بقلم: يائير شيلغ (*)
تحول تعبير "دولة يهودية وديمقراطية" في الأعوام الأخيرة إلى لازمة مقدسة تقريبا. وباستثناء محافل متطرفة في اليمين واليسار- كتلك التي ترفض علنا الهوية اليهودية أو الديمقراطية للدولة- فإن الجميع يرفعون هذا اللواء عاليا. هناك أوساط متدينة، وحتى حريدية (متشددة دينيًا)، تقسم باسم "الدولة اليهودية والديمقراطية"، وبالأساس بغية تأمين موافقة عريضة على "الدولة اليهودية"، فيما تقسم أوساط يسارية باسمها بالأساس من أجل ضمان موافقة عريضة على مبدأ الديمقراطية.
وهكذا نشأ ميزان رعب يبدي فيه كل معسكر استعداده لأن يقسم باسم القيمة الثانوية في نظره بغية ضمان الموافقة على القيمة الأكثر مركزية. ومن اللافت أن هذا التعبير، الذي يعتبر كما لو أنه نزل على العالم مع لوحات العهد (وصايا موسى العشر) أو على الأقل مع "وثيقة الاستقلال"، تسلل إلى الخطاب العام بشكل مباشر، بالذات في سياق سلبي.
في المرة الأولى ورد في كتاب القوانين الإسرائيلي شيء ما يذكر بتعبير "دولة يهودية وديمقراطية" في التعديل لقانون أساس الكنيست من العام 1985، والذي نص للمرة الأولى على الحق في استبعاد قائمة أو أشخاص من التنافس في الانتخابات البرلمانية يعارضون هوية إسرائيل كدولة يهودية أو ديمقراطية. وقد كانت خلفية ذلك دخول حركة "كاخ" (التي كان يتزعمها الحاخام مئير كهانا) للكنيست في انتخابات العام 1984، ورغبة المشرعين في منع هذه الحركة وأمثالها من الدخول مجدداً للكنيست. وطالب المشرعون في هذه السياق أيضا بالموازنة بين أحزاب ومرشحين من هذا النوع وبين أحزاب أو مرشحين يعارضون الهوية اليهودية للدولة.
في المرة الثانية، وهي الأبرز والأشهر، دخل هذا التعبير، وفي هذه المرة بصيغته الإيجابية، إلى كتاب القوانين الإسرائيلي في قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته (1992). وحدد القانون هدفه في الرغبة في "تكريس قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية، في قانون أساس"، ومن هنا يتضح أن القائمين على صياغته اعتبروا أن قيم كرامة الإنسان وحريته تنسجم مع الهوية اليهودية للدولة، وليس فقط مع هويتها الديمقراطية.
على الرغم من مركزية القانونين المذكورين، ومركزية التعبير "دولة يهودية وديمقراطية" في كل واحد من هذين القانونين، إلا إنهما (أي قانوني الأساس) لم يهتما مطلقا بتحديد وإيضاح مغزى هذه المصطلحات. في العام 1985 ربما كان بالإمكان تفسير ذلك بالشعور أن الحديث يدور على موضوع بديهي، فظاهريا من السهل تحديد ماهية "رفض وجود دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية"، وإن كانت هذه "السهولة تبددت"، في الواقع، مثلما أثبتت قرارات وأحكام المحكمة العليا فيما يتعلق بالالتماسات التي دعت إلى منع عزمي بشارة وأحمد طيبي، ومن الجهة الأخرى باروخ مرزل، من الترشح والتنافس في الانتخابات، والتي (أي الالتماسات) رفضت جميعها. عموما من الواضح أن من الصعب أكثر القيام بتحديد إيجابي (كما ينص القانون من العام 1992) لماهية "قيم دولة إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية".
حاليا تبدو هذه العبارة بالأساس كعبارة تهدف إلى التخفيف من مخاوف الأوساط المتدينة من الطابع الجارف لقانون أساس: كرامة الإنسان وحريته، علما أن القائمين على صوغه افترضوا بحسن نية أن هناك في المجتمع الإسرائيلي توافقا حول ماهية "دولة يهودية وديمقراطية"، أو أنهم أنفسهم لم ينجحوا في التوصل إلى توافق كهذا ولذا آثروا الاكتفاء بصيغة احتفالية وضبابية في نفس الوقت. على أية حال، من الواضح تماما، منذ تذويت هذا التعبير في الخطاب العام (في أعقاب سن قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته) أن هناك أشخاصا مختلفين يفسرون هذا القانون بأشكال مختلفة كليا. وعلى سبيل المثال، فقد سعى القاضي أهارون باراك (الرئيس السابق للمحكمة العليا) في عدد من القرارات المتعلقة بتفسير القانون وكذلك في مقال مبدئي نشره حول الموضوع، إلى إبطال إمكانية أن يمس مكون الـ "يهودية" بأي شكل بالمكون "الديمقراطي"، ولذلك فسر التعبير بقوله إن المكون "اليهودي" يتعلق فقط بالمصادر اليهودية الهادفة إلى توكيد وتكريس الطابع الديمقراطي للدولة. وقد لاقى هذه التفسير انتقادات شديدة (محقة في نظري) وخاصة من جانب أوساط متدينة، ومن ضمنها نائب باراك في المحكمة العليا البروفسور مناحيم ألون، رأت فيه محاولة للتملص من الرغبة الواضحة للمشروع لإيجاد توازن بين مبدأين مختلفين، أحدهما مبدأ عالمي والثاني مبدأ خاص. في المقابل ثمة أوساط متدينة تقدس الدولة اليهودية، ومن وجهة نظرها فإن المكون "الديمقراطي" يهدف في المحصلة إلى ضمان مبدأين رسميين للنظام، الأول يقضي بأن تتولى هيئة تمثيلية منتخبة من قبل مجموع المواطنين، أي الكنيست، اتخاذ القرارات الحاسمة في الدولة، والثاني أن تتخذ القرارات البرلمانية الحاسمة بتصويت أغلبية إلى جانبها. ووفقا لهذه الطريقة فإن العنصر أو المكون "الديمقراطي" لا يعني شيئا بشأن مضامين القرارات الحاسمة طالما أنها اتخذت بأصوات أغلبية البرلمان المنتخب، ما يعني أن الكنيست مخول بأن يتخذ بتصويت أغلبية قرارات تمس بحقوق أساس لمواطنين من إسرائيل أو حتى جميع المواطنين. كذلك هناك أوساط عربية ويهودية ما بعد صهيونية تعارض تعبير "دولة يهودية"، لأن الأمر، من وجهة نظرها، يحول إسرائيل من ديمقراطية تطبق المساواة تجاه جميع مواطنيها إلى "إثنوقراطيا"، أي دولة فيها حقوق زائدة لأصحاب هوية إثنية معينة، والمقصود هنا اليهود. وهكذا نشأت حلقة مفرغة خطيرة، كلما أبدى فيها عرب إسرائيل (أو على الأقل قيادتهم السياسية والفكرية) تحفظا أكبر تجاه تعريف إسرائيل كـ "دولة يهودية" كلما ازدادت مخاوف اليهود من هذا الوضع، ولذلك فهم يسعون إلى تكريس الهوية اليهودية أكثر في تشكيلة منوعة من القوانين.
ومن الجهة الأخرى، نجد أنه كلما سعى اليهود إلى تكريس الهوية اليهودية للدولة في المزيد من القوانين، كلما ازدادت مخاوف العرب من هذا التعريف، الذي يعتبرون أنه موجه ضدهم، وليس لليهود، ولذلك فإنهم يصعدون من رفضهم له. وينظر لهذه الأمور كنبوءة تحقق نفسها، إذ يقول العرب: لقد تخوفنا منذ البداية من أن تعريف إسرائيل كدولة يهودية موجه ضدنا (وكما يقول عضو الكنيست أحمد طيبي: إسرائيل دولة يهودية بالنسبة للعرب وديمقراطية لليهود)، فهذه القوانين تثبت صحة تخوفنا. من هنا فإن تضافر القوانين التي تقيد وتنتقص من حقوق العرب وتصاعد معارضتهم لتعريف إسرائيل كـ "دولة يهودية" يخلق تصعيدا متبادلا، يضع علاقات اليهود والعرب في الدولة على سكة تصادم مشحون.
في المقابل يتضح أنه عند تحديد مصطلح "دولة يهودية" تحديداً مقلصا والتوضيح أن القصد ليس دولة تميز في قوانينها بحق غير اليهود، نجد أن الاستعداد العربي لقبول الدولة اليهودية يزداد. وعلى سبيل المثال فقد اتضح من استطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في العام 2007 أن 75% من عرب إسرائيل مستعدون لتأييد دستور يعرف إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية إذا ما ضمنت فيها مساواة في الحقوق للأقليات. بعبارة أخرى، فإن جل معارضة عرب إسرائيل لتعبير "دولة يهودية" ليس بسبب رفضهم اعتبار إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي، وإنما نتيجة تخوفهم من أن هنا التعريف موجه للمس بحقوقهم. فضلا عن ذلك، ثمة استعداد كبير في أوساط اليهود المعارضين لقانون الولاء والمواطنة، حتى لا يمس بالعرب، لتأييد قسم ولاء بديل لـ "مبادئ وثيقة الاستقلال"، على الرغم من أن تعبير "دولة يهودية" يظهر في الوثيقة، في حين لا ذكر فيها نهائيا لتعبير "دولة ديمقراطية". والسبب هو أن "وثيقة الاستقلال" تؤكد في الوقت ذاته على الدعوة للسلام، وبالأساس على المساواة في الحقوق لجميع مواطني إسرائيل من دون فرق أو تمييز على أساس الدين والعرق والجنس. بمعنى أنها تزيل من تعبير "دولة يهودية" التخوف من المس بالحقوق المتساوية، والذي يشكل لب المشكلة من ناحية الجمهور العربي ومؤيديه اليهود. صحيح أن الزعامة العربية لم تعبر عن تماثلها واستعدادها لقبول قسم الولاء حتى لـ "مبادئ وثيقة الاستقلال"، لكن يبدو أنه في حال كانت هذه هي الصيغة، فإن معارضتها ستكون أقل، ولما كانت ستحظى بدعم وتأييد واسعين إلى هذا الحد في صفوف الجمهور اليهودي.
خلاصة القول، إن تعبير "دولة يهودية وديمقراطية" بسيط وقابل للاستيعاب، بل ونجح في أن يرسخ على الأقل في وعي الجمهور اليهودي كمعبر عن توازن سليم بين الهوية القومية- الخاصة لإسرائيل وهويتها المدنية- العالمية، غير أنه ينطوي على نقيصة جلية: فنظرا لأن مغزاه غير واضح بما فيه الكفاية، فقد نشأ لدى عرب إسرائيل التخوف من أنه موجه في الواقع لإقصائهم كمواطنين من الدرجة الثانية، وهذا التخوف في حد ذاته يحرك ويثير تحفظهم من التعبير برمته. ما يستدل من ذلك هو أنه يجب عدم التخلي عن استخدام التعبير ذاته، لكن ثمة حاجة ملحة لإيضاح مرماه بشكل يجعله مقبولا لدى أغلبية الجمهور اليهودي والعربي على حد سواء، وبروح وثيقة الاستقلال: "يهودية" تعني الدولة القومية للشعب اليهودي، و"ديمقراطية" تعني دولة تحافظ على المساواة في الحقوق لمواطنيها كافة.
_______________________
(*) صحافي وباحث في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية". ترجمـة خاصـة.