تعصف رياح صنع التاريخ بالشرق الأوسط هذه الأيام. فالقوى الاجتماعية التي ازدادت صلابة إثر تعزيز فكرة النظام العربيّ في حقبة ما بعد السبعينات من القرن الماضي، تفككت بضربة إزميل سددتها سياسة دونالد رامسفيلد المبتكرة للتدخل العسكري المباشر، ما استهدف المنطقة في الصميم.
ويبدو أنّ النظام العربي القديم الذي يفوق عمره ثلاثين سنة هو المستهدف اليوم في دول عدة في المنطقة. ولعلّ القوى الأكثر استفادة من هذا الأمر هي تلك ذات الصبغة غير العربية: الإيرانيون والأكراد والأتراك والإسلاميون من الشيعة والسنة على حدّ سواء...
وربما لاحظتم أنّني تعمّدت عدم ذكر الأميركيين كطرف مستفيد ممّا يأتون به من أعمال. ما زلت مقتنعة بأنّ احتلال العراق سيشكّل ورطةً فظيعة لإدارة بوش. وثمة دلالات ظهرت في الأسابيع الأولى التالية للنصر العسكري. اذ اضطر أشدّ الأميركيين عدائيةً وبلاغة، إزاء عدم الاستقرار الخطير المستمرّ على مستوى القيادة المديرة للاحتلال، إلى كبح جماح طموحاته الى أقصى درجة. فأين نحن اليوم من تلك التهديدات المتبجّحة المتباهية بـ"سهولة الدخول إلى بغداد"، والمعلنة بأنفة أنّ "الرجال الحقيقيين يتوجهون إلى دمشق أو طهران"؟
هؤلاء المتبجّحون لزموا الصمت الآن، في حين بدأ إمكان إدارة العراق وحده من دون البلدان الأخرى بالتلاشي.
نعرف إذاً أنّ الشرق الأوسط سيشهد تيارات تاريخية كبرى في الأسابيع والأشهر المقبلة. بيد أنّ التاريخ في شكله الكلّي مكوّن عموماً من تفاصيل تاريخية "صغيرة". وأوّد التطرق الى جزء صغير من تاريخ المنطقة وصلته بتاريخ بقاع أخرى من العالم. أودّ أن أتكلّم خصوصاً على مسائل النزاع والذاكرة الجمعية في فلسطين وجنوب أفريقيا.
في مطلع أيار (مايو) الماضي أمضيت عشرة أيام في جنوب أفريقيا للقيام ببحث عن كيفية تعامل جنوب أفريقيا الديموقراطية "الجديدة" مع مخلّفات إرث نظام التمييز العرقي، والقمع المسمّى الفصل العنصري.
تعود بي الذاكرة إلى شباط (فبراير) 1990، ذلك اليوم التاريخي الذي خرج فيه نلسون مانديلا من السجن بعد 28 سنة من الأسر. أمضيت في ذلك اليوم نهاراً كاملاً أمام التلفاز أبكي فرحًا لأنّني ما كنت لأصدّق مع مرور الستينات والسبعينات والثمانينات أنّني سأشهد هذا الحدث. ولحسن الحظّ أبقى مانديلا وزملاؤه في الحركات الأفريقية إيمانهم. وتابع هؤلاء نضالهم وبعد أربع سنوات على إطلاق مانديلا في نيسان (ابريل) 1994 دفن آخر آثار التمييز العنصريّ مع تنظيم أول انتخابات ديموقراطية حرّة في جنوب أفريقيا شعارها "مرشّح واحد، صوت واحد".
وزرت أثناء رحلتي جزيرة "روبين" التي أمضى فيها مانديلا سنوات الأسر. وتحوّلت صخور سجن روبين بعد 1994 إلى متحف لتخليد ذكرى حقبة الفصل العنصريّ، خصوصاً أولئك الذين كافحوا في سبيل إلغاء هذا النظام خلال القرن العشرين. واصطحب أحد السجناء السياسيين السابقين مجموعتنا التي ضمّت 50 سائحاً في جولة لزيارة الزنزانات الصغيرة والأوسع مساحةً. كان الهدف الأساسي من الجولة تأكيد عدم معاملة جنوب أفريقيا بعد اليوم أيّاً من ابناء شعبها بهذه الطريقة. وافتتحت جنوب أفريقيا الجديدة أماكن عدّة لتخليد ذكرى سنوات الكفاح ضدّ الفصل العنصري. زرنا نصب "هكتور بيترسون" التذكاري وسط "سويتو" والمتحف الذي سميّ باسم طالب في الثالثة عشرة من "سويتو" قتلته قوى الأمن في المكان ذاته في اليوم الأول من "انتفاضة القوميين الشباب" التي اجتاحت البلاد المقسمة في حزيران (يونيو) 1976. وكان هذا الحدث منعطفاً أساسياً لتسريع الكفاح ضد الفصل العنصري في السنوات 18 التالية.
"سويتو" وهي بالإنكليزية مختصر للمدن الغربية الجنوبية، شبكة من المدن المتراصة تقع على بعد أميال جنوب غربي جوهانسبورغ. وكانت تؤوي غالبية اليد العاملة في مدينة جوهانسبورغ في النصف الأخير من القرن العشرين، وهي كذلك مسقط رأس عدد كبير من الموظفين السود الذين كانوا ينطلقون منها للعمل في وظائف متدنية الأجور داخل المدينة المزدهرة التي تعجّ بالبيض. "سويتو" كبيرة! مساحتها تفوق قطاع غزة بأكمله، وهي تضم نحو 12 مدينة متداخلة صغيرة. يبدو بعض أجزائها فاحش الثراء مثل شارع "فيلاكازي" في أورلندو، مسقط رأس اثنين من حملة جائزة نوبل للسلام، القس ديزموند توتو ونلسون مانديلا. لكن غالبية "سويتو" بما فيها المناطق الشاسعة من مدن الصفيح، تعيش في فقر مدقع على رغم محاولة الحكومة تأمين الكهرباء والماء والحدائق الصغيرة وغيرها من الخدمات.
ولم يكن لأيّ كان في "سويتو"، فقيراً أم غنياً، حقّ الانتخاب قبل عام 1999، ولم يكن أيّ شخص يملك وسيلة سياسية لتحدي الأوامر اللاإنسانية التي يصدرها نظام الأقلية البيضاء.
هكتور بيترسون وزملاؤه الشباب تحدوا كلّ هذا، كافحوا قبول الاهل والاساتذة للتمييز العنصريّ. عام 1976 أثناء التظاهرات التي عمّت "سويتو" ومدناً أخرى تابعة للسود، تعرّض الآلاف من قادة الحركات الشبابية لإطلاق نار من رجال الشرطة البيض الذين اجتاحوا تلك المناطق بآليات مصفحة تسمى "هيبو". وفي متحف "هكتور" اليوم ترى "هيبو" معروضة، ويمكن افراد من مختلف الانتماءات العرقية الدخول إليها والخروج منها بكلّ حرية. ثمة متحف آخر يتميّز بدقة التنظيم ويشجع على التفكير، هو "متحف المنطقة ستة" في مدينة "كيب تاون" المركزية. سمّي باسم حيّ داخليّ كان يؤوي عشرات الآلاف بمن فيهم من يشار إليهم بـ"السود" أو "البيض" أو "الملوّنين" (أي ذوي العرق المختلط، أو سكان شبه جزيرة "مالايو" أو الهنود الذين استقدمهم الحكام الهولنديون المستعمرون إلى كيب تاون على مرّ القرون). وكان كثيرون من سكان تلك المنطقة مسلمين من ذوي الاصل المالايوي أو الهندي، والبقية من المسيحيين أو اليهود.
واعتبر وجود هذا الحي المختلط بمثابة تحد لحكام نظام الفصل العنصري. فإذا استطاع السكان المنتمون إلى أعراق مختلفة التعايش بسرور في "المنطقة ستة"، لا شكّ في إمكان نجاح هذه التجربة في أيّ مكان آخر! وهكذا أصدرت الحكومة نهاية الستينات حكمًا بإفراغ المنطقة من سكانها قبل إعادة تنميتها. و"غُربل" هؤلاء وأرسلوا إلى مناطق اخرى بحسب "عرقهم"، وتعالت الاحتجاجات لكن الجرّافات أكملت مهمتها. ولم ينمَّ جزء كبير من "المنطقة ستة"، اذ كسا العشب الأخضر الشوارع التي كانت في الأمس مكتظة بالمحال والمنازل، وأزيل ركام المنازل القديمة.
في أوج الإجلاء القسري عام 1979 وضعت أبرشية كنيسة تقع في آخر "المنطقة ستة" لوحةً نحاسية على جدارها، تطالب فيها المارة بـ "أن يتذكّروا بخجل آلاف الأشخاص الذين عاشوا لأجيال في "المنطقة ستة" وأرغمهم القانون على مغادرة منازلهم بسبب لون بشرتهم". وفي 1992 مع الانفتاح السياسي في البلاد، وهب رجال الدين الكنيسة لتحويلها إلى متحف يخلّد ذكرى سكان "المنطقة ستة"، وأعطى هؤلاء اقتراحات للحفاظ على هذا المتحف وطريقة تقديمه إلى الجمهور.
وبات اليوم - وهو ليس مكانًا "جافًا" و"ميتاً" يحكي الماضي فحسب - مركزاً حياً لمجتمع المنطقة المشتت، ومكاناً يلتقي فيه الآتون من خارج المنطقة بأولئك "الناجين" من الفصل العنصري، العاملين في المتحف والمهتمين بتخليد ذكرى نضالهم.
رأيت مراهقين أو ثلاثة يركضون حول المعرض حاملين كتباً مدرسية. بدوا وهم من عمر هكتور بيترسون وارتادوا مدرسة مختلطة تقصدها أعراق مختلفة، مهتمين جداً بالتعرّف إلى ما عاشه أهلهم من تجارب.
زوّد نور إبراهيم أحد المرشدين المقيمين سابقًا في المنطقة، الحركة بالكثير من الصور التاريخية وذكرياته الخاصة المحرّرة على أفضل وجه. وإبراهيم الذي كان يوصف بالـ"ملوّن" إبان نظام الفصل العنصري، يتحدّث بنبرة تنمّ عن بعض السخرية عن قسوة نظام التمييز العنصريّ وسخافته. يقول: "كانوا يقسمون الناس وفقًا للونهم وأصلهم العرقي! أتتصوّرون ذلك؟ وما كانوا ليصدّقوا إمكان تعايش المنتمين إلى مجموعات مختلفة".
بينما كنت أتجوّل في متحف "المنطقة ستة"، راودني حلم يقظة: كم كان رائعاً لو أنّ المجتمعات التقدمية في إسرائيل فكّرت في إنشاء أماكن تذكارية للفلسطينيين الذين شرّدوا وأزيلت منازلهم من الوجود؟ للفلسطينيين الذين كانوا يقطنون في ما يعرف اليوم بـ"إسرائيل". ولا شكّ في أنّ إنشاء ملتقىً مثل متحف "المنطقة ستة" الذي يقصده الناس من كل الأعمار للتحاور والتفاعل، مشروع أكثر حيوية من رفّ كتب مدرسية أو كتب ذكريات!
يمكن البدء بهذا النوع من المشاريع في الكنائس أو المؤسسات الأخرى الجسورة التي يمكنها وضع لوحات تذكارية على جدرانها كنداء لتذكّر ما كان موجودًا ذات يوم وأمسى دماراً...
أمر آخر ألفت النظر إليه، هو وضع حكومة جنوب افريقيا أخيراً، بعد محادثات مكثفة، خطةً لإعادة بناء أقسام من "المنطقة ستة" والسماح لقاطنيها السابقين وأحفادهم بالعودة إليها. بعضهم مثل نور إبراهيم شعر بحماسة شديدة لهذا المشروع، فيما أعلن آخرون كسائق التاكسي عن عدم رغبتهم في العودة. لكن السائق أسوةً بغيره من قاطني تلك المنطقة الذين تحدثت إليهم عبّر عن سعادته واعتزازه بالعمل في المتحف، لا سيما أنّه كان يشعر بأنّه يساهم ليس في إبقاء على ذكرى إرثه المتعدد الثقافات فحسب، بل كذلك في تمجيده.
كاتبة متخصصة في شؤون الشرق الاوسط
الحياة 2003/06/09