أطلق "معهد أبحاث الأمن القومي" في جامعة تل أبيب، هذه الأيام، شريطاً مُصوّراً استأنف فيه على مفهوم "تقليص الصراع مع الفلسطينيين"، الذي تتبناه الحكومة الإسرائيلية الحالية، ولا سيما يتبناه رئيسها نفتالي بينيت، حيال قضية فلسطين.
وكان مركز مدار، من خلال الزميل الباحث وليد حبّاس، أول من توقف عند هذا المفهوم، وقرأ خلفياته ومكامنه، واستشرف أبعاده، من خلال عددٍ من المقالات، وعبر إصدار خاص ضمن سلسلة "أوراق إسرائيلية" ("أوراق إسرائيلية" 75: في مفهوم "تقليص الصراع ".. الخلفية، الغايات والمآلات، إعداد وتقديم: وليد حبّاس، تشرين الثاني 2021).
ومع أن استئناف المعهد المذكور يمكن أن يندرج ضمن دلالة الانحياز إلى مفهوم تسوية الصراع، وعلى أساس حل الدولتين تحديداً، فإن ما ينبغي توكيده بادئ ذي بدء هو أن هذا الانحياز لا يأتي البتة من منطلق التأييد أو التعاطف مع قضية فلسطين العادلة، وإنما بالأساس، وعلى نحو يبدو شبه مطلق، بسبب الخوف على مستقبل إسرائيل كـ "دولة يهودية وديمقراطية".
ويظهر في الشريط مدير "معهد أبحاث الأمن القومي"، أودي ديكل، محذّراً من أن مفهوم "تقليص الصراع" يرمي في العمق إلى ركل مفهوم تسوية الصراع، بما من شأنه الحفاظ على الوضع القائم الذي لا يمكن لاستمراره سوى أن يؤدي في نهاية المطاف، وفقاً لما يؤكده ديكل، إلى صيرورة الدولة الواحدة. وهو يدعّي أن مثل هذه الصيرورة تخدم غاية الفلسطينيين في الوقت الراهن، فضلاً عن أنها لم تكن غائبة عن أذهانهم في ما مضى من محاولات تسوية الصراع ومن جولات المفاوضات، كما يدعّي أنها لا تؤرقهم، بل يذهب إلى أبعد من ذلك، نحو القول بأنهم يتغيُّونها.
يجدر أن نشير إلى أن التحذير من صيرورة الدولة الواحدة في حال عدم المُضي قدماً نحو حلّ الدولتين، يتكرّر مثل لازمة منذ أعوامٍ طويلة، وعلى ألسنة كثير من الساسة الإسرائيليين والشخصيات العامة من مختلف ألوان الطيف السياسي، ابتداء من اليمين التقليدي وحتى اليسار الصهيوني. ولعلّ أبلغ من عبّر عن هذا الطيف الأخير الكاتب الإسرائيلي الراحل عاموس عوز الذي وقف في وجه عقيدة اللاحل التي جرى تبنيها إسرائيلياً في الأعوام الأخيرة وأدت إلى استبدال مفهوم التسوية أو الحل بمفاهيم أخرى مثل "إدارة الصراع" و"السلام الاقتصادي" وصولاً إلى "تقليص الصراع"، وبقي من بين الأصوات التي تقول إنه إذا لم تقم هنا دولتان (فلسطين بالإضافة إلى إسرائيل) وعلى وجه السرعة فستكون هنا دولة واحدة، وإذا كانت هنا دولة واحدة فهي ستكون دولة عربية من البحر إلى النهر، وليس دولة ثنائية القومية، بسبب العامل الديموغرافي. وبرأيه باستثناء سويسرا، فإن كل الدول متعددة القوميات تواجه مصاعب كبيرة (على غرار بلجيكا وإسبانيا) أو أنها انهارت (مثل يوغسلافيا والاتحاد السوفييتي) أو هي غارقة في خضم حمام دموي (مثل لبنان وقبرص).
في واقع الأمر، حتى لو كانت دوافع المستأنفين على مفهوم "تقليص الصراع" موبوءة بدعاوى الصهيونية المكرورة، فإن مجرّد استئنافهم عليه لصالح مفهوم التسوية على علاته ينطوي على مداليل جدلية متناقضة، فهو من جهة يعبر عن الخشية من تلاشي الدولة اليهودية، ولكنه من جهة أخرى يشير إلى عدم إمكان تصفية القضية الفلسطينية على المدى البعيد، بما يدلّ على أن حضورها بات عصيّاً على التجاهل أو الالتفاف أو التجاوز، وأكثر فأكثر يدلّ على أنه لا بديل عن إيجاد حلّ لها، ومن نافل القول إن مثل هذا الحلّ يجب أن يكون مقبولاً أولاً وفوق أي شيء من طرف أصحاب هذه القضية وممثليهم الشرعيين. ولا ريب في أن مثل هذه الإشارة ذات مدلول بالغ الأهمية خصوصاً الآن في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة الإسرائيلية الحالية أن تتجاهل القضية الفلسطينية، وأن تبرز أن تجاهلها لا يعيق تحسين علاقات إسرائيل مع دول عربية، وتطوير مكانتها الإقليمية في أكثر من مستوى، ولا ينبغي أن ننسى في الوقت عينه أن مثل هذا التطوّر متأثر إلى حدّ بعيد بحقيقة أن الشعب الفلسطيني ما زال يقاوم، وأن قيادته الشرعية لم تتنازل عن الثوابت الوطنية.
الصحيح أنه منذ ظهور أول المفاهيم السالفة وصولاً إلى طرح آخرها، ظلّ يُطرح سؤال جوهري: هل هي بمثابة بديل لمفهوم تسوية الصراع؟ وجرى البحث عن جواب في نطاق سيلٍ من السِّجالات التي تنتصر لهذا المفهوم أو ذاك، ولكن الملفت أنه بالرغم مما يُثار هنا وهناك من حالات صراع محمومة، فإن مفهوم التسوية لا يزال ذا سطوة مُضمرة تفوق، في قراءتنا، وهم سطوة المفاهيم الأخرى التي تتناسل جميعها من مقاربةٍ تهدف أساساً إلى تصفية القضية الفلسطينية.