المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • منوعات
  • 3154

(*) اسم الكتاب: "هبّة البراق: 1929 سنة الصدع بين اليهود والعرب"
(*) المؤلف: هليل كوهين، أستاذ تاريخ قضية فلسطين في "الجامعة العبرية"- القدس
(*) الترجمة إلى العربية: سليم سلامة
(*) الناشر: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، رام الله 2018
(*) عدد الصفحات: 428

 ثمة أكثر من قيمة مُضافة تكمُن في هذا الكتاب، الذي يُعدّ غير مسبوق في الكتب التاريخية الإسرائيلية. 

 

ولا بُدّ من الإشارة إلى قيمتين اثنتين منها:
الأولى، أنّه يُحاجج السجال الإسرائيلي الشائع بشأن الصراع، وهو سجال تنخرط فيه أطراف ترى أنّ احتلال العام 1967 يشكّل نقطة انطلاق لفهم الصراع ولحلّه، في مقابل أطراف تقترح النكبة وإقامة إسرائيل في العام 1948 مُرتكَزاً، بينما يعتقد المؤلف بأنّ من الأجدى العودة إلى الوراء، وبالذات إلى العام 1929، الذي شهد هبّة البراق، ليس لكونه نقطة البداية الحقيقية للصراع، إنما لكونه العام الذي شهد تغييراً جذرياً جوهرياً في العلاقات بين اليهود والعرب في فلسطين، والعام الذي تسبّب بتصميم وعي الجانبين ومفاهيمهما لأعوام عديدة لاحقة.

الثانية، أن الكتاب يعتمد ما يسميه المؤلف التوجّه الاحتوائي والذي هو، بالضرورة أيضاً، توجّه تاريخي وغير قومي. ويشير المؤلف إلى أن تبنيه توجهاً كهذا لا يعني الافتقار إلى الحسّ القوميّ أو تجاهل أهمية وقوة الهويات القومية، ولا ادعاء الحيادية، وإنما لأنه لا يبغي ـ بوعيه على الأقل- خدمة أي رواية قومية، أو الطعن بها. ولا يقتصر هدفه على احتواء روايات قومية مختلفة فقط، بل أيضاً روايات أخرى تشذّ عن الإطار القومي، بما يتيح إمكان عرض صورة عن الماضي تكون الأقرب إلى ما كان في الواقع، حين عاش وعمل، جنباً إلى جنب، رجال ونساء مختلفون في أنماط حياتهم، وتوجهاتهم القومية، وتجاربهم الحياتية، وتطلعاتهم، ناهيك عن الاختلاف في الأمور التي دفعتهم إلى الضحك أو البكاء، وإلى القتل أو إلى إنقاذ حياة آخرين.

وتأدّى عن هذا التوجّه تقديم منظور تاريخي أقلّ أحادية، بقدر ما تأدّى عنه ما يمكن توصيفه بأنه "تفسير مُتفهّم"، كي لا نقول "تبرير مُبطّن"، للرواية التاريخية الفلسطينية حيال الصراع عموماً، وحيال الموقف من الحركة الصهيونية فكراً وممارسة خصوصاً، ارتباطاً بأحداث العام 1929.

الصورة التاريخيّة الأوسع

ضمن هذا السياق يشدّد المؤلف على أن أعمال القتل، التي نفذها يهود خلال أحداث 1929، لا تغيّر شيئاً من إطارها العام، وهو: "هجمات عربية ضد مجتمعات يهودية". لكن في الوقت عينه فإن الإطار العام لتلك الأحداث لا يغيّر الصورة التاريخية الأوسع، التي تفيد، وفقاً لقوله، بما يلي: جاء اليهود إلى فلسطين ابتداء من أواخر العهد العثماني، برعاية أوروبية (بريطانية على وجه التحديد)، بهدف جعلها دولة يهودية، بما يترتب على ذلك من تحويل سكانها العرب إلى أقلية في وطنهم. وبرفقة قيامه، على طول الكتاب، بعرض شتّى المواقف المعارضة للصهيونية والمؤيدة لها، يسجّل رأيه الشخصي وفحواه ما يلي: "كان من حق اليهود المُطارَدين المجيء إلى البلاد والعثور فيها على ملاذ لهم، لكن هذا الحق لم يُصادر حقوق العرب في البلاد ولم يبرر كل ما أقدمت عليه الحركة الصهيونية من إجراءات وممارسات". كما أن توفير ملاذ للمُطارَدين لا يتنافى مع روح الإسلام، بالضرورة، حتى لو كانوا يهوداً، وحتى لو كانت الأراضي المقدسة غايتهم، والدليل على ذلك المطرودون من إسبانيا الذين جرى احتضانهم في البلاد في مطلع العهد العثماني. لكن في العام 1929، بعد نحو مئة عام من الهجرات اليهوديّة إلى البلاد، برعاية دول عظمى أجنبية، بما في ذلك نشاط صهيوني منظَّم استمر نحو خمسين عاماً، لم يكن اليهود مجرد طالبي لجوء فقط، بل أيضاً مستحوِذين وطالبي سيادة. وتحت تأثير الصهيونيين، شرع حتى اليهود من قدامى السكان في البلاد، الذين كانوا يتطلعون إلى العيش بمساواة مع جيرانهم وليس إلى إنشاء دولة قومية بهدي الصهيونية الأوروبية، يتبنّون الفكرة الصهيونية وينبهرون بإمكان قيام دولة يهودية في فلسطين. وعلى أي حال، تشوش وارتبك التمييز في الخطاب العربي، باستمرار، بين يهود صهيونيين وغير صهيونيين. لكنه لم يتلاشَ تماماً: في الخطابة والكتابة العربيتين، على حد سواء، كما في الحياة اليومية أيضاً، تكرّس القاموس القديم الذي تحدث عن "اليهود ـ العرب" الذين كانوا يُعتبرون أبناء الثقافة الشرق أوسطية، في مقابل "الصهيونيين" الذين أتوا، بعاداتهم وتقاليدهم الغريبة، من أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى الحريديم الأشكناز. لكنّ هذا التمييز تبدّد واختفى إبان عاصفة 1929. فهوجمت المجتمعات اليهودية، بصرف النظر عن أي فوارق في الميول السياسية أو في الأقدمية. والدليل الواضح على هذا هو صرخات أبناء عائلتي يهوديتين في صفد، وأبناء عائلتي فلسطينيتين في الخليل، في وجوه جيرانهم ومعارفهم: "ألسنا أخوة؟"، وهي صرخات وقعت على آذان صماء.

والخلاصة التي يتوصل إليها الكتاب أن أحداث 1929 أوضحت أن التمييز داخل المجتمع اليهودي بين حريديم وأحرار، بين ييشوف قديم وجديد، بين حركة العمل والحركة التنقيحية، لم يكن ذا معنى في نظر العرب، إطلاقاً تقريباً. وهذا ليس لأن جميع اليهود يستحقون الموت في نظر العرب بل لأن هؤلاء الأخيرين شعروا، بقوة كبيرة، في نهاية عشرينيات القرن الفائت، بأن القواسم المشتركة بين جميع هذه التيارات اليهودية أكثر بكثير مما يفرّق بينها. فهؤلاء وأولئك يؤمنون بوجود الشعب اليهودي، وبحق اليهود في الهجرة إلى أرض آبائهم، وهؤلاء وأولئك يتطلعون إلى إقامة دولة يهودية في أرض إسرائيل (سواء أقامها أشخاص، أو بمجيء المسيح المخلّص، أو كانت ليبرالية أو اشتراكية)، ويؤمنون بالتضامن اليهودي المتبادل.

ويصل المؤلف إلى بيت القصيد بقوله: إن "هذه المبادئ كانت تتعارض، صراحة وبشدة، مع فهم عرب البلاد وموقفهم، وهو ما جعل اليهود كتلة واحدة في نظرهم. ولذا فخلال أعمال القتل في أحداث 1929، لم يكن العرب، من وجهة نظرهم، يقتلون جيرانهم اليهود وإنما أعداءهم الذين يحاولون الاستيلاء على وطنهم"!.

ولإثبات مسوّغ هذا الفهم يورد المؤلف أقوالاً لديفيد بن غوريون، أدلى بها خلال جلسة لإدارة الوكالة اليهودية إبان الثورة العربية (1937)، كما اقتبسها مؤرخ إسرائيلي آخر، هو بيني موريس، في كتابه "1948: تاريخ الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى" (2010)، وجاء فيها: "علينا أن نرى الوضع على حقيقته. على الصعيد الأمني، نحن المهاجَمون والمدافِعون. لكن على المستوى السياسي، نحن المهاجِمون والعرب هم المدافعون عن أنفسهم. هم يعيشون في البلاد وهم أصحاب الأرض، القرية. نحن نعيش في الشتات ونريد فقط الهجرة إلى هنا وامتلاك الأرض منهم"!.

اليمين المتطرّف يهاجم الكتاب

يُشار هنا إلى أن هذا الكتاب تعرّض إلى هجوم من طرف موريس بـ"شبهة" أن مؤلفه يتنكّر لحق إقامة دولة يهودية سياديّة في "أرض إسرائيل" كلها أو في جزء منها، وأنه لا ينظر، بصورة إطلاقية، إلى اليهود بصفتهم أخياراً وإلى العرب بصفتهم أشراراً، بل ينظر إلى الجانبين باعتبارهما مسؤولين عما آل إليه الصراع، بخلاف ما يعتقد موريس.

كما تعرّض الكتاب إلى هجوم من اليمين الإسرائيلي المتطرّف، اتهم خلاله مؤلفه بأن دعوته إلى احترام مشاعر الشراكة الإنسانية، والاعتراف بقيمة الإنسان واحترامها، بمنأى عن المنظور القومي، وعن الكراهية والغيرة والمنافسة، هي دعوة سطحية وساذجة من وجهة نظر جيو- سياسية شرق أوسطية.

في واقع الأمر فإن كوهن تطرّق إلى تلك الشراكة الإنسانية، التي لم تنتف خلال أحداث 1929 المروّعة، في نطاق الإشادة، من بين أمور أخرى، بأعضاء رابطة "بريت شالوم" ("ميثاق السلام") الذين حاولوا حرفَ الشعبين عن مسار الصدام والمواجهة الدمويين، منوّهاً بأن هامشية هؤلاء الأشخاص في الرواية الصهيونية بشأن أحداث 1929 تبيّن الصعوبة الكبيرة في تبني منظور بديل، مغاير، للمنظور القومي المهيمن.

وربما يجدر استعادة تجربة بعض هؤلاء الأعضاء، ولا سيما المؤرخ هانس كوهن (1891- 1971)، أول سكرتير للرابطة. فقد كان هذا نموذجاً لـ"مثقف حقيقي" يحتكم إلى سلطة أخلاقية للكتابة، زكّـاها المفكر والروائي الفرنسي جوليان بندا (1867- 1956) عندما سكّ مصطلح "خيانة المثقفين" قبل أكثر من تسعين عاماً، معتبراً أن مثل هذا المثقف لا يتمتع بموهبة استثنائية فحسب، إنما أيضاً وربما أساساً يتميز بحسّ أخلاقي فذّ، ويشكل ضميراً للبشرية.

وتؤكد الوقائع المتداولة بشأن هانس كوهن أنه استقال من منصبه عام 1930 لأسباب ضميرية، إذ رأى أن احتمالات جسر الفجوة بين مواقفه وبين وجهة النظر الصهيونية الرسمية معدومة، وأن الرابطة المذكورة ساومت في موضوعات لا يجوز المساومة فيها مطلقاً. وفي عام 1933 تلقى دعوة لتدريس التاريخ الحديث في "سميث كوليج" في ولاية مساتشوستس الأميركية فلبّاهـا، وفي ربيع 1934 غادر فلسطين برفقة زوجته وابنهما ولم يعد إليها بتاتاً.

وكان هـ. كوهن من أشد أنصار المقاربة ثنائية القومية في فترة تأسيس "بريت شالوم"، لكن عندما شعر أن هذه المقاربة غير قابلة للتطبيق في ظروف فلسطين المُستجدة، تبنى مقاربة أخرى تدعو إلى الاعتراف باليهود كأقلية في فلسطين. وبرسم هذه المقاربة صاغ، عام 1929، مشروع دستور للرابطة. غير أن مقاربته هذه لم تثر اهتمام أحد في حينه، ولذا فإن طلاقه من الحركة الصهيونية بات سريعاً. وتدل يومياته والرسائل، التي كان يبعث بها إلى أصدقائه، على أن خطوة ترك صفوف الحركة الصهيونية كانت ناجمة، أكثر من أي شيء آخر، عن إدراكه أن طريق الصهيونية غير صحيحة وغير أخلاقية. ومثلت هبّة البراق، وخاصة ردة الفعل من جانب الحركة الصهيونية وبريطانيا عليها، السبب المباشر وراء استقالته من الحركة الصهيونية، غير أن خلفية هذه الاستقالة كانت آخذة في التبلور قبل ذلك التاريخ. وهي خلفية مرتبطة باعتقاده أن تطبيق الصهيونية لا بُدّ من أن يكون مقروناً بممارسات مرفوضة من الناحية الأخلاقية.
وتشير أكثر من دراسة حول كوهن إلى أن 1928 كان العام الذي حسم اختياره هذا نهائياً، وذلك بسبب حادثتين بارزتين وقعتا خلاله:

الأولى، احتدام الجدل بينه وبين رئيس "بريت شالوم" بشأن ضرورة تحويل الرابطة إلى هيئة سياسية فاعلة في الخريطة الحزبية الصهيونية، وقد رأى كوهن أن عدم تحويلها إلى هيئة ذات وزن من شأنه أن يحمّلها مسؤولية أخلاقية شديدة الوطأة.
الثانية، في 8 حزيران 1928 لقي عابرا سبيل عربيان مصرعهما بالقرب من بيت كوهن، على أيدي متطرفين يهود، لكن أحد جيرانه حاول إقناعه بأن يدلي بشهادة زور فحواها أن الذين ارتكبوا الجريمة هم العرب. وحول هذه الحادثة كتب كوهن في رسالة بعث بها إلى الصحافي روبرت ويلتش ما يلي: "لقد تدهورنا إلى حضيض مريع بسبب تطرفنا القومي [...] يمكن القول إن 95 بالمئة من أبناء الييشوف اليهودي يؤيدون، في الوقت الحالي، جرائم قتل كهذه [...] لقد قُتل أناس أبرياء سُذّج تصادف وجودهم عرضاً في ذلك المكان. حتى الألمان لم يفعلوا ذلك. وفي حين أن المثقفين الفرنسيين أقاموا الدنيا جراء قضية درايفوس، فإن جريمة القتل هنا لا تهم أحداً على الإطلاق. وكما حدث في الحرب العالمية [الأولى] فإن أي بربرية، كما هذه الجريمة البربرية، تُعرض باعتبارها نتيجة حتمية. وإنني أستشف المشكلة العملية الكامنة في موقف كهذا، وذلك أبعد من المشكلة الأخلاقية. إلى أين سيقودنا هذا كله؟. يدعي بن تسفي [يقصد إسحاق بن تسفي الذي أصبح ثاني رئيس لدولة إسرائيل] أن هذا العمل سيردع العرب، لكنني أدعي العكس تماماً [...] لقد انفلتت هنا مشاعر عنصرية من الصعب توصيفها".

وكان هـ. كوهن يقوم بجولة في أوروبا عندما اندلعت هبّة البراق، وقد تعقب ما حدث خلالها وهو في الخارج، وكتب عن ذلك في يومياته. وفي هذا الصدد اعتبر أن المسؤولية عن اندلاع الهبّة تقع على عاتق الحركة الصهيونية، لأنها أحجمت عن انتهاج سياسة أخرى إزاء السكان العرب. وحثّ زملاءه على التحرّك الفوري من أجل إحداث تغيير في السياسة الصهيونية يحول دون خوض حرب طاحنة مع الحركة القومية العربية.
وفي إحدى رسائله من تلك الفترة كتب يقول: "إن أخشى ما أخشاه هو أن تسير الصهيونية في الطريق الخطأ، التي تمضي فيها الحكومات كلها [...] أخشى أن يكون أصدقاؤنا غير مدركين للوضع الحقيقيّ، أي لواقع أننا نواجه ثورة قومية لأمة مقهورة. إن الجماهير العربية الشعبية تحارب من أجل الأمة، أو من أجل الفكرة والمثال القوميين، مثل شعبنا تماماً، أو مثل الشين فين [الجيش الجمهوري الإيرلندي] في حينه. وقد بقي أمامنا الآن طريقان: إمّا قمع العرب وإخضاعهم بواسطة استعمال القوة المفرطة، القوة العسكرية الإمبريالية أو القوة الكولونيالية من النوع الأسوأ، وإمّا أن تكشف الصهيونية، أخيراً، عن وجهتها الحقيقية، وفحواها أنها ليست معنية لا بإقامة دولة ولا بجعل اليهود أكثرية ولا بتحقيق نفوذ سياسي [...] يتعين علينا جميعاً أن نبذل كل ما في وسعنا كي نجد مسارات تربطنا بالعرب، وكي نغيّر ملامح الصهيونية كلياً إلى ناحية مناصرة السلام ومعاداة الإمبريالية واعتماد الديمقراطية، ففي ذلك كله تكمن الدلالة الحقيقية للروح اليهودية".

غير أن الأمل الذي راود كوهن بـ "تصحيح طريق الصهيونية" سرعان ما تلاشى، وغداة توجيهه الرسالة السالفة، كتب في يومياته أن سياسة الإدارة الصهيونية أسوأ كثيراً مما كان يتوقع ذات مرة، ولذا "لا يجوز لنا البقاء هناك، ولا يجوز لنا أن نكون جزءاً من هذا المشروع، وبناء عليه يجب أن نستقيل ببطء! أن نصمت وأن نقول وداعاً"!. وبعد هذه الملاحظة بيوم واحد كتب أيضاً أن قرار ترك صفوف الصهيونية يتعزّز لديه أكثر فأكثر، ولم يعد في إمكانه أن يتحمّل المسؤولية عن ممارساتها، وهذا يعني عدم قدرته على تحمّل المسؤولية عن الجريمـة.

وفي 18 أيلول 1929 كتب في رسالة أخرى قائلاً: "لم يعد في إمكاني أن أبقى هناك أكثر، لأن ما يتطوّر يتناقض مع أهدافي، كما أن نشاطي في الرابطة يجري استغلاله من أجل التستر وتشجيع ما لا يجوز التستر عليه أو تشجيعه".

خلاصة القول إن موقف هانس كوهن إزاء الصهيونية، الذي أدى إلى توصله لاستنتاج قاطع يفيد بعدم صحة طريقها فيما يتعلق بـ "المسألة العربية"، انطلق أساساً من رؤية التناقض الفاضح بين ممارساتها وبين المقاربة الأخلاقية، وهي الرؤية نفسها التي انسحبت على موقفه إزاء رابطة "بريت شالوم" أيضاً.

ولئن اخترت استعادة تجربة هذا المثقف، لدى تقديم هذا الكتاب، فلكونها تتسّق مع إلحاح مؤلفه على قراءة الصراع عبر العودة إلى جذوره، التي لم تبدأ في 1967 ولا حتى في 1948.

العرب الفلسطينيون وموقفهم من الصهيونية

تعريف: فيما يلي مقاطع من خاتمة كتاب "هبّة البراق" للبروفسور هليل كوهين توضّح مناخه العام:

أدرك العرب، على ما يبدو، القوة الكامنة في الوحدة اليهودية في إطار الحركة الصهيونية، حتى قبل تحققها، وهجومهم على اليهود أبناء البلد عجّل رص الصفوف وشجع الوحدة القومية اليهودية تحت رعاية الحركة الصهيونية. واليهود الذين كانوا يعيشون في البلاد منذ أجيال، من أصل شرق أوسطي أو سواه، الذين كانت علاقتهم بالحركة الصهيونية متحفظة ومترددة، الذين شعروا بأنهم منبوذون من قبل الاشتراكيين أو المؤسسات الصهيونية، الذين كانوا يطمحون لمواصلة العيش إلى جانب العرب وعلى نمط حياتهم التقليدي، الذين ابتعدوا عن السياسة وفضّلوا إبقاء القرار والحسم بشأن السيادة على البلاد بيديّ الخالق، الذين شعروا بالارتياح مع عرب البلاد أكثر مما شعروا به مع الطلائعيين المنحلين، الذين كانوا ينتظرون بفارغ الصبر كل أغنية جديدة لأم كلثوم التي بدأ عهد ازدهارها آنذاك ـ هؤلاء، جميعا، أيقنوا، في أعقاب الهجمات الدموية عام 1929، أن ليس لهم، بكونهم يهودا، أي بيت سياسي آخر سوى البيت الصهيوني. باستطاعتهم المشاركة فيه بصورة فاعلة، أو مجرد الاحتماء في كنفه وقت الشدائد فقط، لكن ليس في مقدورهم طرح بديل سياسي حقيقي يتمثل في الاتحاد مع عرب البلاد، لأن العرب أيضا لم يكونوا معنيين بذلك.

بهذا المعنى، يمكن القول إنه في 1929 تأسس الييشوف اليهودي في البلاد. أي أنه أصبح، في أعقاب الأحداث، الييشوف اليهودي الذي نشأت منه دولة إسرائيل كما نعرفها اليوم، بما فيها من قيم ومن روح دفاعية وقتالية. عمليات الذبح التي وقعت في أماكن لم تنشط فيها قوات دفاع عبرية ـ والنجاح الذي حققه المدافعون اليهود في صد الهجمات في الأماكن التي نشطوا فيها ـ مثّلت، في نظر كثيرين، برهانا على أن المحاربين اليهود هم، وهم فقط، الذين يشكلون الحد الفاصل بين وجود الييشوف اليهودي وبقائه وبين تدميره وزواله. وهذه هي النتيجة التي تطرق إليها بن غوريون، أيضا، في مفكرة يومياته، في 8 أيلول 1929: "ارتفعت قيمة الييشوف في نظر الشعب". كان يعرف أن الييشوف، أي الييشوف المنظَّم، ليس التمثيل الوحيد للشعب اليهودي، إلا أنه انتبه إلى أن أحداث 1929 قد دفعت بجمهور العمال المنظمين نحو مواقع القيادة في الحركة الصهيونية. في غضون ذلك، أصبح المجال العسكري مركز جذب للموهوبين من أبناء الييشوف. أصبح القادة العسكريون عنوانا للاحترام والتقدير والإعجاب في نظر الجمهور عامة وأصبح الانتقال من الخدمة العسكرية إلى مواقع القيادة القومية أمرا طبيعيا ومقبولا. وكما رأينا، فقد كان بين القادة الأوائل للجيش الإسرائيلي، محاربي 1948، عدد غير قليل من الذين كانت ذاكرة أحداث 1929 عنصرًا مؤسسًا في وعيهم وكينونتهم.

تجسد أحداث 1929، أيضا، الفجوة القائمة بين اليهود والعرب في قراءة التاريخ. ينظر كثيرون من اليهود إلى تلك الأحداث بوصفها حلقة إضافية في سلسلة الملاحقات التي تعرض لها اليهود، كانت بدايتها في استعبادهم في مصر، ثم استمرت في البوغرومات التي وقعت في أوروبا والملاحقات التي تعرض لها اليهود في عدد من الدول الإسلامية. يتعرض اليهود للملاحقات لأنهم يهود ("في كل جيل وجيل يثورون علينا لإفنائنا") وليس ثمة لهذا أية علاقة بأفعالهم أو بقصوراتهم، مثلما رأينا في أقوال جابوتنسكي آنذاك وكما يذكّر به كثيرون اليوم أيضا. ليس هذا ما رآه المهاجِمون. هم، أو المنظّرون الذين يتحدثون باسمهم، يؤكدون على المعاملة الجيدة التي حظي بها اليهود في البلاد ومنطقتها في ظل الإمبراطورية العثمانية، ويضعون أحداث 1929 في سياق مختلف تماما: في النضال الدائر في العالم الثالث برمّته ضد أنظمة استعمارية، يُنظر إلى اليهود في البلاد ـ بسبب رعاية البريطانيين لهم ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر، وعد بلفور وتشجيع الهجرة اليهودية إلى البلاد ـ باعتبارهم حلفاء للسلطة الكولونيالية، ولذا فهم يشكلون هدفًا مشروعًا للهجمات.

هذه نظرة لا يمكن للضحية، اليهودي في هذه الحالة، القبول بها. وفي 1929، بدأت المنافسة على موقع الضحية. ذلك أن اليهود كانوا ضحايا الأحداث بامتياز، في الخليل وصفد على الأقل. أتوا إلى البلاد ليجدوا لهم ملاذا من البوغرومات والمذابح، فوجدوا أنفسهم يتعرضون للهجمات وهم في بيوتهم، أو وهم يفلحون حقولهم. أما في نظر العرب، فهذه البيوت التي كان يسكن فيها اليهود هي بيوت في أرض عربية والفلاحة التي يتباهى اليهود بها كانت تجري في أرض عربية. وحتى لو لم يكن الصهيونيون مبادرين إلى شن هجوم مسلح على البلاد، بل أتوا للاستيطان الجماهيري فيها، فقد فعلوا ذلك تحت حماية الحراب البريطانية ورعايتها وبغية تحويل البلاد إلى دولة يهودية، وكيف يمكن وصف هذا وتعريفه سوى بأنه اعتداء استعماري؟ صحيح، حقا، أن هذا التحليل يتجاهل، كليا، ارتباط اليهود الممتد سنوات طويلة بأرض إسرائيل، لكن لم تكن لهذه الرابطة، في نظر العرب، أية دلالة سياسية ولم يكن فيها، بالتأكيد، ما يبرر تحويل البلاد إلى وطن لليهود. يُظهر التمعن في الانتفاضات المعادية للاستعمار في مختلف أرجاء العالم أن المذابح الوحشية وقعت، من حين إلى آخر، بسبب إرادة الشعوب الأصلانية في الدفاع عن أوطانها. وقد عرض فرانز فانون، في كتابه من العام 1961 "المعذبون في الأرض" (2006) الخلفية الإيديولوجية والنفسية للانفجارات العنيفة هذه ومدى ضرورتها وحيويتها في التحرر الذاتي من نير الاحتلالات. كما ذكّر، أيضا، بأنّ عنف المستعمِرين ووحشيتهم لم يكونا أقلّ.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات