوائي في الاماكن الممتدة على بعد 20 كم من ساحل البحر الابيض المتوسط وبارتفاع الغيوم نفسها، بافتراض ان المواد المنثورة تتحرك شرقا ونحو الاعلى الى داخل كتل السحاب. واظهرت التجربة ان نسبة المطر قد ارتفعت بنسبة 15 % من معدل الرواسب في البلاد.
وباشرت اسرائيل في مسلسل تجارب جديد بين 1969 و1975 تمت في منطقتين مختلفتين ايضا ولكن مع تغييرات هامة اذ تم نقل مكان التجربة من الشمال الى الشرق نحو محيط بحيرة طبريا حيث ارتفعت كمية الامطار بنسبة 18% قياسا، ومنذ ذلك الوقت تشهد كل منطقة شمال البلاد –الجليل – وطبريا عمليات استمطار سنويا .
وفي التجربة الثانية تمت اطالة خط المنطقة المستمطرة في الجنوب الى خان يونس وحرفه غربا الى ناحية البحر المتوسط، ما ادى الى مضاعفة المساحة. ولم يكن ممكنا التأكد من نسبة الزيادة بالمطر لعدم وجود منطقة اخرى لاجراء الفحوصات والمقارنات في الجنوب، وهذه تمت لاحقًا في التجربة الثالثة.
وامتدت التجربة الثالثة بين العام 1975 الى 1995 في مناطق معدة للاستمطار ومناطق للفحص والمقارنة مع اختيار عشوائي للايام التي "زرع" فيها كما حصل في الشمال خلال التجربة الثانية. ودلت النتائج على ان عمليات الاستمطار في جنوب البلاد لم تؤد الى زيادة كمية الرواسب وهذا ما اكده فحص جديد. ويقدر الاسرائيليون ان عدم نجاح الاستمطار في الجنوب ينبع من الغبار الصحراوي القادم من صحاري الغربية وسيناء والنقب، الذي "يزرع" الغيوم بشكل طبيعي. وهو منتشر بعشر اضعاف الغبار في الشمال، ولذلك فان الزرع الاصطناعي غير مؤثر هناك. واكدت على ذلك التجارب التي تمت في الايام الصافية والنظيفة من الغبار، حيث كانت عملية الاستمطار ترتفع بنسبة بلغت 20% .
آفاق جديدة
وفق معايير نظرية ونتائج الفحوصات والتجارب المتراكمة يعتقد بعض الخبراء الاسرائيليين ان "زراعة" الغيوم بواسطة مواد امتصاص الابخرة والرطوبة من شأنها زيادة كمية الامطار من غيوم معينة اكثر من "الزرع" بيوديد الفضة سيما الغيوم المشبعة بالغبار الصحراوي في منطقة النقب. كما يرى هؤلاء انه بالامكان زيادة نجاعة يوديد الفضة من خلال قصر استخدامه في النوع المناسب من الغيوم وفي الزمان الملائم.
في حديث لـ"المشهد الاسرائيلي" تحفظ الخبير الاسرائيلي البروفيسور دانئيل روزنفيلد (معهد العلوم الخاصة بالكرة الارضية – الجامعة العبرية في القدس) من الدراسات التي تتحدث عن نجاحات هامة في مجال الاستمطار، لافتا الى ان العلماء ما زالوا يكررون تجاربهم غير انهم لا يعرفون الكثير عن حقيقة ما يترتب على تدخلات الانسان في عمل الطبيعة من ناحية الاستمطار. واكد روزنفيلد ان الاستمطار المتبع في اسرائيل زاد من كمية الامطار في اقليم الشمال لكن العملية برمتها لم تتضح بالكامل بعد. واشار الى ان المعطيات العلمية تبدي ان هناك تغييرات في عمليات هطول المطر شئنا أم ابينا نتيجة للتطور الحضاري وانه من المفضل ان يكرس العالم الابحاث لفهم طبيعة الظواهر الطبيعية من اجل توجيهها لصالح البشرية.