المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 1237
  • باسل رزق الله

 أعادت وفاة القاضية الإسرائيلية ميريام ناؤور (1947-2022) السجال الإسرائيلي حول المحكمة العليا إلى الواجهة. ناؤور كانت ترأست المحكمة العليا منذ العام 2015 وحتى تقاعدها في العام 2017، وعملت في سلك القضاء الإسرائيلي لمدة 38 عاماً منها 14 عاماً في المحكمة العليا، كما كانت تشغل عند وفاتها، في 24 كانون الثاني 2022، رئاسة لجنة التحقيق في حادثة جبل ميرون.

تعرضت ناؤور لعدة انتقادات خلال توليها رئاسة المحكمة العليا، كان أبرزها في العام 50 لاحتلال الضفة الغربية، بعد إصدارها قراراً يمنع مشاركة قضاة المحكمة العليا في ما سمي باحتفالات عودة الاستيطان بالضفة الغربية، لتنتقد في حينه من عدة سياسيين ووزراء، كان أبرزهم أفيغدور ليبرمان وأييلت شاكيد وميري ريغف وتسيبي حوطوفيلي. وعند وفاتها جاء الانتقاد لها من قبل رئيس حزب الصهيونية الدينية، بتسلئيل سموتريتش، الذي كان الوحيد من بين السياسيين الذي انتقدها في يوم وفاتها، مشيراً إلى أنه لا ينسى أنها سمحت بإخلاء بؤرتي عمونا ونتيف هافوت وأجزاء من مستوطنة عوفرا، وأنه لا يمكن أن يكون منافقاً،

Gil Hoffman, "Lapid livid after Smotrich insults deceased judge", The Jerusalem Post, Jan 24, 2022: https://bit.ly/3o1xPCH مما تسبب في توجيه انتقادات عدة له من قبل الوزيرين يائير لبيد وجدعون ساعر.
هذا النقاش يلقي الضوء أساساً على الجدل الإسرائيلي المستمر حول المحكمة العليا ودورها، والنظرة اليمينية العدائية نحوها، التي ترفض العديد من قراراتها، وترى فيها خطراً، باعتبارها هيئة غير منتخبة وتمثل القواعد الليبرالية وتهدد السياسات اليمينية. رغم ذلك، فإن مراجعة قرارات المحكمة العليا تجاه الفلسطينيين/ات والأراضي الفلسطينية، تكشف صورةً معاكسة لكل النقد اليميني المُوجه نحوها.

يمكن أن نستكشف ذلك من خلال الكتاب الصادر مؤخراً عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية- مدار، بعنوان "قرارات المحكمة العليا الإسرائيلية بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة (1967)"، الذي أعدته وقدمت له المحامية سوسن زهر، وترجمه عن العبرية سليم سلامة، وصدر في 188 صفحة، في أيلول 2021.

تأتي أهمية الكتاب لكونه استعراضاً لقرارات ومداولات المحكمة العليا في عدة مواضيع مرتبطة بالفلسطينيين وأرضهم، وتقديم نماذج من هذه القرارات مترجمةً للعربية كمادة خام يمكن الاعتماد عليها في فهم منطق المحكمة العليا، في القضايا التي تعمل عليها في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويقدم الكتاب الالتماسات للمحكمة العليا والردود عليها، وتأتي هذه الالتماسات في 6 فصول، وتقع تحت كل فصل عدة التماسات باعتبارها عينةً تمثيلية حول قضية واحدة أو مجموعة قضايا مرتبطة بموضوعة واحدة، وهي الاستيلاء على الأراضي وإنشاء المستوطنات وترسيم الحدود (جدار الفصل) وإدارة الشؤون المدنية في المنطقة المحتلة، وتقييد الحريات والعقوبات الجماعة والديمغرافيا (لم الشمل) والحصار على قطاع غزة.

تظهر أهمية المحكمة العليا، في سياق الحياة اليومية للفلسطينيين بشكلٍ كبير، ذلك لأنها تمتلك صلاحية ممارسة الرقابة القضائية على الحكم العسكري، ولقراراتها انعكاسات مباشرة على حقوق السكان الفلسطينيين وحياتهم. وإذا كان انشغال المحكمة العليا الأساس في قضايا تمس الحياة اليومية، فهذا لا يعني انتفاء تأثيرها في قضايا سياسية، ولو بشكلٍ غير مباشر، مثل قرارها حول مسار الجدار الأمني، أو قضايا تترك أثراً طويلاً مثل استغلال الموارد الطبيعية. رغم ذلك تخبرنا زهر في مقدمة التقرير أن قرارات المحكمة العليا ومدلولاتها لم تترجم للغة العربية، حتى في تلك التي قدم فيها الالتماسات الفلسطينيون أنفسهم.

ومما جاء في المقدمة: "إن قراءة تسويغات القضاة تمكن ليس فقط من فهم كيف وصل القضاة المختلفون إلى ما توصلوا إليه من نتائج، بل كيف تحولت المحكمة العليا في إسرائيل إلى عامل أساس، لا يمكن فصله عن سائر السلطات الإسرائيلية، في الدفاع عن ممارسات إسرائيل كقوة احتلال، والوظيفة التي تقوم بها في إسناد الاحتلال وتحويله من احتلال مؤقت إلى احتلال دائم ومتواصل" (ص 8).

رغم السماح بتقديم التماسات للمحكمة العليا، فقد رفضت غالبيتها الساحقة، بل ساهمت تسويغاتها وتفسيراتها في شرعنة المس بحقوق الفلسطينيين، بحسب المقدمة. وتحولت إلى مرشدةً للجيش الإسرائيلي في حربه ضد الفلسطينيين، وساهمت في قوننة وترشيد عمله، فهي اعتبرت على سبيل المثال معاهدة جنيف غير ملزمة من ناحية قضائية مع إمكانية التعامل معها في قضايا إنسانية عينية، لتساهم في منح الجيش إعفاءً قضائياً، كما أنها تفحص ممارسات الجيش الإسرائيلي من خلال تطبيق القانون الإداري الإسرائيلي، وتستخدم مبدأي المعقولية والتناسبية اللذين تطورا في المنهج القضائي الإسرائيلي (10)، وهذا يعني إتاحة المجال للجيش الإسرائيلي بالعمل، والحق للمحكمة لاحقاً في تحديد ما هو معقول وغير تناسبي. من خلال هذه الجزئية، والجزئيات القادمة، ستتضح المساهمة التي قدمتها المحكمة العليا في تشكيل نظام الاحتلال القائم، والتدخلات التي يمكن اعتبارها تزييتاً للمنظومة.

عند مراجعة الالتماسات المختارة المترجمة في التقرير، يمكن الخروج بعدة سمات أو تصنيفات حول كيفية تعامل المحكمة العليا في القضايا التي تخص الفلسطينيين/ات، مثل تجزئة القضايا والانحياز لمصلحة الدولة أو فحص القضايا من ناحية إجرائية وليس مبدئية، والمساهمة في تشكيل نظام الاحتلال. أما السمة الثابتة في كل القضايا فهي الأساس الأمني، الذي تجده المحكمة اعتباراً فوق كل الاعتبارات، ولا تتدخل فيه، ويكون مقنعاً لها في كل الحالات تقريباً، أما دور المحكمة العليا في البُعد الأمني كما حددته في الالتماسات فهو يتوقف على الرقابة القضائية والتأكد من سلامة الإجراءات القانونية.

اتجهت المحكمة العليا للتعامل مع القضايا المقدمة لها على أساس دراسة كل حالة، ودون النظر في الموضوع بكليته، ولعل أبرز هذه القضايا هي مصادرة الأراضي والاستيطان (الصفحات 19-47)، فقد كانت المحكمة العليا تدرس الجانب الأمني وتسمع كافة التبريرات من جيش الاحتلال في الضفة، وعلى أساسه تتخذ القرار، بدون مراعاة الملكية الخاصة لأصحاب الأراضي، وهذه حالة متكررة في كافة القضايا المعروضة، عدا قضية مستوطنة ألون موريه، التي كانت مقنعة هي الأخرى، إلا أنها اعتبرت اختيار مكان الاستيطان قراراً سياسياً، لذلك أبطلت المحكمة بناء المستوطنة (أقيمت لاحقاً في مكان قريب)، وامتنعت طوال الوقت عن اتخاذ قرار حول البناء الاستيطاني في الضفة الغربية كقضية كاملة. الالتماس الوحيد في الاستيطان الذي نظر إليه بشكلٍ كامل كان قانون تسوية البؤر الاستيطانية الذي سن في الكنيست (38-45)، وتمت الموافقة على الالتماس لأنه من ناحية منظومية كان يعاني من إشكال لكنها تفهمته من ناحية إنسانية، أي حق المستوطنين في تسوية أوضاعهم! لذلك تمت المطالبة بإيجاد صيغة جديدة للقانون تمس بشكلٍ أقل بحقوق الفلسطينيين.

تكرر التعامل مع كل القضايا بشكلٍ منفصل ومنعزل، ففي طلبات لم الشمل المقدمة للضفة الغربية وقطاع غزة (الصفحات 153-164) كانت تفحص كل حالة بشكلٍ منفرد، ولم تصدر حكماً شاملاً في القضية. أما القرار الذي اتخذ بشكلٍ كامل فهو القرار المرتبط في لم الشمل بين الفلسطينيات/ين في الضفة الغربية وقطاع غزة مع الفلسطينيين/ات في الداخل (165)، المفارقة كانت أن ناؤور التي انتقدها سموتريتش كانت من بين الذين أيدوا رفض التماس مركز عدالة المقدم ضد قرار وزير الداخلية الإسرائيلي، وكان الالتماس قد رفض بأغلبية 6 قضاة مقابل 5 وافقوا عليه.

تجزئة القضايا انطبقت أيضاً على جدار الفصل، الذي وافقت المحكمة على النظر في مساره الواقع في الضفة الغربية، لكن بشكلٍ جزئي أيضاً، من خلال المطالبة بتعديل المسار في جزئيات تمس قرى وأراضي معينة بدون النظر في شرعية بناء الجدار، والانتهاكات التي يتسبب بها. وهذا تكرر أيضاً في الالتماسات ضد هدم بيوت الفلسطينيين الذي ينفذون عمليات باعتبار أن الهدف بحسب المحكمة هو "الردع وليس العقاب" (146) رغم إدراكها أن هكذا قرار يمس حياة سكان البيوت. هذا التعامل الجزئي سُحب على ما سمي أمنياً "سياسة عمليات الإحباط الموضعي" (125) وهي عمليات الاغتيال التي نفذت ضد نشطاء فلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية، وهو التماس قدم من قبل اللجنة الدولية لمناهضة التعذيب في إسرائيل، وتم رفضه بدعوى أنه ينبغي فحص كل عملية بصورة منفردة.

أما الالتماسات التي عولجت بصورةٍ جزئية، فكان هناك جزء منها مرتبط بعدم إتمام الإجراءات بصورة مكتملة، لذلك اعتراضها الأساس على جيش الاحتلال هو ضرورة إتاحة المرور في المسار القانوني كاملاً، وتمثل هذا في قرارات الطرد التي نفذت نحو الأردن أو لبنان وقدمت فيها التماسات (73-87).

كما كانت تراعي مصلحة الدولة فوق أي مصلحة أخرى، فقد أقرت اعتقال أسرى من لبنان تحت بند الاعتقال الإداري، رغم عدم ضرورة ذلك، بدعوى أن هذا يمكن أن يساهم في تحسين ظرف التفاوض الإسرائيلي، فقد كانت مدركةً لأثر ذلك على المعتقلين وأشارت لكونه احتجازاً للحرية، لكنها في المحصلة أجازت الاعتقال الإداري، وهذا انطبق على رد التماس احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين أيضاً، التي منحت خلالها المحكمة العليا الحكومة فرصةً لسن تشريع موائم، وأيضاً على قضية النائب أبو عرفة الذي أُبطلت قرار سحب إقامته في القدس، مع إتاحة إمكانية سن قانون يمكن أن يُخرجها بشكلٍ مناسب.

راعت أيضاً المحكمة العليا مصلحة المستوطنين في الضفة الغربية، تحت حجة أن الفائدة تعود أيضاً على الفلسطينيين، مثل رد التماس ضد مصادرة أراض من أجل شق الطرق وتعبيدها، رغم إشكالية القرار والتغيير الذي يحصل على المكان، وهذا انطبق أيضاً على استغلال الموارد الطبيعية في الضفة الغربية، وكان القرار مرتبطا بالمحاجر، باعتبارها منفعة متبادلة رغم أن المحكمة كانت تدرك أن معظم منتوج هذه المحاجر يذهب إلى إسرائيل Valentina Azarova, "Exploiting A ‘Dynamic’ Interpretation? The Israeli High Court of Justice Accepts the Legality of Israel’s Quarrying Activities in the Occupied Palestinian Territory", Ejil: Talk, Feb 7, 2012: https://bit.ly/3nY045m ، وفي كل هذا كانت المحكمة تدرك أن أمد الاحتلال قد طال، وتستبطن التعامل معه على أساس ديمومته.

الالتماس الأبرز الذي كانت قد قبلته المحكمة العليا، كان مرتبطاً بمنع التعذيب الجسدي للأسرى الفلسطينيين في عام 1999 (115)، وفصلت فيه الأساليب المستخدمة، وحكمت بمنع استخدامها، لكنها منحت "استثناء الضرورة" في الحالات التي اعتبرت "قنبلة موقوتة"، رغم ذلك، ووسعت الاستثناء مرةً أخرى في العام 2018 وسمحت باستخدام "الوسائل الخاصة" كما أسمتها من أجل منع العمليات، وأشارت في رد الالتماس إلى "أن نية الملتمس وشركائه لتنفيذ عملية… وحدها كافية لتحقق شرط الفورية وتبرير استخدام الوسائل الخاصة في التحقيق" (124).اعتبر هذا القرار تحدياً من أهارون بارك للمؤسسة الأمنية، لكن في الحقيقة عبر عن تطابقه مع الاعتبارات الأمنية، كما أن إصدار القرار تأجل عدة مرات، رغم إدراكه أن التعذيب ممارسة موجودة ومستمرة ولم تقتصر لاحقاً على "القنبلة الموقوتة" كما أن طبيعة القرار محدودة، يُنظر:
Nimer Sultany, "The Legacy of Justice Aharon Barak: A Critical Review", HARVARD ILJ ONLINE, V. 48 (2007), 85.

خُصص الفصل الأخير من الكتاب/ التقرير لعرض الالتماسات حول قطاع غزة، وقدمت فيه عدة التماسات، من بينها التماس ضد الحصار الإسرائيلي على القطاع، ردته المحكمة وصادقت على الحصار، والتماس يطالب بالسماح للمرضى بالخروج من غزة لتلقي علاج منقذ للحياة، ورفض أيضاً هذا الالتماس، ومنع دخول سكان القطاع إلى إسرائيل من أجل التقدم في المطالبة بالتعويض ضد الجيش الإسرائيلي نتيجة الأضرار التي يتسبب بها، كما عرضت التماسات لحالات سُمح فيها بالخروج من قطاع غزة من أجل تلقي العلاج كحالات استثنائية. أما الالتماس الأبرز الذي يُترجم الكتاب نصه فقد قدمته منظمة "يش دين" ضد لوائح إطلاق النار على المتظاهرين خلال مسيرات العودة العام 2018، ورفضته المحكمة العليا وصادقت على لوائح إطلاق النار، باعتبار أن هدفها حماية مواطنين إسرائيليين. وبالعودة إلى رئيسة المحكمة العليا السابقة ميريام ناؤور مرةً أخرى، ففي تعليقها على هذا القرار لم تعتبر أن المحكمة منحت رخصةً بالقتل، بل أن قرارها متوازن، فقد تمت المصادقة على لوائح إطلاق النار لكنها تركت إمكانيةً للتحقيق في كل إجراء بعد حدوثه، معتبرةً إياه "تصرفاً ذكياً"!Yonah Jeremy Bob, "Ex-chief justice: Court did not give IDF license to kill on Gaza border", The Jerusalem Posts, MAY 27, 2018: https://bit.ly/3rQdEZG
حول الاصابات التي نتجت خلال مسيرات العودة يمكن العودة إلى:
Hilo Glazer, "'42 Knees in One Day': Israeli Snipers Open Up About Shooting Gaza Protesters", Haaretz, Mar. 6, 2020: https://bit.ly/3IEAaeO

يقدم الكتاب مادةً هامةً من خلال نصوص صادرة عن المحكمة العليا الإسرائيلية، يتضح من خلالها كيفية التعامل مع الفلسطينيين/ات في الضفة الغربية وقطاع غزة وأرضهم، ويظهر من خلال الالتماسات مدى مساهمة المحكمة العليا في تشكيل نظام الاحتلال وتوفير الحماية القانونية له، والعمل كمرشدة له في بعض الأحيان، وإعلاء المنطق الأمني طوال الوقت، على حساب حقوق تمس بحياة الناس، بدون النظر لهذا الاعتبار، وهذه الالتماسات فرصة لفهم قوننة العديد من التصرفات الإسرائيلية، خاصةً وأن الالتماسات تقدم نقاشات لبعض القضايا وتحاول بناء تسلسل واستدلال من أجل الوصول إلى الحكم، الذي هو في غالب الأحيان رفض الالتماس.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات