المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • مقالات مترجمة
  • 1698

على منصة الاحتشاد السنوي الكبير لذكرى إسحق رابين، قبل أكثر من أسبوعين، ألقى الأديب دافيد غروسمان، الخطيب الوحيد في الحدث، خطابا هاما. في ذروة أقواله، أسدى غروسمان نصيحة إلى رئيس الحكومة قائلا له: "توجه إلى الفلسطينيين، يا سيّد أولمرت، توجه إليهم متجاهلا زعماء حماس. توجه إلى المعتدلين من بينهم، هؤلاء الذين يعارضون حماس وطريقها، مثلك ومثلي".

  في تلك الساعة كان نشطاء "كتلة السلام" منتشرين بين 100 ألف من حضور التظاهرة ووزعوا لاصقة كتب عليها "السلام يُصنع مع الأعداء - تحدثوا مع حماس!"، وقد أفادوا بأن جزءا من الحاضرين رفضوا أخذ اللاصقة، ولكن معظمهم أخذوها عن طيب خاطر.

 

هذان التوجهان يجسدان المأزق، الذي يواجه معسكر السلام الإسرائيلي اليوم.

 

خطاب غروسمان أثار ضجة، فقد كان خطابا ممتازا، خطاب أديب يعرف كيف يسخّر الكلمات. لقد أبهج الحضور وتلقته وسائل الإعلام كحدث هام. صحيح أنه لم يذكر أنه كان قد أيّد الحرب في بدايتها وقد غير رأيه خلالها، لكن هذه الحقيقة بالذات أضفت مصداقية كبيرة على انتقادنا اللاذع للحكومة.

لقد ذكر أيضا الكارثة الشخصية التي حلت به، حين قتل نجله، أوري، في الساعات الأخيرة من الحرب: "الكارثة التي حلت بعائلتي وبي... لا تمنحني حقا إضافيا في الجدل الجماهيري. ولكن يبدو لي أن الوقوف أمام الموت والفقدان يجلب معه أيضا الحكمة والنباهة".

لقد خلق لهجة جديدة، اجتذبت الخيال فورا وسيطرت على الجدل الجماهيري. لقد أعلن قائلا: "زعامتنا فارغة!". وفعلا، فهذا هو الإحساس العام السائد منذ الحرب: أن هذه زعامة فارغة من أي مضمون، بريئة من أي برنامج، تفتقر إلى القيم وكل ما يهمها هو صراع البقاء. ورغم أنه تحدث عن الزعامة وليس عن أولمرت شخصيا، فإن هذا اللقب يلائم إلى حد كبير الرجل ذاته: وصولي سياسي تكمن قوته في المناورات والأسافين، يفتقر إلى مستوى ثقافي، معدوم الرؤيا وتنقصه شخصية ملهمة.

هناك حكمة أخرى في أقواله عن ضم أفيغدور ليبرمان إلى الحكومة كوزير للشؤون الإستراتيجية: "تعيين من هو مصاب بهوس إشعال الحرائق مديرا لخدمات الإطفاء في الدولة".

كان بإمكاني أن أتعاطف تماما مع 90 % من أقواله. كان يمكنني أن أتعاطف مع كل ما قيل عن وضع الدولة، عن الأزمة الأخلاقية والاجتماعية، عن جودة زعمائنا والحاجة الوطنية إلى إحلال السلام. لو كنت قد وقفت على المنصة (وهذا أمر محال، كما سأشرح لاحقا) لكنت سأقول أقوالا مشابهة، كلتك التي قلناها أنا وزملائي في عشرات السنين الأخيرة.

الخلاف بيننا هو خلاف عميق وثاقب، يتعلق بنسبة الـ 10 % المتبقية من الخطاب. والأكثر من ذلك هو متعلق بالأقوال التي لم تُطرح.

لا أقصد النواحي التكتيكية. مثلا، حقيقة أن الخطاب برمته لم يذكر، حتى ولو بكلمة واحدة، نصيب حزب العمل في الحكومة، في الحرب وفي تعيين ليبرمان. أولمرت هو المذنب الوحيد، أما عمير بيرتس فقد اختفى.

لا، بل أنا اقصد الشؤون الأكثر جوهرية.

 

بعد مثل هذا الهجوم وجها لوجه على الزعامة "الفارغة"، معدومة الرؤيا والبرنامج، كان من المتوقع من غروسمان أن يعرض أمام عشرات الآلاف من دعاة السلام في الميدان، رؤياه وبرنامجه هو لحل المشكلة. ولكن بقدر ما كانت انتقاداته نبيهة وعالية، كانت اقتراحاته واهية.

 

ما الذي اقترحه؟ التوجه إلى "المعتدلين" بين أوساط الشعب الفلسطيني، متخطين زعماء حكومته المنتخبة، للبدء من جديد بعملية السلام. هذا الأمر ليس إبداعيا. هذا ما قاله (ولم يفعله) أريئيل شارون. هذا ما يقوله (ولا يفعله) إيهود أولمرت وحتى جورج بوش.

هذا التقسيم بين "المعتدلين " و"المتشددين" لدى الطرف العربي هو أمر يوقع في الخطأ. هذا بالأصل اختراع أميركي. إنه يتملص من المشكلة الحقيقية. إنه ينطوي على قدر كبير من الاستهتار بالمجتمع العربي. إنه يؤدي إلى طريق مسدود.

اقتراح غروسمان يحرف مسار النقاش إلى أفق "مع من نتحدث" و"مع من لا نتحدث"، هذا عوضا عن تقرير ما يجب التحدث عنه بشكل واضح: إنهاء الاحتلال، إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، إعادة الخط الأخضر، حل قضية اللاجئين.

كان من الممكن أن يُطلب من مثل هذا الخطاب، في مثل هذا المكان في مثل هذا الحدث، أن يتم إسماع الرأي بصوت عال، عوضا عن نصوص مبهمة عن سابق قصد. "توجه إليهم بالخطة الأكثر جدية وموثوقية التي يمكن لإسرائيل أن تقترحها. بخطة يمكن لكل إسرائيلي وفلسطيني حكيم أن يعرفوا أنها الخط الأحمر للرفض والتنازل، لدينا ولديهم". هذه نغمة جميلة. ولكن ما معنى ذلك؟

من الواضح أن هناك حاجة إلى التحدث حول هذه الخطة مع الزعامة الفلسطينية المنتخبة، بغض النظر عن تركيبتها. إن الفكرة القائلة بأن من الممكن التحدث مع جزء من الشعب الفلسطيني (وهذا الجزء هو الأقلية حاليا)، من خلال مقاطعة الجزء الآخر (وهو الأكثرية حاليا)، ليست فكرة خاطئة وتوقع في الخطأ فحسب، بل هي مفعمة بالتكبر والازدراء اللذين يستند إليهما الاحتلال ذاته.

 

يظهر غروسمان تعاطفا كبيرا مع البؤساء والمساكين في المجتمع الإسرائيلي، وهو يجسد هذا التعاطف بكلمات مؤثرة. من الواضح أنه يحاول، حقا يحاول، أن يبدي تعاطفا مشابها تجاه المجتمع الفلسطيني الرازح تحت المعاناة. ولكنه لا ينجح في ذلك. إنه تعاطف خال من العطف، خال من الإحساس الحقيقي.

إنه يقول إن هذا "شعب معذب ليس بأقل منا". ليس بأقل منا؟ هل غزة مثل تل أبيب؟ هل رفح مثل كفار سابا؟ هذه المحاولة لخلق موازاة بين المحتل والرازح تحت الاحتلال، وهي تميز جزءا من دعاة السلام في إسرائيل أيضا، تشهد على وجود خلل جوهري. هذا صحيح أيضا حتى وإن قصد غروسمان معاناة اليهود على مر التاريخ.

يقول غروسمان عن الفلسطينيين الذين انتخبوا حماس الآن بانتخابات حرة تماما إنهم "رهائن بين أيدي المسلمين المتطرفين". إنه على قناعة تامة بأنهم سيتغيرون تماما، في اللحظة التي "سيخاطبهم فيها" أولمرت. إنه، إن لم نبالغ، توجه وطني. "كيف لم نستخدم كل مرونتنا الفكرية، كل الإبداع الإسرائيلي، لنقتلع أعدائنا من الفخ الذاتي الذي أوقعوا أنفسهم فيه؟" بما معناه: نحن الطرف المهم، المبدع، وعلينا أن ننقذ العرب المساكين من تعصّبهم.

تعصّب؟ هل هذه ميزة متوارثة؟ أم أنها إرادة طبيعية للتحرر من قيود الاحتلال الغاشم والخانق، الاحتلال الذي لم ينجحوا في التحرر من براثنه الأبدية حتى عندما انتخبوا حكومة "معتدلة".

هو الأمر ذاته بالنسبة للاقتراح الثاني الذي طرحه غروسمان- ذلك الاقتراح المتعلق بسوريا. يبدو لأول وهلة أنه اقتراح معقول: يتوجب على أولمرت الاستجابة لأي توجه من قبل زعيم عربي يقترح السلام. ممتاز. ولكن ما الذي يقترحه على أولمرت؟ "اقترح عليه (على الأسد) عملية سلام تستمر لبضع سنوات، وفي نهايتها فقط، وفي حال نفذ كل الشروط، والتقييدات، سيستعيد هضبة الجولان. عليك أن تلزمه بعملية حوار متواصلة". لا دافيد بن غوريون ولا أريئيل شارون كانا قادرين على نص هذه الجملة بشكل أفضل.

من المؤكد أن بشار الأسد قد سقط عن كرسيه من شدة انفعاله عندما قرأ هذه الأقوال.

 

لكي ندرك عمق أقوال غروسمان علينا أن نتذكر خلفيتها.

 

لا يوجد معسكر سلام إسرائيلي واحد. هناك معسكران، والفرق بينهما هو فرق هام.

المعسكر الأول، معسكر غروسمان، يسمي نفسه "معسكر السلام الصهيوني". نظرته الإستراتيجية تقضي بمنع الابتعاد عن "الإجماع الوطني". إنهم يؤمنون أننا إذا فقدنا التواصل مع الإجماع، فلن ننجح في إقناع الجمهور، لذلك علينا أن نلائم رسالتنا لما يكون الجمهور مستعدا لاستيعابه كل الوقت.

تقف في مركز هذا المعسكر حركة "السلام الآن"، وتنتمي إليها مجموعات وشخصيات أخرى. هذا توجه مشروع قطعا - لو نجحت في استقطاب الجماهير. لمزيد الأسف لم يحدث ذلك: "السلام الآن" التي جنّدت مئات الآلاف العام 1982 احتجاجا على مجزرة صبرا وشاتيلا، نجحت أخيرًا في تجنيد 150 شخصا فقط للمظاهرة ضد مجزرة بيت حانون. الحركات الأخرى التي انضمت إلى المظاهرة نجحت في إحضار عدد مماثل. كنا معا 300 شخص. مثل هذه الأعداد حضرت أيضا مظاهرات "السلام الآن" التي تم التحضير لها طيلة مدة طويلة.

هذا المعسكر يحافظ على علاقة وثيقة مع حزبين: ميرتس والجناح اليساري في حزب العمل. معظم مؤسسي "السلام الآن" وزعمائها ظهروا في الانتخابات كمرشحين من قبل هذين الحزبين، حتى أن بعضهم قد تم انتخابه للكنيست. إحدى المؤسِسات (يولي تامير) تشغل الآن منصب وزيرة التربية والتعليم في حكومة الحرب التابعة لأولمرت- بيرتس.

 

المعسكر الآخر، الذي اعتادوا على تسميته "معسكر السلام الراديكالي"، ينتهج إستراتيجية معاكسة: أن نطرح رسالتنا بصوت مرتفع وجهوري، حتى وإن كانت لا تحظى بشعبية وهي بعيدة عن الإجماع. الافتراض هو أن الإجماع سيأتي بعد ذلك، عندما تثبت هذه الحقيقة ذاتها في اختبار الواقع.

هذا المعسكر، التي تنتمي إليه "كتلة السلام" (وأنا أحد نشطائها) وتنتمي إليه عشرات التنظيمات الأخرى، التي تُعنى بالعمل اليومي الدؤوب، ابتداء من النضال ضد الجدار وسائر أشكال الاحتلال وانتهاء بمقاطعة المستوطنات ودعم الجنود الرافضين للخدمة في المناطق المحتلة.

 

يختلف هذا المعسكر عن المعسكر الآخر كذلك بأنه يعمل بتواصل مباشر مع الفلسطينيين، ابتداء من الزعامة وانتهاء بالقرى الصغيرة، التي تناضل ضد الجدار الذي ينتزع منها أراضيها. شرعت "كتلة السلام" مؤخرا في حوار مع زعماء حماس. هذه المحادثات تتيح فهم المجتمع الفلسطيني بكل تعقيداته، أحاسيسه ومفاهيمه، تطلعاته وآماله.

هذا المعسكر، غير المتعلق بأي حزب، يعرف أنه لن يتحول إلى حركة تنتمي إليها الحشود. هذا هو ثمن السلام. لا يمكن أن نكون شعبيين في وقت نعبر فيه عن مواقف وننفذ أعمالا تتعارض مع الإجماع. إذن، كيف يؤثر هذا المعسكر؟ كيف حدث أن الكثير من مواقفه قد أصبحت مقبولة لدى الجمهور، ومن ضمنهم أدباء مثل غروسمان؟

نحن نسمي ذلك "قانون العجلة الصغيرة". عجلة صغيرة مسننة، تتحرك من تلقاء ذاتها، تدير عجلة أكبر، وهذه بدورها تدير عجلة أكبر، وهكذا دواليك، حتى الوصول إلى مركز الإجماع المتغير.

هذه هي القوة في عشرات السنين الماضية، وهذه هي القوة قبل عدة أسابيع، في حرب لبنان الثانية. لقد دعونا إلى مظاهرة ضد الحرب في يومها الأول، في وقت أيد معظم الجمهور، ومن بينهم الأديب دافيد غروسمان وآخرون، هذه الحرب بشكل علني. ولكن عندما بدأت تنكشف دوافعها ونتائجها الحقيقية، تغير الإجماع. توسعت مظاهرتنا من 100 مشارك إلى 10 آلاف. حتى "السلام الآن" التي برّرت الحرب، غيرت توجهها، وقبيل نهاية الحرب، خرجت بالتعاون مع ميرتس في مظاهرة مناهضة للحرب خاصة بهما. في نهاية الأمر تغير "الإجماع الوطني" كله.

 

هناك من يقول إن "معسكر السلام الراديكالي" و"معسكر السلام الصهيوني" يلعبان أدوارا مختلفة، ولكن أحدهما يكمل الآخر، في النضال الحاسم على الرأي العام.

 

من هذا المنطلق يجب أيضا مناقشة خطاب غروسمان.

 

لقد كان خطابا مثيرا للمشاعر، ويمكن القول إنه خطاب كبير. لم يشتمل على كل ما أردنا، ولكن بالنسبة لغروسمان وللمعسكر الذي ينتمي إليه، كانت هذه خطوة كبيرة بالاتجاه الصحيح.

 

________________________________

 

* أوري أفنيري- صحافي إسرائيلي ورئيس "كتلة السلام" اليسارية.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات