المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • كلمة في البداية
  • 43
  • أنطوان شلحت

ما زال فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية التي جرت يوم 5 تشرين الثاني الحالي، يمنح أبواق رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو حافزاً على التحليق بعيداً في كل ما يتعلّق بالتوقعات الإسرائيلية منه خلال ولايته الرئاسية الثانية التي سوف تبدأ يوم 20 كانون الثاني 2025.

 ولعل الأمر المهم عند قراءة هذه التوقعات هو سبر الرغبات التي ينطوي عليها هذا التحليق حيال الواقع المرتبط بمصير الحرب على قطاع غزة ومستقبل القضية الفلسطينية وسائر القضايا الإقليمية وفي طليعتها الصراع مع إيران. 

ومن سيل التعليقات التي أفرزها هذا التحليق يمكن أن نشير إلى أبرز هذه الرغبات: الرغبة الأولى تتمثل في أن يعود ترامب، خلال ولايته الثانية التي ستكون متحرّرة من ضوابط وكوابح كثيرة في ضوء أنه ليس في إمكانه أن يرشح نفسه لولاية رئاسية أخرى، إلى اتباع السياسة الخارجية التي وصفت في أثناء ولايته الرئاسية الأولى (2026- 2020) بأنها خارجة عن مألوف صندوق السياسة الخارجية الأميركية. بل ذهب البعض إلى حدّ تصوّر السيناريو الذي كان يمكن أن يتحقّق في الواقع لو تمكن ترامب من الفوز على الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن واستمر في ولايته الرئاسية الثانية مباشرة من ولايته الأولى. ووفقاً لهذا السيناريو كان ترامب سيستمر في ممارسة الضغط الاقتصادي الهائل على إيران ووكلائها، وفي إدارة الظهر لمؤسسات الأمم المتحدة، وفي معاقبة الفلسطينيين على رفضهم التقليدي إملاءات السلام مع إسرائيل، وفي الدفع قدماً بمسار التطبيع مع الدول العربية وفقاً لنموذج "اتفاقيات أبراهام".

ويؤكد القائلون بهذا السيناريو أن إدارة الرئيس جو بايدن الديمقراطية وضعت حدّاً لكل هذا الخروج عن مألوف صندوق السياسة الخارجية الأميركية الذي انتهجه ترامب، وسرعان ما عادت إلى مغازلة النظام الإيراني ووكلائه ولا سيما في لبنان، وكذلك مغازلة الفلسطينيين.

ويُلاحظ كذلك أن ثمة تركيزاً على قائمة التعيينات الرئيسة التي أعلن عنها ترامب بشأن تركيبة إدارته والتي تدل، بحسب أمنون لورد، كبير المعلقين السياسيين في صحيفة "يسرائيل هيوم" (15/11/2024)، على إدارة أميركية جديدة أقل ما يقال عنها بأنها مناصرة لإسرائيل. فمعظم الذين تم تعيينهم هم أشخاص يؤيدون إسرائيل أيديولوجياً ويتضامنون معها ويرغبون في تقديم الدعم لها إلى أقصى الحدود. وبناء على ذلك تتوقع إسرائيل من هذه الإدارة الأميركية الجديدة المناصرة لها، بحسب ما يضيف لورد، أن تبادر إلى تنفيذ مهمتين فوريتين هما إلغاء العقوبات المفروضة من جانب واشنطن على عناصر من اليمين الإسرائيلي، وتحييد مؤسسات الأمم المتحدة في لاهاي (المقصود محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية) ومن ثم التصدّي لإيران وبرنامجها النووي ومحاولات بسط نفوذها الإقليمي.  

وتشي جردة سريعة لما صدر عن أبواق نتنياهو من تعليقات حيال تعيينات ترامب بأن معظم تلك التعيينات يدفع إلى الرضى، حيث من المتوقع في ظلّها أن تتفق الحكومتان بشأن كثير من القضايا المشتركة. ويُشار على وجه التحديد إلى وزير الخارجية الأميركي المقبل ماركو روبيو، الذي يُعتبر مؤيداً لإسرائيل. وسيعمل روبيو مع مستشار الأمن القومي الجديد مايك وولتز، عضو الكونغرس من ولاية فلوريدا، الذي يتبنى خطاً صارماً تجاه الصين. كذلك يضم فريق السياسة الخارجية أليس ستيبانيك، السفيرة الأميركية المرتقبة لدى الأمم المتحدة. وقد اشتهرت ستيبانيك في جلسة الاستماع التي خضعت لها الجامعات الأميركية الكبرى مثل هارفارد وبنسلفانيا وMIT، في إثر التظاهرات المناهضة لحرب الإبادة على غزة. وهناك توقعات بأن تواصل ستيبانيك النهج الداعم لإسرائيل، مثلما فعلت نيكي هيلي في إدارة ترامب السابقة. 

كما تم تعيين مايك هاكبي سفيراً للولايات المتحدة في إسرائيل. وتربط هاكبي علاقة وثيقة برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو. وأعرب، مراراً وتكراراً، عن دعمه للمستوطنين اليهود، وعن دعم فكرة ضم إسرائيل أجزاء من الضفة الغربية. وفي العام 2019 أعرب عن اعتقاده بأن لإسرائيل الحق في ضم أجزاء من الضفة الغربية. وجرى تعيين ستيفن ويتكوف، اليهودي والمقرّب من ترامب، مبعوثاً للولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط، وجون راتكليف رئيساً لوكالة الاستخبارات المركزية (سي آي إيه)، ومقدم قناة "فوكس نيوز" بيت هيغسيث وزيراً للدفاع. 

غير أنه في مقابل هذه الأبواق يؤكد خبراء إسرائيليون في الشؤون الأميركية أنه لا بد من تذكّر أن ترامب يبقى ترامب، فهو يهتم بمصالح الولايات المتحدة، أولاً وقبل أي شيء. وسيكون إلى جانب إسرائيل ما دامت تشكل رصيداً لأهدافه. وذهب أحد هؤلاء الخبراء (البروفسور يوسي شاين) إلى أنه من المهم التذكير بأن ترامب في ولايته السابقة طرح "خطة صفقة القرن" التي أعدّها صهره جاريد كوشنر، وقد تحدثت، في نهاية المطاف، عن حل دولتين لشعبين. كما أن في الشرق الأوسط الجديد الذي يسعى ترامب لتعزيزه، أصدقاء آخرين للولايات المتحدة، وهؤلاء أيضاً لديهم مصالحهم.

وأجمل الرئيس السابق لمجلس الأمن القومي والرئيس الحالي لـ "معهد مسغاف للأمن القومي والاستراتيجيا الصهيونية" مئير بن شبات الموضوع بقوله إن التعيينات الجديدة في إدارة ترامب المقبلة تحمل بشرى لكل من يرى أن إيران تشكل تهديداً للسلام والاستقرار في العالم وجذر كل الشرور في الشرق الأوسط. كما أنها تؤشر إلى نية العودة إلى مقاربة مواجهة النظام الإيراني وتوابعه من خلال اتباع سياسة مواجهة حازمة ضده تستند إلى المصالح والقوة والنفوذ. 

وأكّد بن شبات في الوقت عينه أنه من أجل ترجيح كفّة مثل هذا السياسة يتعيّن على إسرائيل أن تحقق انتصاراً في الحرب التي تشنها في الوقت الحالي لكي تثبت للإدارة الأميركية الجديدة بأنها ما زالت بمثابة رصيد أمني وتكنولوجي واقتصادي لها في منطقة الشرق الأوسط ("يسرائيل هيوم"، 15/11/2024).

عند هذا الحدّ ينبغي أن نذكّر بأن فترة ولاية بنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة الإسرائيلية اتسمت طوال الوقت، على صعيد العلاقات الثنائية مع الولايات المتحدة، بانتهاز أي فرصة سانحة لعرض ما تشكله إسرائيل من "منجم ذهب" بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بما يتجاوز الاعتقاد السائد بأن العلاقات الخاصة بين الدولتين تسير في مسار أحادي الجانب، بمعنى أن طرفاً واحداً، الإسرائيلي، يستفيد منها على نحو شبه مطلق، بينما استفادة الطرف الآخر، الأميركي، كانت ولا تزال في الحدّ الأدنى، إن كانت تُذكر أصلاً.

وفي هذا الإطار كان يتم، على نحو دوريّ، إنعاش الذاكرة بـ "الخدمات الأمنية" التي تقدمها إسرائيل إلى الولايات المتحدة، والتي تظلّ أفضل ضمانة لصيانة العلاقات الخاصة بين الدولتين. وبرأي الأوساط القريبة من نتنياهو من الأجدر القول إن الولايات المتحدة لم تعد تقدّم مساعدات خارجية إلى إسرائيل، بل هي تضع فيها استثمارات تعود عليها بأرباح سنوية بمئات النسب المئوية. ناهيك عن أن إسرائيل باتت بمثابة مختبر قليل التكلفة للصناعات الأمنية الأميركية، التي يعمل فيها أكثر من 4 ملايين أميركي، وذلك في ظروف مثالية، كون هذا "المختبر" يخوض قتالاً حقيقياً في أكثر من جبهة، ويُستفاد منه في جانبين اقتصادي وعملاني، حيث أنه من خلاله يتم تحسين أداء القوات الأميركية أيضاً.  والنموذج الأبرز لذلك هو استخدام سلاح الجو الإسرائيلي لطائرات من طرازي "إف 16" و"إف 35" التي تنتجها شركة "لوكهيد مارتين" الأميركية، وقيام هذا السلاح يومياً، كما يؤكد عدة خبراء، بنقل تقارير إلى هذه الشركة وسلاح الجو الأميركي تشتمل على الدروس المُستخلصة من العمليات العسكرية ومن أعمال الصيانة والتصليح، وتساهم هذه التقارير في تطوير هذين الطرازين من الطائرات وتحسين الجيل المقبل منها، ويستفيد منها سلاح الجو الأميركي في عملياته. 

ولكي تكتمل الدائرة بهذا الشأن ننوّه بأنه تصدر بين الفينة والأخرى إشارات من طرف كبار المسؤولين في الولايات المتحدة تؤكد هذه السرديّة الإسرائيلية من وجهة نظر منفعة واشنطن. ومنها اعتبار الرئيسة السابقة لمجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، من الحزب الديمقراطي، خلال زيارة قامت بها إلى الكنيست الإسرائيلي قبل عدة أعوام، أن إقامة دولة إسرائيل تشكّل أعظم إنجاز سياسي في القرن العشرين، وأن الرابطة الأمنية بين إسرائيل والولايات المتحدة وثيقة للغاية والصداقة بينهما أبدية. ومن الإشارات السابقة التي يصعب حصرها قول الجنرال ألكسندر هيغ، الذي شغل منصبي القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) ووزير الخارجية الأميركي في أثناء الحرب الباردة، بأن إسرائيل "هي حاملة الطائرات الأكبر في العالم التي لا يوجد جنود أميركيون على متنها، ولا يمكن إغراقها، وهي راسية في منطقة حساسة أمنياً واقتصادياً. كما أن إسرائيل توفّر على الولايات المتحدة نفقات ترتبط بإنتاج ونصب حاملات طائرات وألوية عسكرية إضافية في المحيط الهندي والشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط، تصل إلى عشرات مليارات الدولارات سنوياً". وفي ذروة الحرب الباردة العام 1986 قال الجنرال جورج ف. كيغن، الذي خدم في استخبارات سلاح الجو الأميركي، إنه ما كان سينجح في جمع المواد الاستخباراتية التي حصل عليها من إسرائيل حتى لو كانت تحت تصرفه خمس وكالات "سي. آي. إيه". ووردت أقواله في سياق مقابلة صحافية في الوقت الذي كانت فيه الحرب الباردة في ذروتها، وأضاف خلالها قائلاً: "إن قدرة سلاح الجو الأميركي خصوصاً والجيش عموماً على الدفاع عن مكانتهما في حلف الناتو مدينة للاستخبارات التي تزودهما إسرائيل بها أكثر من أي مصدر استخباراتي آخر"!  

ما يمكن أن نستقطره مما يقوله هؤلاء أن العلاقات الأمنية بين الولايات المتحدة وإسرائيل تتسم بطابع خاص لا يقدر عليه أي تبدّل للإدارات الأميركية. 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات