كما في كل تقرير سنوي يخصص "معهد سياسة الشعب اليهودي" جانبا لمسألة الهوية والانتماء لدى يهود العالم، عدا اليهود الإسرائيليين. وبحسب الاعتقاد فإن الانتماء للديانة، على وجه خاص، وبأي مستوى كان، قد يكون مقدمة لاستعداد اليهودي للهجرة من وطنه نحو إسرائيل؛ بينما هذه الجاهزية تتراجع بقدر كبير جدا، لدى من يكتفون بتسمية أنفسهم يهودا من دون أي ارتباط بمؤسسات دينية وثقافية في أوطان اليهود المختلفة في العالم.
واستعرض التقرير سلسلة من المعطيات الصادرة عن استطلاعات تجريها معاهد أميركية تعنى بالشأن اليهودي، في سعي لمعرفة مدى تقارب أبناء الديانة اليهودية لديانتهم، ومن ثم للمؤسسات الدينية والصهيونية، بدءا من مدارس اليهود الخاصة. ومرّة أخرى في هذا التقرير تمت الإشارة إلى ابتعاد الأجيال الناشئة أكثر فأكثر عن الدوائر اليهودية. وبنظر الحركة الصهيونية وإسرائيل، فإن الانخراط في المدارس والمؤسسات اليهودية هو مؤشر ومقدمة لتمسك الأجيال الناشئة بديانتهم، ورغم إثارة هذه القضية بشكل مكثف في العقدين الأخيرين، إلا أن كل الأبحاث والاستطلاعات تدل على تراجع مستمر في نسب المنخرطين في هذه المؤسسات.
وحسب التقديرات الواردة في التقرير، فإن حوالي نصف اليهود لا ينتمون لدوائر ومؤسسات يهودية، وإنما يكتفون بمجرد التعريف اليهودي العام لهم. ووفق تقارير نشرت في السنوات الأخيرة، فإن من بين أسباب ابتعاد الأجيال الشابة عن اليهودية والمؤسسات الصهيونية، هو ابتعاد الأهالي عن هذه المؤسسات وعدم ارسال ابنائهم اليها. فمثلا في الولايات المتحدة الأميركية 25% فقط من اليهود يرسلون أبناءهم إلى مدارس ومؤسسات يهودية، وترتفع هذه النسبة في فرنسا إلى 40%، وفي بريطانيا إلى 60%، وتهبط في ألمانيا إلى 20%، وفي دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى 15%.
ويقول تقرير معهد "سياسة الشعب اليهودي"، إنه بناء على استنتاجات معهد "بيو" الأميركي، من يعرّفون انفسهم بأنهم مجرد يهود، دون الاقتراب من الدين ومؤسساته، يختلفون بقدر كبير عن اليهود المنخرطين بتلك المؤسسات. فمثلا المجموعة غير المنخرطة لا تساهم في المنظمات اليهودية ولا تتبرع لها، ولا تربط نفسها بإسرائيل، أو بالمجتمعات اليهودية في أنحاء العالم. كما أنها لا ترى نفسها مرتبطة بما يسميه التقرير "الشعب اليهودي" ومستقبله.
وجاء أيضا أن الارتفاع الكبير في نسبة الذين لا يرتبطون بالمؤسسات اليهودية الدينية والثقافية والمجتمعية، بات يشكل تحديا للمجتمع اليهودي. وكما يبدو فإن هذا نابع من الاعتقاد أن تلك الشريحة هي الأقرب للخروج من التعريف اليهودي كليا، لأن هذه الشريحة هي صاحبة النسبة الأعلى للزواج المختلط مع ديانات أخرى، وهذا يساهم في تراجع أعداد اليهود أكثر في العالم.
الجانب الآخر الذي يطرحه المعهد هو أن ابتعاد هذه النسبة العالية عن يهوديتها يقلص نسبة التيار الليبرالي بين اليهود أنفسهم، أمام ارتفاع نسبة المتدينين بشكل عام، والمتزمتين بشكل خاص، ما يعني زيادة التقاطب والتناقض في الرؤى.
من خلف كل هذا الفحص المجهري، إن صح التعبير، لوضعية الأميركان اليهود، تقف حسابات الحركة الصهيونية المتعلقة باحتمالات الهجرة إلى إسرائيل. ومعروف أن أعداد المهاجرين سنويا من الولايات المتحدة إلى إسرائيل هامشية جدا، قياسا بأعداد اليهود هناك (4ر5 مليون نسمة)، وتتراوح ما بين ألفين إلى 2500 شخص، ولكن هم النسبة الأعلى من بين المهاجرين عقائديا، بمعنى ليس بدوافع اقتصادية. وبالإمكان القول إن هذا المعدل السنوي يعني أن ميزان الهجرة بين إسرائيل والولايات المتحدة يُعد سلبيا لصالح الولايات المتحدة، استنادا للتقارير الإسرائيلية التي تؤكد أن غالبية الإسرائيليين المهاجرين سنويا، تتجه إلى الولايات المتحدة. كذلك فإن مئات آلاف الإسرائيليين يقيمون لفترات طويلة سنويا في الولايات المتحدة، دون أن يكونوا في عداد المهاجرين.
العلاقة مع يهود العالم
على صعيد العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية والأميركان اليهود، رأينا في العام الأخير نقطتي صدام بارزتين، الأولى كانت في انتخابات الرئاسة الأميركية، فقد واصلت غالبية اليهود المطلقة اتخاذ موقف بخلاف موقف الائتلاف الحاكم الإسرائيلي. والمسألة الثانية هي انصياع حكومة بنيامين نتنياهو لإملاءات الأحزاب الدينية، بفرض شروطها على الصلاة أمام حائط البراق، أو حسب التسمية اليهودية "الحائط الغربي للهيكل"، بما يمنع الإصلاحيين من أداء طقوسهم، التي فيها اختلاط في الصلاة بين الرجال والنساء.
على مستوى الانتخابات الرئاسية الأميركية، ووفق استطلاعات وما أورده تقرير العهد ذاته، فقد صوت نحو 70% من الأميركان اليهود للحزب الديمقراطي، ومرشحته للرئاسة هيلاري كلينتون، بينما نسبة الذين دعموا الرئيس الحالي دونالد ترامب من اليهود، كانت في حدود 24%. وهذا نمط تصويت قائم على مدى عشرات السنين. وفي المقابل، فإن الائتلاف الحاكم الإسرائيلي، وبالأساس حزب الليكود، وتحالف أحزاب المستوطنين، والأحزاب الدينية، كانت داعمة بشكل علني وواضح لترامب ولخطابه المتطرف. وهذا الدعم انعكس في السلك الوظيفي في طواقم البيت الأبيض والرئيس على وجه خاص، إذ أنه اختار مستشاريه اليهود من التيار الصهيوني الأشد تطرفا، والمنسجم كليا مع اليمين الاستيطاني الإسرائيلي، مثل مستشاره الخاص زوج ابنته جاريد كوشنير، والمبعوث الخاص للشرق الأوسط جيسون غرينبلات، والسفير الأميركي في تل أبيب ديفيد فريدمان، بينما تقول تقارير إن تعيين السفيرة في الأمم المتحدة نيكي هيلي جاء بضغط من اللوبي الصهيوني اليميني المتطرف.
ويشير التقرير إلى أن قطاعا واسعا من اليهود الليبراليين شاركوا في الأشهر الماضية في المظاهرات الاحتجاجية ضد ترامب. وهذا ما يعد بشكل واضح اعتراض غالبية الأميركان اليهود على سياسات حكومة بنيامين نتنياهو كزعيم لليمين المتطرف.
والقضية الثانية، المتعلقة بالتيار الديني الاصلاحي، تعود إلى أشهر قليلة ماضية، حينما وضع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو كل ثقله لتجميد الأزمة القديمة المتجددة التي تفجرت بين العلمانيين والمتدنيين، بعد أن وصلت إلى داخل ائتلافه الحاكم، وطالت بقدر كبير يهود العالم، وبالذات أكبر تجمع لهم بعد إسرائيل، الولايات المتحدة الأميركية. فقد اندلع الصدام في أعقاب نجاح كتلتي المتدينين المتشددين "الحريديم" في الائتلاف الحاكم، "يهدوت هتوراة" التي تمثل الحريديم الأشكناز (الغربيين)، و"شاس" التي تمثل الحريديم السفراديم (الشرقيين)، في فتح المجال أمام تشريع قانون من شأنه أن يلغي الحل الوسط، الذي تحول إلى قرار للمحكمة العليا الإسرائيلية، ويسمح بتخصيص مساحة قبالة حائط البراق لتكون مكان صلاة للمتدينين الاصلاحيين، الذين يؤدون صلاة مشتركة للرجال والنساء. وهذا التيار له حضور هامشي في إسرائيل، بينما هو التيار الديني الأكبر بين الأميركان اليهود.
وحسب ما نشر في حينه، فإن ردود الفعل الأصعب على قرار نتنياهو، جاءت من الوكالة اليهودية الصهيونية، ومن الحركات الاصلاحية اليهودية في الولايات المتحدة، التي هي التيار الاقوى نشاطا بين الأميركان اليهود. وقالت صحيفة "هآرتس" إن "كمية ردود الفعل التي وصلت من منظمات مختلفة لأميركان يهود، أوضحت شدة الاهانة. فمعظم اليهود في الولايات المتحدة هم من التيارات التعددية، وحتى المنظمات الأرثوذكسية في الولايات المتحدة تبدي تسامحا أكبر بكثير تجاه التيارات الأخرى، ولا بد انها لا تستخدم كلمات حادة واقصائية جدا، مثلما يفعل الحريديم في إسرائيل".
وحذر الكاتب ميكي جاستين، في مقال له في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، يوم الثالث من الشهر الجاري، تشرين الأول، من أن اليمين الإسرائيلي يقود عملية من شأنها أن تؤدي إلى "قطع العلاقة بين المركزين الكبيرين للشعب اليهودي في إسرائيل وفي الولايات المتحدة. فرفض مخطط الهيكل، ورفض محاولات وجود تعدد ديني، واغلاق مؤسسات الدولة أمام ممثلي اليهودية الاصلاحية والمحافظة، وضع عقبات أمام التهود وسيطرة الأرثوذكسية المتزايدة على الحياة المدنية في إسرائيل – كل ذلك يتسبب لأغلبية الجالية اليهودية الأميركية بالشعور أن إسرائيل لم تعد بلادهم. وتصريحات غاضبة وفارغة من قبل وزراء الحكومة من اليمين تعزز هذا الانطباع فقط".
ويتابع جاستين كاتبا: "في إسرائيل يميلون إلى الاستخفاف باحتجاجات ممثلي الجالية اليهودية الأميركية، لأن هذه يتم طرحها بصيغة حذرة ومحترمة، وليس بأسلوبنا السياسي. لكن الحقيقة هي أن زعماء الجالية يمثلون بدرجة كبيرة العالم القديم الذي يؤيد دولة إسرائيل. لكن في الجيل الجديد لشباب يهود الولايات المتحدة تسمع أصوات أكثر حدة تؤكد أنهم يعتقدون بأن الاهانات الصادرة من القدس اجتازت منذ زمن الحدود، وبأن إسرائيل تحولت من دولة الشعب اليهودي إلى دولة الأقلية الأرثوذكسية".
المصطلحات المستخدمة:
الصهيونية, هآرتس, الوكالة اليهودية, الليكود, بنيامين نتنياهو